القصة السير ـ ذاتية في كتاب «تحفة السهران» لمحسن الرملي

إن السمة الغالبة على سرديات الرملي بالإضافة إلى جملة اعتبارات أخرى، أنها حكايات شخصية ينبوعها الذاكرة، وتأخذ شكل السيرة من الناحية المضمونية وبالأخص، حينما يجد القارئ سلسلةً من القصص عن طفولة الكاتب ومراهقته وشبابه، وكثيرا ما يعلو فيها صوت الكاتب من خلال الشخصية الساردة. غالبا ما تكون الأنا هي الساردة، لكنّه ـ الكاتب، حتى مع كونه ساردا عليما في أحيان أُخر، فإنه يتحدث عن نفسه وما أحاط بها في تلك السرديات وقد انعكست تلك الشحنات العاطفية المترسّبة في الذاكرة عبر لغته السردية، ومنحتها تلك المرونة الفائقة، مشوبةً بالدعابة والمواقف الفكاهية، فهي لغةٌ ذات حيوية عالية اكتسبتها من قدرتها على الانفلات والانطلاق في توظيف اللامتوقع من أبيات شعرية، أو مواويل أو أقاويل وغيرها من المقبوسات، إذ لا حدود لقابليتها على التوظيف والإحالة، فليس هنالك قالب جُملي معين يهيمن على جملته السردية، ويحد من زئبقيتها، ولذا فإنها تميل إلى التدفق مدفوعةً بتلذذ الكاتب في سردياته، قبل التفكير بتلذذ القارئ.
سرديات الرملي تنحو في اتجاه التوثيق، خصوصاً في تلك القصص التي يتحدث فيها عن القرية وعمريّ الطفولة والمراهقة كما في مجموعته «برتقالات بغداد وحب صيني» ويمكن ملاحقة مثل تفصيل كهذا في إسبانيا التي تخلّلت قصصا كثيرة بمدنها وتاريخها، إذ هو مقيم في إسبانيا، وقد طعّم قصصه بمناخاتها وشخصياتها ورموزها وطبيعتها، وهو ما يترك شيئاً من الجاذبية والدماء الجديدة تضيء من داخل الثيمات، وتتخلل تلك القصص أو الحكايات الشخصية الكثير من النصوص المختلفة، إلا أن الذي يطغى فيها هو صوت الكاتب إذ يتجلى واضحاً في الكلمات.
إنها قصص سير ـ ذاتية في أغلبها، وهناك تلك القصص التي تضم مجموعة حكايات في سياق حكائي أعم، ولا ندري ماذا يمكن أن نطلق عليها، لكنّها بلا شك مجموعة قصص في قصة واحدة مثل قصة «التلفزيون الأعور» وقصة «برتقالات وشفرات حلاقة بغداد» من مجموعته الأولى، حيث ينتهي سرد كل واحدة من تلك الحكايات الغائصة عميقا في لاوعي الشخصية، بينما يجري من الأعلى الخط السردي لحكاية ترتبط بالشخصية أو الموضوعة برابط معين، وما إن تتوقف الحكاية الجامعة لتلك التفرعات القصصية، تعالَج جميع تلك الحكايات في الوقت نفسه.

تميل قصص الرملي إلى كونها حكّاءةً أو راوية أكثر من كونها ميّالة إلى معالجات القضايا الكبرى والصغرى، والظواهر الثقافية والاجتماعية وغيرها، وهذا لا يعني أنها تخلو من ذلك النوع من القصص لكنّها لا تميل إليه وقد يجذب هذا الأسلوب بعضا من القراء، وينفّر آخرين ممن اعتادوا أو لديهم قناعات معينة عما ألِفوه في القصة القصيرة.

وهي ممتعة لكونها مكثفة وغنية ومتنوعة وغريبة، كأن تتحدث عن شفرات الحلاقة والمواقف التي تكون فيها مع الناس، حيث شفرة الحلاقة هنا تأخذ دور البطولة، أما الشخصيات والمواقف التي توضع فهي أدوار لازمة وليست سببية، فهدف الشخصية/ الرجل في قصة الشفرات وهو يركب السيارة لإنهاء معاملة معينة، في جو حار وتعرق كريه في ظهر صيف بغدادي، هو كيف سيجمع شفرات الحلاقة ومواقفها مع الناس في قصة، فيبدأ استدعاؤها من الذكريات، مرةً من مرحلة الطفولة ومرة من أيام الجيش إلخ. فيكتشف القارئ أنه صنع قصة عن الشفرات من خلال تفكيره بصناعة قصة عنها داخل عقل الشخصية، التي يعلو فيها صوتُ الضمير المتكلم. الاعتماد على الذاكرة والذكريات له إيجابياته وله سلبياته أيضا، من جانبٍ منحها طابعا حميميا لكونها تلتصق بوقائع شخصية حميمة من جهة الكاتب، ومن جهة القارئ المحلي الذي ألِف هذه الحكايات، وهي جزء من ذاكرة مشتركة، فمرةً تشدّه ومرةً تبعده لكونها مألوفة بالنسبة إليه. لكنّها بلا شك تلك المحلّية التي تخضبت بها حكايات الرملي، طاقة انفجارية لعوالم غريبة، بالنسبة للقارئ المولود بعد أجيال وللقارئ غير المحلّي، الذي لا يرتبط مع الكاتب برباط البيئة والتنشئة والذاكرة، إذ ليس هنالك جامع سياسي أو اجتماعي بينهما. يشبه الأمر إلى حد ما قراءة قصص عن الريف الهولندي، أو الأمريكي أو أي موضع جغرافي بعيد ومعرفة أسماء جديدة للأشجار والزروع والحيوانات، وغير ذلك من التفاصيل. وهو طريق اتبعه فنانون مختلفون في فنهم من خلال سلوك المحلية للوصول إلى العالمية.
وعلى وجه العموم تميل قصص الرملي إلى كونها حكّاءةً أو راوية أكثر من كونها ميّالة إلى معالجات القضايا الكبرى والصغرى، والظواهر الثقافية والاجتماعية وغيرها، وهذا لا يعني أنها تخلو من ذلك النوع من القصص لكنّها لا تميل إليه وقد يجذب هذا الأسلوب بعضا من القراء، وينفّر آخرين ممن اعتادوا أو لديهم قناعات معينة عما ألِفوه في القصة القصيرة. ويصح القول على ما ورد في «تحفة السهران» إنها حياة الكاتب منثورةً على شكل حكايات لتخبرنا ما حصل ضمن حقب زمنية ترتبط بعمر الكاتب وفي مضمون هذا الحكي، يتلقف القارئ أحداثا سياسية واجتماعية ودينية أحيانا تخص تلك الحقبة، كما في قصة «التلفزيون الأعور» وفي قصص أخرى. وعادة ما يجمع هذا اللون السردي بين المتخيل والعجائبي والواقعي، ولا يسهل على أيٍ كان تطويعه وجعله مقبولاً في سياقات القصة القصيرة. كما نجد هناك حضورا لافتا للمرأة بين شخصية الأم والحبيبة وشخصيات أخرى، حسب مواضعات الحدث، فهي سيرة ذاتية للذاكرة بتنوعاتها لا لشخصية بذاتها، دون إفراط في الوصف أو تفريط به.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية