القمة التونسية: فورة عربية أم شمبانيا سياسية؟

القمة العربية الثلاثون، أطلقت من بيانِها الختامي، يوم الـ 31 من آذار/مارس، مجموعة توصياتٍ ومواقف، رغبت في اعتراضِ صاروخٍ باليستي أطلسي، انطلق من المحفظة الجلدية؛ للرئيس ترامب، يوم الـ 25 من آذار/مارس، حيثُ رقدت ورقة الاعتراف الأمريكي، لتبيض رسمياً، بأحقّية الكيان الإسرائيلي في ضمِّ الجولان العربية.
المراقبون؛ العربُ منهم تحديداً، وجدوا أن تلك التوصيات والمواقف، لن تلعب سوى دور المناديل الملونة، لتخفيفِ انعكاسات التوقيع الأسود، للرئيس ترامب، على قَرْعَةِ رئيس وزراء الكيان؛ الرئيس بيبي. بتعبيرٍ آخر؛ نستلفُه من كِتاب نورينا هيرتس (السيطرة الصامتة)، والذي تتحدثُ فيه عن دليل جمعية روكوس الكاليفورنية، للاحتجاج: تُعلِّم المحتج كيف يحتفظُ بمنديلٍ ممزوج بالخَلّ والليمون، كي يقلل أثر الغاز المُسيل للدموع، وكيف يستخدم دمَاً مُزيّفا في علبة شامبو سفرية، لأن منظر الدم، لديه تأثيرٌ جيّد وثمين على الجمهور.

المقذوفات الدولية

إذا أردنا أن ننسى، طعم خَلّ توصياتِ ومواقفِ، قِممِنا العربية السابقة، وقمنا بفحصِ مقذوفاتٍ السطورِ الأخيرة؛ التونسية، لوجدنا، أنّها تمثّلُ، اعترافاً مؤقتاً، بالدورِ الدولي لجامعة الدول العربية، والتي استعارت، شرعيّتهُ، من البيان المشترك، للرئيسين تشرشل- روزفلت؛ سنة 1941، مفادهُ: من حقِّ الشعوب في منطقةٍ إقليمية، أن تُحافظ على الوضع القائم، وتمنع تغييره. هذا البارود الدولي، الملتصق بسطورِ القمّةِ التونسية، تحدث عنه إيان شابيرو في كِتابهِ (نظرية الاحتواء: ما وراء الحرب على الإرهاب)، ناقلاً عن روبرت كيوهان: إنّ كُلفةَ إنشاء المنظمات الدولية أكبر من كُلفةِ المحافظة عليها. إذاً؛ كُلفة تشغيل الجامعة العربية، بالهمومِ المشتركة، أرخصُ من مطاردةِ رِضى إدارةٍ أمريكية، لا همَّ لها، سوى النِباحِ بقراراتٍ، تطاردُ بدورها، رِضى إدارةٍ إسرائيلية، تتقنُ ذبح المنطقة العربية.
إقحامُ أنقرة، طهران، و الحِرصُ على إغراق الدور الأمريكي، في معظمِ سطور البيان الختامي (!)، يهددُ المقذوفات الدولية، للقمّةِ التونسية، أنّ تتحول، وحسبِ تعليقٍ للشهيرة غرترود بِل، والذي سنتصرفُ في كلمتين منه إلى: فورة من الهواء الساخن، خرجت من أرض تونس (الأصل كلمة الوطن) على هيئة إعلانات مِصرية (الأصل كلمة دولية فقط، وليس هناك ذكر للدول العربية الثلاث)، سعودية، وإماراتية.

لماذا جلست فلسطين على كرسيّ الجولان؟

القرار الأمريكي؛ فيما يخصّ الجولان، كان يشبهُ وجبةَ سبانخ، أعدّها؛ دونالد ترامب، لصالحِ بنيامين نتنياهو. الهدفُ منها، تقويةُ شهية الناخب الإسرائيلي، لازدرادِ المزيد من سنوات حُكم بيبي. كان هذا ما أفتى بهِ مراقبون، عربٌ وعَجَمٌ. لقد جسّد القرار، المخاوِفَ الجولانية، للمفكِّر السياسي والصِحافي؛ محمد حسنين هيكل. كان قد استعرضها على قناة «الجزيرة»، قبل اثنتي عشرة سنة تقريباً.
الموقف الأمريكي من الجولان، حفّز أهمية فلسطين، في اللاوعي الجمعي للأنظمة العربية. خادمُ الحرمين الشريفين، أكّد بلِسانِ عروبة الجولان على: مركزية القضية الفلسطينية. ربّما (ربّما هنا تعبيرٌ مجازي عن يا ليت)، فهِمت الرياض، القاهرة، وأبو ظبي، أهمية فلسطين- كعلاقاتٍ عامّة على الأقلّ، عربياً؛ وحتّى إسلامياً، في البلدان اللا عربية، والتي يَحضُر الإسلامُ فيها، كمورِّدٍ أساسي للقيم الروحية. علي عجوة ومحمد عتران في كتابِهما (فنّ العلاقات العامّة)، قدّما لنا فرصةً من الكلمات، كي نضيء فلسطين، بعودِ ثِقاب اللاوعي الجمعي: تستخدمُ الشعوب في حروبها الباردة – اللفظية، صورةً جماعية (دوركايم)، أو أسطورةً مؤسسة (جورج سوريل)، لا يستطيع أحد الخروج عليها، مِنْ قبل الأفراد الذين ينتمون إلى تلك الأسطورة المؤسسة، ولهذا فأنهم يستميتون في الدِفاع عنها. روبرت كابلان؛ بدورهِ، يُذكِّرُنا، بموهبةِ هيرودوت العبقرية: كان يعلم أنهُ كلما زادت براعة الزعيم السياسي في فهم ما يوجد هناك فحسب، قلّ احتمالُ أن يرتكب أخطاءً مأساوية.

القدس النابض

فلسطين، وقُدسُها، النابض في الدِماغ العربي، مِنْ غير الممكنِ تسييلُ نَفْطِ قداستِها، عبر أنابيبِ صفقاتٍ بين واشنطن، وبعضِ الدول العربية، والذي لن تصبَّ أرباحهُ، إلَّا في الخزينة الإسرائيلية. نَفْطُ القداسةِ الفلسطينية، يسيرُ في شبكةِ أنابيبٍ مُعقّدة من الحضارات الإسلامية، المنتشرة في العالم. وظيفةُ العرب؛ أخلاقياً، أن يحافظوا على كلأ قداستِها؛ مَشاعاً. أيضاً؛ وبسببِ ضعفِنا العربي، فهي ذلك النفقُ الحضاريُ السَّري، بيننا وبين ضمير العالم الإنساني. تُذكِّرهُ أنّ العرب، حافظوا على القدس، ككعبةٍ عالمية للأديان الثلاثة. أن جسد القداسةِ في مكة، لا يُغذّيه سوى شريانُ القدس؛ إنّها زمزم سماوية.
إنَّ على الأنظمة العربية، المَلَكيةُ منها والجمهوريّة، أن تتبنى في موضوع فلسطين والجولان، مقولة إحدى شخصيات أورويل، في روايتهِ (1984): عليك أن تصيح دائماً مع الجماهير، هذا ما أقوله. إنها الطريقة الوحيدة لأن تكون آمناً. تلك الكلماتُ الروائية، والتي توظيفُها هنا، يبدو شعبوياً، وناتجاً عن سوءِ هضمٍ، تسببهُ مَعِدةٌ قوميةٌ عتيقة، يوضِّحُ خيارين: إنَّ الأنظمة العربية، شاءت أم آبت، لا بدَّ أن تدفع ثمناً ما، لبقاء فلسطين في خِزانة الجغرافية العربية؛ إنّها كلُّ ما تبقى من عُلبةِ إسعافِنا الحضارية. إنْ فضّلت وكخِيارٍ ثاني، أن لا تفعل شيئاً؛ سوف نشاهدُ هبوط، كلِّ القوى الفاعلة في البلدان العربية، في مطارِ سياساتِ أنقرة، وطهران. ليس هنالك في كواليس مسرحِنا الحالي، من سيستطيعُ التلقين بخيارٍ ثالث!
محمد أيوب؛ بروفيسور في جامعة ولاية ميشيغان، كان قد وجد في بحثٍ له (الربيع العربي: جيو استراتيجي بامتياز)، أن ما حصل في سوريا، كان تشابكاً عربياً ودولياً، رغم أن الكفّةَ الوازِنةُ فيه، كانت دولية: السياسات الإقليمية تبيّنُ علاماتٍ على حربٍ عربية باردة، ومرّة ثانية، أن الصراع المتّسِع يُظهر نَفْسَه في الصراع من أجل سوريا.
الرادار الطائفي، والذي نُصِّبْ في المنطقة العربية، للحكم على مجريات النزاع السوري، أخفى طموحاً عربياً، وإقليمياً (أنقرة، وطهران)، للحصولِ على «الموهبة التعدايلية»، للأرض السورية. أصابعُ تلك الموهبة، تمتدُ إلى القدس، بيروت، عمّان، بغداد، الرياض، أنقرة، طهران، وموسكو. هكذا إن امتلكت أصابعِها، فعلت الكثير، أو على الأقلّ سهّلت لمن تتحالفُ معه، العزف المؤثَّر. هذهِ القدرةُ التي أعطتها الجغرافيا لسوريا، ليست مفروضةً عليها، هي طبيعية وليست مصطنعة، أو موهبة يجب أن تكتسبها، كما في حالة روسيا؛ عن ذلك، يقول روبرت كابلان في كتابهِ (انتقام الجغرافيا): لم يكن لدى روسيا أي خيار سوى أن تصبح قوة تعدايلية، عازمة بصورة خفية أو غير خفية حتّى- على استعادةِ جوارِها القريب.
ينصحُ؛ محمد ياسين شكري، في كتابهِ (الأحلاف والتكتلات في السياسة العالمية) بعدمِ تأثرِ الباحثين: بالتشريعات القانونية، والديباجات المعلنة للتحالفات، وإنّما بمراقبة الواقع العملي لهذه التحالفات، من خلال سلوك الاعضاء على الأرض، أو مقدار تبادل المصالح بينهم. مع الأسف، اختار شكري وكمثالٍ على الفشل العملي: معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي العربي سنة 1950.
ربّما كذلك، يجبُ على بعضِ الدول العربية، أن تفهم أيضاً، أن خوفها المَرَضي من الإخوان المسلمين- أنقرة، ونفوذ طهران الطائفي، قلبهُ الأساسي، التغييرات التي تحاولُ أمريكا شراءها، وتدفعُ دولُنا العربيةُ، ثمنهُ؛ مِنْ كيسِ قوّتِها الناعمة، ورصيدها الجغرافي المشترك (فلسطين مِثالاً لا حصراً). إنّ الشعوب العربية، وهي تشاهدُ مسرح التفاعلات، في منطقتِنا، باتت تستعدُ، للتأقلمِ مع هجرةِ القوى العربية، في اتجاهِ المجهول الأمريكي الذي تُسيّرُه الريح الصينية. يستطيعُ؛ كريستيان كوتس أولريخسن في كتابهِ (الحرب العالمية الأولى في الشرق الأوسط)، أن يضرِب لنا مِثالاً على ما ذهبنا إليه، عندما تشعرُ الشعوب أنّ إنذار تَبَدُّل القوى لم يعد كاذِباً: إنَّ الكثير من العناصر التآزرية الحضرية، بدأت تقننُ دعمها للسُلطات البريطانية، لتقليل خسائرها، وذلك كمرحلة استعداد لتولي الإدارة العربية المحتملة.
كذلك مِنَ المهمِ هنا، أن ننصح، الأنظمةُ العربية، بالتوقفِ عن رؤية المواطنين العرب، كرجالٍ من المرتبةِ الخامسة، كما صنّفتهم عيونِ رواية (العالم الطريف)؛ ألدوس هكسلي: بضاعة لجميع الأغراض، يَسهلُ أن يُستبدل بها، الإمداد المتزايد الوافد من وراء البحار، وفي حقبتنا هذهِ- حقبة ما وراء الصناعة- يتناقصُ الطلب عليها باستمرار. نتمنى على الأنظمة العربية، أن لا تدفع المواطن العربي، أن يُعيد تدوير نَفْسَه، كنسخةٍ جديدة؛ من محمد البوعزيزي، ليحرق هذهِ المرّةَ، يابس الأوهام وأخضر الممكنات.

كاتب وصحافي من العراق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية