تحصد إسرائيل مكاسب سياسية جمة داخل البيت الأبيض، من خلال تحالفها مع القادة الأصوليين الإنجيليين، الذين يمثلون قوة سياسية ضخمة في الداخل الأمريكي، وذاك التماهي بين اليمين اليهودي المتطرف واليمين المسيحي الجديد، يجعل الإسرائيليين يطالبون بفرض سيادتهم وحدهم على المدينة، التي يقدسها ما يزيد عن ملياري مسيحي ومسلم، وحوالي 14 مليون يهودي.
وقد أصبح الرؤساء الأمريكيون يسارعون لتقديم فروض الطاعة والولاء للوبي اليهودي، ويدخلون عضوية هذا النادي لنيل الرضى، ولا يخطر ببال أحدهم معاندة طموحات اليهود، والتجمع الصهيوني العالمي، أو معارضة تطلعاتهم منذ اغتيال كينيدي. وهم ينصتون جيدا لتوصيات معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، الذي يشرف عليه «الأيباك» حيث توضع النقاط العريضة لكل رئيس أمريكي جديد، وعليه بعد تأدية القسم، وإعلان الولاء التام لإسرائيل أن يبدأ بتجسيد ذلك، والعمل على تطبيق تلك التوجيهات إذا أراد التجديد النصفي، أو كسب معركة الولاية الرئاسية الثانية.
وهو ما يفعله دونالد ترامب ويسير فيه على خطى بوش الابن، الذي طبّق حرفيا ما جاء من «أوامر» فور تسلمه السلطة، بأن أظهر عداءه للصين وروسيا، وهي من أبرز وصايا المعهد المذكور، وضغط على مصر بسبب موقفها المتشدد من إسرائيل وقتها، كما ضرب العراق وفق تلفيقات كاذبة، بعد حزمة من العقوبات والحصار الخانق. وصرح مثل غيره من الرؤساء الأمريكيين، برغبته في نقل سفارة بلاده إلى القدس. وقُدمت في عهده الاستراتيجية الصهيونية الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط، وشُرحت السياسة الخارجية على لسان الوزير كولن باول آنذاك، وكان من أبرز عناوينها إملاءات للتطبيق وقانون محاسبة سوريا، وبطبيعة الحال دعم إسرائيل التام في قمعها لانتفاضة الفلسطينيين وحراكهم النضالي، وتبرير جرائمها، والتغطية السياسية والدبلوماسية عليها، وتقديم الدعم المالي والعسكري المطلق لها.
الحلف القائم بين الولايات المتحدة وإسرائيل تغذيه نبوءات توراتية وإنجيلية، وهو حلف عسكري وعقائدي، في اعتقادهم أن الله يقاتل لأجلهم وهم «الشعب المختار». وعلى هذا الأساس يفعلون ما يريدون، وتصبح مقاومة الاحتلال جريمة وإرهابا في نظرهم، لأنها فعل شيطاني ضد إرادة الرب، الذي «أعطاهم الأرض الموعودة». وإن كان منهج «الأنظمة الشيطانية» هو ما تتبعه إسرائيل منذ زمن، سواء تجاه فلسطين أو لبنان، وهو التوصيف الذي قدمه أستاذ علم الاجتماع الاسرائيلي باروخ كيمرلينغ، مشيرا إلى أن أساليبها المرعبة في القتل والقصف والتدمير، لا يمكن أن تدور بخلد البشر، أو تُقبل شرعيتها. وعلى نحو مقصود يستخدمون مصطلحات بعينها، من قبيل الإرهاب الاسلامي، ونعت حركات المقاومة بهذه الصفة، وتشويه القضية الفلسطينية، وقلب المعادلات التي تجعل المحتل بريئا، والمدافع عن أرضه إرهابيا. وقد استغلوا إحساس العرب بالهزيمة والفشل في دفاعهم السيكولوجي، ويرغبون في محو سجلات التاريخ وإعادة تفصيله على مقاس السياسات العنصرية، التي تُردد اللازمة المعهودة «نحن لنا حق بهذه الأرض، ولم يكن أحد يقيم هنا»، تكرارا للادعاء الذي قام بالترويج له زعماء الحركة الصهيونية من أمثال إسرائيل زانجويل وثيودور هيرتزل «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وانتهى إلى ترحيل الفلسطينيين من ديارهم، وإقامتهم في الشتات وهم بالملايين في أكثر من دولة إقليمية، وبالطبع لم يأت ذكرهم في «مظلمة القرن» التي خطها نتنياهو وترامب وباركتها أنظمة عربية.
مراكز الضغط واللوبيات الناشطة، تجر السياسة الأمريكية معصوبة العينين تجاه إسرائيل
وهؤلاء استغلوا نبوءات توراتية محرفة، لتشريع وجودهم في فلسطين وأحقيتهم في القدس، وللدفاع عن ادعائهم يقولون بأن الله أراد للعبرانيين أن يأخذوا القدس إلى الأبد، وعملوا على ترويج هذه الرسالة منذ وقت طويل. وهي من السرديات التي دعمت نقل السفارة الأمريكية، رغم أنها ليست مَهَمة اقتصرت على دونالد ترامب، بل هي توصيات كثيرين، من الذين أطلوا منذ عقود رافعين الكتاب المقدس، وناقلين عن كتاب دانيال من العهد القديم، وعن كتاب سفر الرؤيا من العهد الجديد، وتفاعل في هذه الرغبة ساسة البيت الأبيض مع عدد لا بأس به من الإنجيليين الجدد، تماما مثلما فعل بوش الابن في تحديد التاريخ الرمزي لسقوط بغداد، الذي ألبسه لبوسا دينيا، من هذه المرجعية نفسها. والتطورات الحاصلة في أيامنا تؤكد مرة أخرى أن الطرف الاسرائيلي يرفض التعايش السلمي، رغم التزام السلطة الفلسطينية بمسار التفاوض ومراكمتها لما قبلت به منظمة التحرير، واعتبرته في لحظة ما «سلام المنتصرين»، سيرا وراء الأمل الظاهري بإنقاذ بعض بقايا السلطة العاجزة، الأمر الذي استغله الطرف الآخر ووجد فيه سبيلا لتشتيت القضية الفلسطينية، والعبث باتفاقيات السلام، التي أطلقت يد الكيان الصهيوني، لينفذ عملياته العسكرية بذرائع مختلفة، وتسريع نسق بناء المستوطنات في القدس والضفة الغربية. وبشكل مبكر عملت إسرائيل على خلق حلقات متعددة من المستوطنات، حاولت أن تخنق بها القرى العربية، لكي توقف نموها، وبالتالي تحول دون أن تصبح القدس الشرقية عاصمة لفلسطين، خاصة عندما يُقطع الاتصال الجغرافي بين شمال الضفة وجنوبها.
صهاينة الغرب الأمريكي لا يمكن أن يرفعوا ظلم صهاينة الشرق عن فلسطين وعن المنطقة بأكملها فهم في خندق واحد عسكريا وعقائديا، ولا جدوى من انتظار انتخابات مقبلة تأتي برئيس جديد للبيت الأبيض، فالقضية حُسمت مؤسساتيا وأيديولوجيا، من خلال توجيهات مراكز الضغط واللوبيات الناشطة، التي تجر السياسة الأمريكية معصوبة العينين تجاه إسرائيل، حتى أصبح من المستغرب الحديث عن حقوق موازية بين أصحاب الأرض والمستوطنين اليهود. وفي الأثناء، لا دور للهيئات الأممية في قضايا الشرق الأوسط وفي مقدمتها فلسطين المحتلة، منذ أن سحبت الهيمنة الأمريكية البساط من تحت أقدام المجتمع الدولي، وحسمت أمرها بأن ليس هناك أي حضور عملي للأمم المتحدة والشرعية الدولية، في حل القضية الفلسطينية منذ عام 1990 على وجه التحديد، ودأبت في الاعتراض على كل قرارات مجلس الأمن ورفعت الفيتو، في وجه الأطراف الدولية التي تدعو لإيجاد تسوية سلمية. وعندما ينكشف الإطار الأيديولوجي الأمريكي الإسرائيلي، الذي لم يكن ليقبل بحقوق الفلسطينيين، على العرب أن يلتفوا حول قضيتهم المركزية ويتداركوا مسارات تخاذلهم، وما انتهى إليه مصير الشعب الذي يتم ازدراء حياته بشكل مشين بعد أن تُرك وحيدا لا يسمع نداءه أحد ولا يصل صوته إلى مسامع أحد .
كاتب تونسي