عندما نكتب قصة قصيرة جداً، فنحن نشيّد بانوراما متعددة الأوجه والسطوح، لكل وجه نثار جمالي، ولكل سطح عمق مناوئ له. عليه ينبغي تحليل القصص القصيرة جداً على ضوء متجهات القص الموجز، الذي ملخص رؤاه الفنية أن تكون الجملة لقطة موجزة لفكرة لها دلالتها المستقلة، ولها اتصال يمسك بها بعلاقة باطنية مع ما قبلها وما بعدها، حتى إن كانت جملة افتتاح أو جملة ختام. تُرى أتحققُ نصوصُ السرد «الاغتيال الأزرق» و «لحاء الطباشير» لواثق الجلبي إجادة خاصة لشروط تعدد مستويات اللغة السردية للقص الموجز؟
أولاً: لذة المبهم
ثمة إبهام لذيذ يغطي جميع مسرودات واثق الجلبي، ويمكن التمثيل لهذا بقصة «وجهة الشقوق».. سنحلل أذيال هذه الشقوق على أساس أنها تلتمّ إلى قطع من ومض يوحي بآلية البحث عن القص، كونه صناعة للذة القراءة. يرد في القصة الآتي : «استطاع ظهره ان يستوي على الماء ورجلاه المدمنتان على المشي أن تعبئا آخر قطار.. أمضى نصف عمره بالترقب، فاستطاع أن يمسك بخيط الظلام المنبعث من صدره المشقوق.. ظل منحنياً عليها بأقدام مطمئنة وشيء من حنين إلى الأشجار التي لا تبدي غضبها على نزقه غير المعهود.. في تعداد الإنسان كان صفراً، لكنه كان رقماً صعباً في تعداد الطيور.. استحال إلى قطرة ماء تحمل ألف شكل وصورة، لم يشربها النمل بل رمى بها نحو السماء فلم يسقط منه قطرة».
أ ـ الشق الأول: وجوه المبهم
إنه شق شبه غنوصي خاصة عبارة (استطاع ظهره أن يستوي على الماء ورجلاه المدمنتان على المشي أن تعبئا آخر قطار..). وبما أن مستحيلات الفكر قد تتعارض أحياناً مع دلالات الفن، فإن هذا المقطع فيه وجهان، لكل وجه قصة..
ـ الوجه الأول يبوح بومضة تقول «فتى كالحلاج يمشي على الماء بظهره، وقدميه تسرع في اختزال العمر الذي يركض مثل قطار».
ـ أما الوجه الثاني فيقول «فتى قرصته الحياة حتى صار خفيفاً مثل غرين يطفو فوق الماء ليصل أخيراً إلى متاهة متعددة الاتجاهات».
ب ـ الشق الثاني: باطن الإدراك
في المقطع الآتي: «أمضى نصف عمره بالترقب فاستطاع أن يمسك بخيط الظلام المنبعث من صدره المشقوق..» يحقق بحثنا عن القص كشفاً عن ثلاث قصص، بعضها يختلف عن بعض حد التقاطع أحياناً.
ـ القصة الأولى: إن الفتى صانع المستحيلات راقب نفسه حتى توصل إلى المنطقة العظمى من الإدراك، ليرى ظلمة نفسه مقدرة بسعة الجرح في صدره.
ـ القصة الثانية: إن الفتى (لا مسمى) مضى به الزمن من الطفولة حتى مرحلة النضج المبكر.. في هذه المرحلة أدرك منبع المعرفة المنبعثة من ذاته الغنوصية بما يشبه هبة عرفانية، وهكذا انشرح صدره للمعرفة الكونية.
ـ القصة الثالثة: يقال إن فتى أوقف نصف حياته في البحث في باطن نفسه عن رؤية مضيئة، ثم ها هو يراها بضلالة صدره الراعف بالخوف من نصف عمره المقبل.
ج ـ الشق الثالث: هيئة الانحناء
في العبارة الآتية: «ظل منحنياً عليها بأقدام مطمئنة وشيء من حنين إلى الأشجار التي لا تبدي غضبها على نزقه غير المعهود..» يتجه القاص واثق الجلبي إلى تلبية الحاجة الفنية، إذ لا بد لمن يمشي على الماء بظهره، أن يعي ظلمة نفسه وعمق هوة الإدراك بما فيه من علم وضياء، وأن يعي سعة جرح الصدر المفتوح بشقوق الزمن والتاريخ والتضحيات.
* هذا (التأويل ـ القص) هو الآخر يخلق حافزاً لتخيل ومضات القص الآتية :
*يقال إن خليفة الحلاج خاط جروح صدره ومضى نحو شجرة الشعر.
*يقال إن حلاجاٌ جديداً (واثقاً!) بوفاء أهله، صمم على زرع الحنين
ج ـ الشق الرابع
في الشقوق الفائتة أسهبت بتفاصيل البحث عن قصص مضمرة تميل لتكون فضاءات متقاربة أو متخالفة، لأتوصل إلى المبدأ الذي يقول: القص الموجز يلائم التعدد القصصي للقطعة الواحدة، (عبارة كانت أو جملة أو مشهدا) وفي نهاية المقطع الثالث كان علينا أن نقول إن المقطع الثالث هو استعادة القصة لجسدها، بما يشبه غلق الختام، لكننا لم ندون ذلك لأن ذمة ما سيفتحها من جديد عبر «في تعداد الإنسان كان صفراً لكنه كان رقماً صعباً في تعداد الطيور.. استحال إلى قطرة ماء تحمل ألف شكل وصورة لم يشربها النمل، بل رمى بها نحو السماء فلم يسقط منه قطرة». إن هذا الانفتاح حمل تناصاً جديداً يربط بين دم عبد الله بن الحسين (ع) ودم الحلاج. والحق إنه يهمس أو يومئ بإشعاعات قصصية مثالها.
ـ جمال وصورة الماء اللذان صنعهما دم عبد الله والحلاج، رفعهما الفتى (عظيم المقام) إلى الخلود الأبدي، الخلود الذي يظل عصياً على من لا يمشي إلى العُلا بإرادة الفداء!
واثق الجلبي
ثانياً: إغواء
الإغواء هنا لا يترك فرصة للكاتب أن يهمل العطش إلى الشعر والفوتوغراف وفانتازيا القص، وهو إغواء للقارئ أن يضع عطشه ورغبته في شكل رؤية تنبع من شغف خاص بالسرد..
أ ـ إغواء الشوق
إن الشوق للأرض يعني أننا كنا في السماء، أو تحت الأرض، وأن نخلع الحذاء ونرميه نحو البحر فيعنى أننا ـ تواً ـ نقترب من أوسع موجودات الأرض. ترى هل ثمة ما يلوث القدم المقبلة من السماء، وهل يمكن أن نكون ملائكة نزلت بشغفها إلى الأرض لتستريح قرب البحر؟ لننظر في «اشتاق إلى الأرض.. خلع حذاءه ورمى به نحو البحر.. تناولت رجلاه شقوق أرض النهار ومسح بكفه وجه السماء..».
* إذن الإغواء الأول هذا هو عشق كوني وحب وجدي لماء وتراب ونهار شمس الرافدين.
* بهذا التأويل صُنِعَتْ قصة على أعقاب سطرين من قصة ضباب الوجوه للكاتب واثق الجلبي.
ب ـ إغواء شهقة الضمير
في المقطع المقبل إغواء من نوع آخر يتأتى على أعقاب شهقة تتوسط بين التضحية والحياة، مثلما عليه عبارة «شاهد ضميره متوجاً بالأضاحي فقام على باقي شجرة اعتصرها جبل بعيد.. نادى ضباب وجهه المتشكل قريباً من البلور بعيداً عن القوارب المتشحة بالهيجان فدبت في الأرض الحياة». نستنتج من العبارة بعضاً من نثار القص حسب التصور الآتي :
ـ الملاك الرافديني وضع لضميره تاجاً، تحيطه الأضاحي التي تقدم للملائكة، وبدوره استعان بجذع شجرة ربما هي شجرة (آدم ـ البصرة) أو سدرة السلام المقدس.
*إذن الإغواء هذا شهقة ضمير لا غير.
* هذا الإغواء يفتح باباً نحو إغواء آخر يلم شمل الأنواع الأُخرى من الإغواء، تؤكد ذلك معظم القصص اللاحقة.
ج ـ إغواء الفرادة المضيئة
ينفرد الكائن الملائكي بثلاثة آفاق من النعيم
ـ التعب والبحث والستر، مكونات الكائن الملائكي، جذبت له سر الجمال والمتعة وافتتنان الوجود بنفسه، بتماهيها مع حياة القطا، والأيائل.
* ثالثاً: رثاء الذرى
رثاء الذرى يوحي بأن هناك العديد من الذرى افتقدها صانعها، رثاء يزيد الأسى جنوحاً ومضاء في النفس.
«وقف على جثته طويلاً.. بكى عليها.. لطم نخلة الجوع.. ورمى على جثته الطين.. قلص مشافره.. وركب بغلة النهار.. لم يرغب في الاستواء فعالجته الرمية.. ظل يشق صدره ويخيط مآله حتى لم يؤويه زورق.. بلغت به ذروة البكاء ما لم يبلغه موسى في موعد الجبل.. قوسان في ظهره وحفنة ملائكة.. ورجيع وجه حمامة تحبو.. ودلوٌ مائلٌ للغثيان.. احتفر حفرة لجثته التي اجترحها صفير كدامع بيض فلم يقدر على احتواء الرداء.. فرقعه ومزقه وحرقه وعطر به أنفاس المزابل.. لكنه عاد قشيباً كشيبته».
إنها ذرى لأعماق شعورية متخيلة (سيريالية) من بينها :
ـ ذروة وقوف الفرد المستحيل عند جثته، ورمي الطين عليها.
ـ ذروة اللطم لنخلة الجوع .
ـ ذروة ركوب النهار وعدم الرغبة في الاستواء.
ـ ذروة الاستمرار بالشق والخياطة لمآلات الصدر.
ـ ذروة بلوغ البكاء بأعلى من بكاء موسى (ع) في الوادي المقدس.
ـ ذروة حمل الظهر لقوسين وحفنة ملائكة.
*ثماني ذرى نسجت أطراف نسج لا تربط أجزاءه أي روابط معقولة ولا مادية، لذا فهي نفسية شعورية، (سريالية).
* يجمعها القاص بتوليفة لا تشترط الـتآلف.
يمكننا التساؤل : هل للقصة أغراض مضمرة غير البكاء والرثاء؟
ـ نعتقد الإجابة: نعم..
* نرى إنها محملة بالعديد من الأغراض (الرسائل). منها فنية تخص اعتقاد الكاتب أن القص ليس الحدث والوصف والشخوص فقط، إنما يمكن أن يكون تصادماً ذاتياً للمشاعر والصور.
قد تكون الرسائل إشاعة لذة (جلد الذات) دون الإفراط بالأسى، عبر نسق الجمل الأفكار السيريالية، مثلما في الكلام عن الرداء، فصاحبه «فرقعه ومزقه وحرقه وعطّر به أنفاس المزابل.. لكنه عاد قشيباً كشيبته».
كاتب عراقي