ديون أمم الجنوب: استعمار حديث بأدوات مالية

تردد الطبقة السياسية والثقافية في أمم الجنوب مقولة شهيرة تقول «خرج الاستعمار من الباب وعاد من النافذة»، وتعني بها بعض أبناء الوطن الذين يحنون لمرحلة الاستعمار، ويستمرون في خدمة مصالحه والحفاظ عليه. وإذا كانت هذه الظاهرة موجودة وبدأت تتلاشى بحكم الابتعاد عن فترة الاستعمار بعد الحصول على الاستقلال، إلا أنها تستمر بصيغة أخرى وأخطر وهو ارتهان الدول المستقلة من الجنوب، للقروض التي فرضت عليها تحت مسميات مختلفة مثل التنمية. باستثناء القلة، تعاني معظم أمم الجنوب بمفهومه الجيوسياسي، وليس التصنيف الاقتصادي التبخيسي «العالم الثالث»، من ديون مرتفعة تعادل إنتاجها القومي الخام، وأصبحت هذه الأمم في خدمة مؤسسات مالية مثل صندوق النقد الدولي، وصارت هذه الديون بمثابة سيف ديموقليس يحول بينها وبين التنمية.
ومن ضمن عوامل عدم انخراط أمم الجنوب في قطار النهضة، الذي بدأ منذ قرون، يوجد عاملان، الأول، وهو نهب الثروات التي مارسها الاستعمار الأوروبي في مختلف مناطق آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية، ثم انفرد الغرب من دون إشراك الآخرين بآليات التطور ومنها، المعرفة العلمية، وهي الظاهرة التي ما زالت مستمرة في وقتنا الراهن في صناعات متعددة ومنها الدواء، تحت مبرر حقوق الملكية، هذه الأخيرة التي تعتبر من أخطر العراقيل ضد التنمية. وهكذا، تعيق الديون تنمية البلدان النامية بأشكال مختلفة، مما يؤثر على قدرتها على الاستثمار في القطاعات الرئيسية التي يحتاجها الوطن لتحقيق قفزة نوعية، وفي الوقت ذاته يحرمها من أدوات رئيسية، لمواجهة الصدمات الاقتصادية مثلما وقع خلال أزمة كوفيد 19، وقبلها الأزمة الاقتصادية ما بين سنتي 2008-2012. ونقدم مجموعة من الإحصائيات والمعطيات الصادمة حول الآثار السلبية والخطيرة على أمم الجنوب.
في هذا الصدد، نجد كعامل أول، أن أمم الجنوب تنفق نسبة ليست ضئيلة لخدمة الديون، ففي عام 2023، دفعت غالبية أمم الجنوب، ومنها الفقيرة جدا، ما مجموعه 89 مليار دولار، فقط لخدمة الدين الخارجي، بمعنى الفوائد والتأخير في تسديد الديون بعد جدولتها. وهذا الرقم مرعب إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذه النسبة لم تكن تتجاوز 30 مليار دولار سنة 2013. وهكذا، تضاعفت خدمة الديون بينما لم يتضاعف الإنتاج القومي الخام ثلاث مرات، بل تراجع بسبب جائحة كوفيد، وإذا ارتفع حجمه فيكون في الغالب بسبب نسبة التضخم أكثر منها نسبة النمو الاقتصادي. وفي معطى آخر مقلق ولافت، تستخدم أكثر من 50 من أمم الجنوب 10% من الإيرادات العامة لدفع فوائد الدين فقط، وهو ما يتجاوز الإنفاق المشترك على الصحة والتعليم في بعض الدول الفقيرة. بطبيعة الحال، تحدّ مستويات الدين المرتفعة من قدرة معظم الحكومات على الاستثمار في البنية التحتية مثل، الطرق والسكك الحديدية والخدمات العامة ورأس المال البشري مثل، تطوير الجامعات والبحث العلمي. وهذه هي العناصر الرئيسية للنمو الاقتصادي، ونظرا لحاجيات الشعوب، تحدث انتفاضات واضطرابات اجتماعية وسياسية، بسبب عدم قدرة الحكومات على تلبية مطالب شعوبها. ومن المظاهر السلبية الأخرى، عندما تعتزم شركات من الغرب الاستثمار في دول الجنوب الفقيرة عادة ما تطلب ضمانات من مؤسسات مالية مثل صندوق النقد الدولي، لتجنب ما تعتبره المخاطر المالية، الأمر الذي يزيد من ثقل الديون.

تحد الديون بشدة من فرص التنمية من خلال تحويل الموارد الأساسية إلى خدمة الديون، وتقييد الاستثمارات الحيوية وزيادة الضعف الاقتصادي والاجتماعي

وتتفاقم الديون وخدمة الدين عندما تقع أزمات كبرى، سواء في الدولة الواحدة عندما ينهار اقتصادها، أو عندما تقع أزمات كبرى مثل، الأزمة التي رافقت جائحة كوفيد، إذ تصبح معظم أمم الجنوب ذات قدرة محدودة، إن لم تكن منعدمة لمواجهة هذه الكوارث، ما يرفع من خطورة غياب الاستقرار. والأخطر، تزيد أسعار الفائدة العالمية المرتفعة من تكاليف خدمة الديون، لاسيّما تلك التي تعتمد على التمويل الخارجي. وباختصار، تحد الديون بشدة من فرص التنمية من خلال تحويل الموارد الأساسية إلى خدمة الديون، وتقييد الاستثمارات الحيوية وزيادة الضعف الاقتصادي والاجتماعي.. وتترتب عن الديون التي تثقل عاتق أمم الجنوب ثلاث ظواهر وهي:
في المقام الأول، الديون في حد ذاتها والخدمة المالية لهذه الديون تتحول إلى أكبر مسبب للاضطرابات الاجتماعية وما يترتب عنها من عرقلة التطور الديمقراطي وجودة الديمقراطية، في الدول التي قطعت أشواطا في تأسيس الديمقراطية. فقد عرقلت الاضطرابات الاجتماعية الناتجة عن ضعف الميزانية الناتجة بدورها عن ثقل الديون، المسار الديمقراطي في عدد من الدول الافريقية وفي عدد من دول أمريكا اللاتينية.
في المقام الثاني، معظم القروض تمنحها مؤسسات يسيطر عليها الغرب، وعادة ما تشترط هذه المؤسسات إصلاحات اقتصادية، تصب في ضرورة خوصصة الدولة عددا من القطاعات الأجنبية، لصالح شركات غالبا ما تكون متعددة الجنسيات، وأحيانا تشترط ضرورة تبني سياسة معينة مثل، دعم الدول الغربية في الأمم المتحدة. وكل دولة تخلصت من القروض الأجنبية، أو جعلتها أقل من 20% من إنتاجها القومي الخام، نجحت في استعادة سيادتها السياسية في المنتديات الدولية.
في المقام الثالث، تدفع الحاجة إلى توليد النقد الأجنبي لسداد الديون الخارجية بعض أمم الجنوب، التي لا تتوفر على صناعات متقدمة إلى السعي باستمرار إلى زيادة الصادرات، وأساسا الصادرات الزراعية والثروات الوطنية مثل المعادن. وهكذا، تصبح سلطات بعض أمم الجنوب في خدمة تغذية الأسواق الخارجية وعلى رأسها الغربية، وتفويت ثرواتها إلى الشركات الأجنبية وتفقد السيادة عليها.
وتوجد مقترحات لحل أزمة الديون ولو بشكل نسبي وكيفية التعاطي مع الديون المستقبلية بحكم أن الكثير من أمم الجنوب لا يمكنها التخلي عن القروض، سواء لخدمة الديون السابقة أو التي ستطلبها بحكم الضرورة. في هذا الصدد، اقترحت مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي التخفيف الفعال للديون من خلال عمليات إعادة الهيكلة السريعة، ثم زيادة التمويل الميسر والمنح الدولية، إضافة إلى التخفيض المستدام لنسبة الدين في الناتج المحلي الإجمالي، لتحرير الموارد للقطاعات ذات الأولوية. ورغم هذه الوصفة، تبقى الدول في الجنوب تحت رحمة المؤسسات المالية الدولية التي تتبع الغرب. للهرب من المؤسسات المالية، تقترض عشرات الدول من الصين، بنسب فائدة ضعيفة، إلا أن بكين تفرض في حالة عدم السداد الحصول على بعض ممتلكات الدولة مثل المطارات والموانئ والمناجم.
ويبقى الحل الأنجع والطريق الأمثل لمعالجة هذه الديون، هو محاسبة أمم الجنوب للغرب على الجرائم التاريخية إبان الاستعمار ومنها، القتل ونهب الثروات، وتكون هذه الديون جزءا من التعويض. بعض الدول الآن تعوض الهنود الحمر، مثل حالة كندا والولايات المتحدة، وتعويض الغجر في حالة بعض الدول الأوروبية، ولماذا لا التعويض عن جرائم الاستعمار!
كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتور جمال البدري:

    رمضان مبارك عليك أخي المحترم حسين مجدوبي: صدقت إنه الاستعمار بأدوات ماليّة…كان هذا النموذج السلبيّ في
    القديم بأنْ يُستعبد البشر؛ فلا تُطلق حريّة العبد؛ إلا بعد دفع ما عليه من ديون أو مقابل من المال المعدود…لهذا قد
    أصبحت الحريّة قرينة المال الحاضر أو المفقود.وأعلى درجات العبوديّة كانت في { الرّبا } الذي قصم ظهور العالمين…
    ولعلّ من أظهر دلائل الاستعمار الحديث بأدوات ماليّة: احتلال قناة السويس بسبب ديون الخديوي يومذاك؛ وعدم
    قدرته على تسديد ديونه لبريطانيا ولفرنسا…حتى عادت حرّة بعد قرار تأميم قناة السويس من قبل الرئيس جمال عبد
    الناصر. وقيل إنّ المساعدات الصينيّة الضخمة لسيرلانكا ( سيلان ) وعدم قدرتها على السداد للتنين؛ قد جعلها اليوم تحت الهيمنة الكاملة كالاستعمار من قبل الصين.

  2. يقول كريم المغرب:

    أزمة المديونية كبير وكبيرة جدا ولا تزال بعيد جدا عن الحل أو حتى التفكير في حلول فالمفارقة أن تسمع بين الفينة والأخرى في نشرت الأخبار الرسمية أن الحكومة نجحت في الحصول على قرض من البنك الدولي أو صندوق النقد أو الدولة الفلانية ويتم تقديم الخبر في النشرة الإخبارية وكأنه إنجازا كبيرا للحكومة .

اشترك في قائمتنا البريدية