القارة العجوز تدفع ثمن تورط حكوماتها في الحرب

حجم الخط
11

لم يعد سرّاً أن انعكاسات المواجهة الروسيّة – الأطلسيّة في أوكرانيا جاءت سلبيّة على القارة الأوروبيّة أقلّه من الناحية الاقتصادية. وتواجه كافة دول القارّة الآن معالم ركود اقتصادي لم تشهده منذ أيّام الحرب العالميّة الثانية (1939 – 1945) ويهدد بالمكوث لسنوات عدة. ولعل متابعة سريعة لنشرات الأخبار وبرامج الفضائيّات في أوروبا تكشف عن شبح يقبع في خلفيّة كل خبر وكل نقاش حول الأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. إنّه شبح التضخّم، حيث ارتفعت أسعار السلع والخدمات بشكل ملحوظ وبتسارع يخطف الأنفاس، فيما تجمدت الأجور تقريباً عند مستوياتها منذ الأزمة الماليّة العالميّة في 2008 على نحو يتسبب في فجوات دخل لا يمكن تغطيتها من قبل أكثريّة المواطنين.
لقد اندفعت دول أوروبا دون تبصّر لدعم العقوبات على روسيا وفق الخطط الأميركيّة لمواجهة غزو موسكو العسكريّ لأوكرانيا بالحصار الاقتصادي. وبعد جولات متعاقبة من تلك العقوبات، وحظر شراء النفط، وتقليص مشتريات الغاز إلى الحد الأدنى، تبيّن أنّ الروس نجحوا في امتصاص الصدمة ونقلوا معظم أسواق غازهم ونفطهم من الغرب إلى الشرق، فلم يخسروا حجم الصادرات بل ربحوا بالمحصلة لأن اضطراب الأسواق الذي أثارته العقوبات الغربيّة تسبّب في ارتفاعات قياسيّة لناحية أسعار الطاقة، في الوقت الذي انتهت الشعوب الأوروبيّة إلى تحمّل تضاعف فواتير الكهرباء والتدفئة والمحروقات مرّات عدّة وهو أمر مسّ بكل منزل وبكل مصلحة عمل على حد سواء، ودفع بالرئيس الفرنسي إلى الجأر بالشكوى علناً بعدما وصل سعر فاتورة الغاز الذي تشتريه بلاده من الولايات المتحدة إلى أربعة أضعاف السعر الذي كانت تدفعه لشراء الغاز الروسيّ.
ومما يفاقم الأمور الآن أن الأميركيين تبنوا تشريعات حمائيّة تمنح الشركات المحليّة أو تلك التي تستثمر في الولايات المتحدة إعانات وتخفيضات ضريبية ملموسة ستجعل من أوروبا خارج المنافسة العالميّة في عدّة قطاعات اقتصاديّة، وستتسبب بإغلاق العديد من المصانع وتسريح ملايين العمّال في كل القارة العجوز. ويحدث هذا كلّه بينما يفترض بالدول الأوروبيّة تحمّل فاتورة دعم أوكرانيا عسكرياً ومالياً – وقيمتها وفق التقديرات حوالي عشرة مليارات دولار شهريّاً -، وأيضاً الاصطفاف وراء الولايات المتحدة في حربها الاقتصادية على الصين بينما الأخيرة هي بالفعل الشريك التجاري الوحيد الذي يمكن أن ينقذ أوروبا من أزمتها الخانقة التي مشت إليها حكومات القارة بعيون مفتوحة.

فقر وجوع ودعارة

بالتأكيد فإن للأوربيين الحق بالقلق من الغزو العسكريّ لأوكرانيا بغض النظر عن مبرراته سواء كانت أحلاماً توسعيّة للقيصر الروسيّ أو استفزازاً أميركياً غير مبرر من خلال جلب حدود الناتو (حلف شمال الأطلسي) إلى بوابة روسيا، لكّن الجليّ أن الاستجابة الأوروبيّة كانت قصيرة النظر، وأقرب إلى إطلاق النّار على قدميها، وستكون لها ذيول طويلة تمس حياة الفئات الأقل حظاً من سكان القارة فيما تغرق أقليّة من القطط السمان، لا سيّما مُلّاك صناعات الطاقة والبنوك والسلاح، في مدّ متصاعد من بحر الأرباح المضاعفة التي جلبتها الحرب.

التكلفة الاجتماعيّة للحرب على الأوروبيين: المزيد من الفقر

تشير تقارير للأمم المتحدة معنيّة بحقوق الإنسان أن نسب أعداد سكان دول أوروبيّة كبرى مثل بريطانيا وفرنسا مثلاً التي تعيش في الفقر (الحد الأدنى للعيش) أوالفقر المدقع (دون الحد الحد الأدنى للعيش) تزايدت بشكل حاد منذ بدء الأعمال العسكريّة بأوكرانيا في فبراير الماضي، توازياً مع ارتفاعات ملحوظة في ثروات القلّة المسرفة الغنى، خاصة داخل المدن الكبرى مثل لندن وباريس وعلى حساب الأطراف.
ووفق إحصائيّات متقاطعة فإن ربع البريطانيين على الأقل – أي حوالي 15 مليوناً – يمكن تصنيفهم بالفقراء، فيما تعترف فرنسا بوجود خمسة ملايين شخص يعيشون تحت خط الفقر فضلا عما لا يقل عن عدّة مئات من آلاف المشردين فاقدي المأوَى في البلدين. ويمكن الزّعم وفق أرقام نشرتها منظمات إنسانية وحقوقيّة بأن حوالي خمسة ملايين طفل بريطانيّ من عائلات فقيرة يعيشون على وجبة واحدة في اليوم، لدرجة أن منظمة الأمم المتحدة لرعاية الأطفال (اليونيسيف) اضطرت لتقريع حكومة المملكة المتحدة بهذا الخصوص في حادثة نادرة بشأن دولة تنتمي إلى مجموعة الاقتصادات السبع الكبرى.
وبالطبع فإن ظلال الفقر هذه امتدت للطبقات الوسطى التي تراجعت القيمة الحقيقية لمداخيلها بشكل مضطرد، وأصبحت بالكاد قادرة على شراء الأساسيات وتسديد فواتير الخدمات العامة. وتشير أرقام شركات تجارة التجزئة البريطانيّة الأحدث إلى تراجع حاد بمعدل يصل إلى النصف أحياناً في مبيعات الماركات الفاخرة، فيما هناك هجرة واضحة من محلات التجزئة الراقية والكبرى إلى السلاسل التي تبيع الأصناف الرخيصة أو المعروضة بخصومات.
ومما يضاعف من آثار الأزمة الناشئة عن الحرب الأوكرانيّة أنّها أتت بعد عقد ميّت اقتصادياً بسبب سياسات التقشف التي تبنتها الحكومات الأوروبيّة بعد انهيار ،2008 ولاحقاً سنوات كوفيد 19 العجاف، ولذلك فإن الاجور الحقيقيّة في بريطانيا أقل منها في سنوات الاضطرابات في السبعينيات من القرن الماضي.

ما لا تقوله الشاشات

في كافة البرامج السياسية والاقتصادية على الشاشات الأوروبيّة حديث لا يتوقف عن التضخم وتراجع قيمة العملات وسياسات التقشف وغيوم الركود الملبدة. وهذه بالطبع مفيدة للخبراء الاقتصاديين وخريجي كليات إدارة الأعمال والتجارة، لكن لا أحد يقرأ ماذا تعني كل هذه للناس العاديين. دعوني أتحدث عن جانب واحد مُغفل.
في بريطانيا العظمى، الإمبراطوريّة التي لم تكن تغيب عن أملاكها الشمس وإحدى اقتصادات العالم الكبرى، فإن مزيداً من النساء يلجأن إلى العمل في مجال بيع المتعة الرخيصة لتغطية نفقات بيوتهن بعد تراجع الدخول بسبب أزمة تكاليف المعيشة. وتقول تقارير لجمعيات لاربحيّة تتابع هذه المسائل بأن كثيرات من هؤلاء هنّ ربّات بيوت إلى جانب الفتيات الفقيرات اللواتي لا يجدن ما يكفي لتسديد إيجارات السكن الباهظة وتكاليف فواتير الطاقة والمحروقات والتعليم والانتقال في المدن الكبرى. ولأن عدد الزبائن أقل بحكم الفقر المتزايد فإن كثيرات من هؤلاء يتعرضن لاعتداءات ومخاطر أكبر نتيجة المنافسة على طلب متراجع مع بائعات الهوى اللواتي تحميهن المافيات. ناهيك عن تفاقم ظاهرة السكن مقابل الجنس، حيث تقبل عديدات لا سيّما من الشابات صغار السن – دفع قيمة إيجار شققهن أو جزء منه عبر تقديم خدمات جنسيّة للمالكين. وفي بلد لا يجّرم العلاقات الجنسيّة التي تتم بالتراضي فإن الإحصاءات الرسميّة تشير إلى أن قطاع الدّعارة ساهم مباشرة – دون حسبان الخدمات الموازية – بما يزيد عن ستة مليارات دولار أميركي يتوقع أن تتضاعف هذا العام نظراً لانتشار الظاهرة بشكل غير مسبوق بسبب الفقر.
وتقدّر جهات متخصصة بأن حوالي ربع بائعات الهوى عدن إلى المهنة القذرة في عام 2022 بعد سنوات من الابتعاد عنه، وأن ارتفاع تكاليف المعيشة – أثر كليا أو جزئيا – في عودتهن. المتوقع بأن الأمر لا يقتصر على النساء وحدهن، إذ أن العمل الجنسي للذكور قد ارتفع في بريطانيا بشكل ملحوظ في الأشهر الأخيرة وبما يزيد عن ثلاثة أضعاف مستوياته في 2019، لا سيّما مع انتشار تطبيقات التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت.
ماذا تفعل الحكومة البريطانيّة في المقابل؟ بينما ترسل لندن عدة مليارات من الدولارات لشراء الأسلحة وشحنها إلى الجيش الأوكراني، تبحث الأجهزة الحكوميّة الآن عن تشريعات ممكنة لا لحماية النساء من غول الفقر الذي يدفعهن لبيع أجسادهن للعابرين، ولكن لتمكينهن من ممارسة الدعارة بأمان نسبي بحماية الشرطة.

غروب الغرب: حرب أوكرانيا بداية النهاية لرفاه أوروبا

تستمر الحكومات الأوروبيّة في سياساتها الانتحاريّة هذه بلا تردد، ويبدو أنّها ستقود شعوبها الخانعة مثل القطعان إلى المذبح من أجل الصراع الأميريكي – الروسيّ، وسينتهي الأمر بفقدان مستويات عيش مرفه طالما استمتعت به تلك الكتل البيضاء على حساب الشعوب الأخرى، ولسان حالها يقول كما قالت نائلة الزبّاء يوماً، «بيدي، لا بيد عمرو».

إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    هذه الحرب في الحقيقة , هي بين روسيا الإتحادية و الولايات المتحدة الأمريكية !
    أما أوكرانيا فهي ضحية بشرية , وأوروبا ضحية إقتصادية !!
    و لا حول و لا قوة الا بالله

  2. يقول تيسير خرما:

    استفزت روسيا العالم بالقرن الماضي بغزو 15 دولة بمظلة إتحاد سوفياتي فحاصره العالم الحر حتى انهار اقتصادياً واجتماعياً وانسحب من 15 دولة وتحجم بالإتحاد الروسي، والآن تعود روسيا للإستفزاز بغزو جورجيا وسوريا وأوكرانيا فتجند العالم الحر بخدمة الأوكران سياسيا وماليا وعسكريا واقتصاديا وإنسانيا كماً ونوعاً بسرعة فائقة وتكاتف فريد لحكومات وبرلمانات وشعوب وشركات بوجه الإتحاد الروسي وصولاً لانهياره اقتصادياً واجتماعياً وتفككه فتستقل مناطق القوقاز وعدة قوميات محتلة وتبعد روسيا عن بحار الأسود وقزوين والبلطيق

    1. يقول منبر الحقيقة:

      لماذا لم يتجند العالم لنصرت العراق والخراب الذي طالها وليبيا التي عاثو فيها فسادا وتركوها تهوم في بحر ضلمات الملشيات والجماعات المسلحة

    2. يقول اسطوانات وغبار:

      اضم رأيي لمنبر الحقيقة.

    3. يقول عمر:

      لماذا لم يتجند العالم عندما غزت روسيا بلدك سوريا

  3. يقول تيسير خرما:

    حل مشاكل روسيا أن يعزل رئيسها وزراءه ومستشاريه وحاشيته وينشيء حكم انتقالي يلغي عقيدة عدوان توسعية ويفكك أجهزة أمن تعادي شعوب روسيا ويحرر معارضين ويتيح حرية تعبير ويوقف دعم دول وميليشيات إرهاب وحركات انفصال وينسحب من أوكرانيا وسوريا وجورجيا ويعوضها ويسلم مجرمي حرب ويمنح استقلال كامل للقوقاز ويعتمد دستور حديث وقوانين تناسب القرن 21 ويجري انتخابات حرة نزيهة برقابة دولية ويعيد روسيا لعضوية مجموعة السبع ولتعاون كامل مع العالم الحر ويخفض حجم وتسليح جيشها للربع ويقصر إنفاق ثرواتها لتحسين معيشة مواطنيها

  4. يقول محي الدين احمد علي:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . الى المحترمة ندي حطيط . هذا ما يحصل في جميع الدول الاوربية خلاف الدول الاسكندنافية حتي الان متمسكة ولكن الأوضاع في منتهى القسوة في أوروبا من غلاء في كل شيء كهرباء طعام بنزين تدفئة والاسعار في زيادة بدون مبالغة كل يوم وفشلت فكرة المواد الغذائية الغير ماركة لجشع السوبر ماركت وانا أتكلم عن البلد الذي أقيم فيه وأصبحت بعض العائلات تتغاضى عن بعض تصرفات الأبناء من البنات عندما البنت تبحث عن زيادة الدخل عن طريق الدعارة السريعة بعيدة عن المافيا والأولاد في المدارس في طابور الصباح تتساقط بشكل ارعب الجميع وهذا لقلة الطعام في الصباح المهم حرب أوكرانيا وقبلها كورونا قضت على الاقتصاد الأوربي والان الشعوب الاوربية عرفت طعم الحروب وحتي الان بالنسبة لهم الحرب غير مباشرة وعندهم هلع من الحرب داخل بلادهم والان يلعنون أوكرانيا ولا ننساه في بداية الحرب ترحاب الشعوب الاوربية بلاجئي أوكرانيا , ونحن الدول العربية في حرب سنين طوال وأوروبا تشجع الحروب في بلادنا بدون رحمة والان السحر انقلب على الساحر . وشكرا

  5. يقول تاريخ حروب الغرب وأتباعهم:

    مقال رائع متعمق وشامل، كنت بحاجة بعد انقطاع وانشغال، لتحليل وملخص لما يجري على الساحة العالمية.

  6. يقول حنا السكران:

    اوروبا تنزف بينما الدول الفقيرة والعربية سحقت تماما

  7. يقول ادم:

    لقد حان الوقت لتحالف الدول العربية قبل فوات الاوان.

  8. يقول Azzam farra:

    الكاتب تناول آثار تلك الحرب على أحد الطرفين (القارة العجوز) وتجنب انعكاسات تلك الحرب على الطرف الثاني وهو روسيا… ويعتبر أن روسيا استطاعت استيعاب الصدمة ويراهن أن أوربا ليس بمقدورها استيعابها.. من السابق لأوانه التكهن بمن سيهزم أولا في تلك الحرب المدمرة.. وفي كلا الحالتين نحن ليس لدينا من نخسره لأننا في الحضيض وتنتظر الضحية أن ينصرف الجلادين عنها قليلاً بالخلاف فيما بينهم

اشترك في قائمتنا البريدية