كانت القصة القصيرة العراقية في مراحل تطورها اللاحقة، لتكون متفردة ومميزة في عالم القصة القصيرة العربية.. ومن تلك السمات والمناحي ما يأتي:
استلال المسرودات من القاع
لعل واحدة من بوادر الصحوة السردية تتمثل في استدعاء المسرودات واستلالها من قاع المجتمع، حيث الفئات الشعبية المقهورة من خلال منظورات ذات رؤية من الخلف، أو من الداخل مجاورة أو مصاحبة. ونادرا ما تكون الرؤية بوصف خارجي، وقد تغدو الرؤية موحدة ناجمة عن الارتفاع بالرؤية إلى درجة يتلاشى فيها صوت السارد في صوت الشخصية، بحيث يصعب التمييز بينهما في كثير من الأحيان ينظر (بناء الفني ج1). ولم يلجأ القاص الى توظيف السخرية في هذه المرحلة، ولعل ما حمله هذا القاص من هم واقعي ووجودي، هو السبب الذي جعله لا يكترث بأسلوب السخرية، ولا يولي الهزل بالا أصلا. وليس ذلك بالأمر الغريب إذا علمنا أن القاص في هذه المرحلة هو قاص ملتزم في الأغلب، ولذلك لا تتعدى البطولة السردية عنده الجدة بحساسية تجعل السارد لا يسخر من مسروداته ولا يحتقر صفاتهم، ولا يشمت بتصرفاتهم. ومعلوم أن استيعاب القاص لتيار الوعي له دور مهم في ذلك.
من هنا غدت النهايات السردية في الأعم الأغلب سوداوية، بالسقوط والانسحاق والقهر، وهذا ما جعلنا نذهب الى أن السرد العراقي كان قد جاء من وقع أنين رحى فطومة، بطلة عبد الملك نوري التي جعلتها تابعيتها للآخر، تعطي بلا حدود فلا تأخذ مقابله إلا أنينا، ليس لها معه عزاء سوى أن ترفع عينيها للسماء. وصحيح أن روح النكتة حاضرة في ذهن الفرد العراقي، وهي جزء من واقع أراد القاص تصوير جانبه الشعبي تصويرا فوتوغرافيا، بيد أن الاعتبارات الفكرية في الإحساس بالشخصية وإحساس الشخصية بحالها وإحساسها أيضا بمن حولها هو الذي جعل السردية القصصية سردية حساسة فيها مجال للألم بقدر ما فيها من مجال للانبساط الذي لن يخلو من كتمان وأنين، سيحول مجرى الحبكة تنازليا نحو الألم. وهذا نوع من التعاطي الفني مع حال المغمورين والمهمشين من عامة الناس الحالمين والمأزومين بالشكوى والقهر والظلم والاستغلال، والواعين بقدر كبير لما في الحياة من استيحاش، والسبب لؤم الإنسان لأخيه الإنسان، ومرارة الصمت أمام الجهل والقسوة. هكذا أحسَّ القاص في النصف الأول من القرن العشرين بالشخصيات، ناظرا لها وهي تقطن عند حواف المجتمع، راسما لها صورة قدرية، هي بالتأكيد ليست كاريكاتيرية. ومرد الأمر إلى هذا الوعي الحاد الذي امتلكه القاص وهو يعبر عن أزماتها. ولأن هذا القاص لم ينتقص من شخصياته بالسخرية منها، لذلك لم يقع في سوء الفهم لها، وكأنه يضع نفسه موضعها. وإذا علمنا أن الانحدار الطبقي لاكثر القصاصين العراقيين ينتمي إلى الطبقة الوسطى، لعلمنا حجم المعاناة التي يعيشها هذا القاص وهو يحاول تصوير عسر الحياة وانسحاق الحيوات المقهورة فيها، وتصوير ما تلاقيه من الشظف والفاقة، كاشفا خبايا ذواتها المنهكة ونفسياتها المكدودة.
ولعل هذا الأمر هو الذي جعل القصة القصيرة أقدر من الرواية على تحسس الواقع برومانسية وفردية جنبا إلى جنب التعبير الواقعي الثوري، ناهيك عما للقاص من سمة لا تتوفر في الروائي، وأعني سمة الحساسية الإدماجية التي هي عادة ما تكون فردية ورومانسية، وهما الخصلتان اللتان لا بد للروائي أن ينأى بسارده عنهما أيا كان نوع هذا السارد. وخير دليل على ذلك أننا لو أجرينا مقابلة بسيطة بين شخصية وظفت في الرواية، ثم وظفت في القصة القصيرة لوجدنا أن تعامل القاص مع تلك الشخصية سيكون أكثر حساسية من تعامل الروائي، ليس لأنها وحدها في السرد، لذلك تتفرد بأزمتها أمام القاص وحسب؛ بل لأن القاص أيضا لا يفكر إلا فيها غائرا في دواخلها مستجليا مظهرها، مدركا منظورها للزمن الذي هو مكثف، حيث لا مجال للاستطراد والتعميم، ولا مكان للإطالة والزيادة سواء كانت الشخصية رجلا أو كانت امرأة أو طفلا، كما لا فرق في ذلك أن تكون الشخصية المسرودة حيوانا، أو آلة، لأن السارد سيعاملها معاملة الذات الإنسانية في وعيها ولاوعيها، بالانطلاق من حساسية القاص الإدماجية في الانتقال بين المراحل الثلاث للقصة القصيرة وهي (العرض والنمو والعنصر المسرحي).
وعادة ما تتموقع الشخصيات النسوية في موقع حبيب إلى نفس القاص العراقي، فتكون مرصودة بقصدية سابقة، والسبب ما فيها من سمات مؤسلبة كونها حيوات مغلوبة مكتوبا عليها التبعية والخضوع وقدرها أن يكون الاستغلال والجهل والتبعية والسكوت والكتمان هو مصيرها. وهي في العموم ضحية الرجل الذي أرادها سلعة تشبع الرغبة. وإذا ما تمردت المرأة على جهلها أو تبعيتها فإن مصيرها واحد وهو الإقصاء والنبذ، الذي هو شبيه الموت، أو هو نفسه ليكون ثمن حقيقتها غاليا، لا فرق فيه أن تكون المرأة أُمّا أو زوجة أو بنتا أو عشيقة. ولهذا صورها قاص النصف الأول من القرن العشرين، حاملا تتعسر ولادتها، وأما تضحي في سبيل ولدها وزوجة تهضم حياتها كمدا، وبنتا تكابد نفسها أحلاما ضائعة، وعجوزا يقهرها الجحود، وعشيقة عليها أن تظل مومسا تعاني حريتها، أو عانسا لا يفرق الزمن معها، أو اختا يقتلها الأقرب لها، وهكذا تتحول الأنثى إلى قصة قصيرة لها جمهور، لكنه ليس متحلقا حول قبس نار، وإنما هو مشتت في ضوء النهار، لتكون منفردة لوحدها وهكذا تلائم القصة القصيرة في قالبها هذا النموذج من نماذج الحياة.
وإذا كانت الشخصيات الذكورية معرضة دوما للاضطراب النفسي والاحتدام العاطفي، فإن الثورة والوهم والحنين والتناقض والتغيير والرهبة والعشق، هي السمات النفسية التي تجعل منها توليفا إنسانيا تختصره كلمة (أزمة) ليكون المذكر محورا في تصاعد الحبك وتشابك الأحداث وتعقدها وقد تناغم معه الزمن استرجاعا لذاكرة، أو استباقا لنبوءة.
القصة القصيرة والقاص القلق
لا غرو أن تغاير البنى السردية هو الذي جعل قالب القصة القصيرة يتطور باستمرار، فلم يثبت عند اتجاه واقعي واحد وهذا سبب مهم من أسباب تميز القصة القصيرة العراقية عربيا، فلم تركن إلى الحكاية أو تثبت عندها، كما حصل للقصة القصيرة المصرية التي ظلت تراوح في مكانها والزمن يتقدم عليها. لقد راهن القاص العراقي على تجاوز السياق القصصي، وظل في توق دائم إلى التغاير، ولذلك ظهر محمد روزنامجي مفتتا ما بناه مجايلوه من مكونات سردية، متجاوزا الواقع إلى انتهاج الوجودية ومغايرا التأثر السايكولوجي بتيار الوعي بالسينما وتأثير الوصف الخارجي الموضوعي، متاخما منطقة جديدة على القصة القصيرة العربية عموما، محاولا الخروج من عنق الزجاجة الواقعية، واقعا في قمقم المارد الوجودي منتقلا من الفوتوغرافية إلى السيمية.
ولم يتوان قاص هذه المرحلة من مراجعة ذاته باستمرار وهذا ما يبيح لنا أن نسمي هذا القاص (القاص القلق) فهو يكتب بقوة لكنه سرعان ما ينكمش وهو يواصل مع ما سبقه، لكنه يفترق أو ينقطع عن مجايليه ثم نجده يواصل وقد يتشاكك مع الخط العام وقد يتشاكل عليه. والملاحظة المهمة رغبة قاص هذه المرحلة على التفاعل والامتزاج بالقصة العربية من خلال الحرص على نشر نتاجه في بلدان مثل لبنان ومصر، محاولا اختراق العزلة المضروبة على كل بلد عربي عن الآخر، متواصلا مع القصاصين العرب حافرا بذلك اسمه في مجلاتهم. وإذا كان القاص قلقا فذلك هو سبب تميزه عربيا كون القلق لا يمنح صاحبه إلا مزيدا من اللاتشاكل واللااستنساخ، منتجا ما هو منحرف ومختلف، بسيرورة إبداعية غير نمطية، متكدرة لكنها واعية وذاتية لكنها بانورامية. وما قلق القاص إلا قلق البذر والتكوين وقلق الوجود والوعود قلق الشوط العابر والمهرب ولهذا لامست بعض القصص القصيرة التقنيات بطريقة ريادية وانتقلت قصص أخرى بالواقعية نقلات نوعية وتمخضت عن بعض القصص بوادر فنية لم يسبق لغيرها أن طرقته. وهذا ما ينطبق على عبد الملك نوري في سارده العلام، وفؤاد التكرلي ومهدي عيسى الصقر في تداعيات مسروداتهما ومحمد روزنامجي في مناحي وجوديته وسينمائيتها. وما هو جديد في القصة القصيرة التي كتبها القاص القلق في منتصف القرن العشرين إنها ما زالت ذات آفاق أوسع ومديات أعمق مما هو منظور منها. وقد يفسح لنا الجديد في عالم المنهجيات والمستجد من النظريات أن نقف على خطوات ريادية دشنها هذا القاص، ضامنا بقلقه النجاح مضيفا إلى القصة القصيرة العراقية تجارب ليست عابرة البتة.
وإذا كان فرانك أكونور قد أعلن أنه أكثر استعدادا لقبول موت الشعر والمسرح من موت الرواية والقصة القصيرة في ظل حضارة ليست دهماء، «الصوت المنفرد»، فإننا نقول إن حظوظ القصة القصيرة في أن تتجدد هي أكثر من حظوظ غيرها من الفنون. لأن الحضارة حتى لو كانت دهماء فإن القصة القصيرة ستكون قادرة على العيش والتكيف، قابضة على السرد الذي كان قد قبض بدوره على التاريخ والحقيقة واللغة والإنسان.. فطوبى لهذا الفن ومجدا لكتّابه.
٭ كاتبة عراقية