ينطلق الروائي والكاتب عيسى الشيخ حسن في روايته «العطشانة» من البيئة الاجتماعية والجغرافية لمنطقة الجزيرة السورية؛ حيث يتماهى مع تفاصيل غاية في الدقة، ما يشكل حالة من الإدهاش؛ خاصة عندما يرصد العلاقة بين الإنسان والطبيعة في تلك البيئة.
ويشكل هاجس الموضوعية ودقة الملاحظة في تصوير العالم، لدى الشيخ حسن انطلاقا من فلسفة الإنسان في هذه البيئة، التي هي البيئة التي ولد وترعرع فيها، ساعيا لكسر الإطار «النمطي» في أدبيات المجتمع السوري، الشعبية، وحتى الرسمية منها. ويحاول الشيخ حسن في رواية «العطشانة» الصادرة مطلع العام الحالي عن دار «جدار» في السويد، وقبلها في رواية «خربة الشيخ أحمد» الصادرة عن دار موزاييك في إسطنبول عام 2021 تحويل «الهامش» إلى مركز ليكون ندا، لا تابعا، وليصبح المحطة الأولى والركيزة الأساسية لفهم الكون، بمعزل عن النسق المدني، المسور بالطبقية، والمشبع بالنفس البورجوازي.
□ قبل «العطشانة» كتبت رواية «خربة الشيخ أحمد».. فهل هذه محاولة لتدوين التاريخ الاجتماعي للشوايا في سوريا روائيا؟ أم أنك تهدف لتسليط الضوء على هذا المجتمع المهمش في محاولة لإثارة تساؤلات مصيرية تتعلق بالحياة والوجود لدى الإنسان هناك؟
■ «العطشانة» سابقة على خربة «الشيخ أحمد» وكنت قد وصلت إلى السرد بعد أعوام طويلة من الانهمام بالشعر، لكنّ كتابة العمود الصحافي أخذتني شيئا فشيئا إلى السرد، وقد نبهني زملائي غير مرّة إلى شبهة السرد في بعض ما أكتب.
في السنوات الأخيرة ساهم أمران في الذهاب إلى منطقة السرد: وسائل التواصل الاجتماعي، والتحولات الكارثية في الحدث السوري، فبالإضافة إلى زعزعة الديمغرافيا السورية، باتت ثقافاتنا الشفاهية مجهولة المصير، ومع كلّ باب يقفل على أثاث، ونافذة تفتح على وداع، كنت ألمّ ما أستطيع من شفوياتنا العزيزة في اللغة والمأكل والمشرب. وكان السرد أحد وسائل توثيق هذه الشفاهيات، ووجدت دعما كبيرا من جمهور واسع، أنجز معي هذه المهمة. تتحدث العطشانة والخربة عن شرائح واسعة من أهلنا في الجزيرة السورية، ظلوا الكومبارس الأليف في الحياة السورية السياسية والاجتماعية، وكانوا مكمّلا مضمونا للمركز، وإن كانتا لا تثيران أسئلة المركز أكثر مما تنشغلان بأهلها المهمشين في حقبتين تاريخيتين مائزتين، ما بعد النكسة عام 1967، وفي 1981 مع بداية الحرب العراقية الإيرانية وعقابيلها المرهقة في المراحل اللاحقة.
«العطشانة» إن أمكن القول «صندويشة سردية» لكنها مكتنزة بما وعيته في طفولتي من الأناشيد والألعاب والحكايات، و«العطشانة» في النهاية إهداء صغير لقريتي «الحرملة» التي باتت في ذمّة الماء، يمرّ فوقها الصيادون على متن «فلوكاتهم» وأسراب الكراكي التي آنست طفولتنا.
□ لماذا أخترت أن يكون عدد فصول روايتك «خربة الشيخ أحمد» تسعة وأربعين فصلا؟ وهل لهذا العدد دلالة أو رمزية معينة؟
■ السنة الشاويّة عندي تسعة وأربعون أسبوعا، والأسابيع الباقية هي أعياد. وللعدد 49 عندي مكانة خاصّة، ليس لأنه عدد حجارة المنقلة وحسب، بلّ لأن الـ49 سبع سبعات، والسبعة تمام العدد (قبل نظام العشريات) والـ49 تمام التمام. حين فرغت من «خربة الشيخ أحمد» راعني أنّها استغرقت تسعة وأربعين فصلا. كان توفيقا غريبا وسارّا أن تلعب المنقلة مع القرّاء: تسعة وأربعين نصّا، بتسع وأربعين قراءة، ورأي ونقد ومراجعة. ثمّ إنّ العملية الأدبية هي لعبة منقلة بين الكاتب والقارئ، يتبادلان فيها حجارة الألفاظ وظلال المعاني. مثّلت المنقلة مفردات الحياة البدوية السابقة على سنوات الاستقرار القريبة «الرحيل، النزيل – الكعود – بناء البيت – القيام بالبيت» كان البدو يرحلون وينزلون ضمن دائرة قطرها يمتد من البادية العراقية إلى حمص وحماة، ومن نجد حتى ماردين، قبل أن تفصّل «سايكس بيكو» منقلة جديدة، منقلة مفصّلة بعناية ببيوت وحجارة. لعب مارك سايكس وجورج بيكو «الدگّ» الأهمّ، وظلّت المنقلة السوريّة تحتفي بصليل الحجارة، وصخب اللاعبين.
□ معاكسة النمط السائد للرواية بحثا عن «بديل سردي» مسألة ليست يسيرة، وكذلك مغامرة قد تكون خطرة على حضور الكاتب ومستقبله، ما ردك؟
■ لم أغالِ كثيرا في «اللعب السرديّ» فأنا لست روائيّا في الأساس، ولا أطمح في أن أغامر كثيرا في هذا المجال، كلّ ما في الأمر أنّي استثمرت ما وعيته من هذا الفنّ الأدبي العظيم، وأنّا «ألملم» حياة أهلنا، وهم «على شفا» واقع رجراج. لا توجد حبكة روائية في «العطشانة» ولم أنزع إلى معمار سردي ببؤرة سردية متطوّرة، بقدر ما جمعت لوحات سردية متوالية كانت أناشيدها وأطعمتها وألعاب أطفالها هي الحدث الذي ظلّ يتوالد أحداثا مشابهة على طول النصّ. ربّما ما فعلته هو المغامرة، والكتابة في النهاية هي مغامرة، والكتابة في الظرف الحالي هي مغامرة المغامرات، فما الجنون الذي نوصف به، إذا كانت الأصابع مغمّسة بالدم، وإصبعك تنقر على حجارة الحروف لتنجز شيئا مختلفا.
□ هل يمكن للرواية أن تُحيل «الهامش» إلى مركز.. وأقصد هنا الهامش الاجتماعي والجغرافي؟
■ جاء السرد «في أصله العربيّ» من القاع الاجتماعي، ردّا على القصيدة التي تُقرأ في القصور، فكانت المقامات، وكانت ألف ليلة وليلة، ثمّ كان حمزة البهلوان، وتغريبة بني هلال. الرواية تاريخ غير رسمي للفئات والشرائح التي أهملها المؤرّخون سابقا. الرواية تصنع تاريخا موازيا، ورغم أنّ الرواية تطوير لفنون السرد السابقة «الملحمة» التي اقتصرت على الآلهة والملوك، إلا أنّ الرواية عبرت إلى الناس، فكانوا أبطالها وقرّاءها، وهذا رهان «العطشانة» و»خربة الشيخ» أحمد.
□ احتفى القُراء – خاصة من أبناء الجزيرة السورية- بالرواية، وحظيت بمتابعة كبيرة من قبلهم، ما هي أسباب ذلك برأيك؟ هل لأنهم وجدوا ذاتهم في شخوصها؟ أم ماذا؟
■ عندما دفعت «العطشانة» إلى الناشر، كنت متوجّسا، وهو صديق وشاعر، قلت له لا تجاملني، إن كانت لا تستحقّ النشر، فلا تفعل، الصديق خلف علي الخلف عرضها على لجنة مراجعة من أكثر من دولة عربيّة، فأوصوا بالنشر. ولا أدري إن كان يصحّ القول إنّي فوجئت، أم انبهرت بهذه الحفاوة منقطعة النظير بـ»العطشانة». دار النشر هي دار غير ربحيّة، وقد أتاحت الرواية عبر نوافذها بالمجّان، وكان الرهان أن نشهد «تنزيل» مئات النسخ، في الأيام الأولى وصل العدد إلى أكثر من 1500 نسخة، واقترب من الألفين. في ما بعد قلت له: «نطمع بتنزيل 10 آلاف نسخة، و100 قراءة نقدية وانطباع. وفوجئت بقراءات نقاد محترفين، وأدباء، وشباب يافعين، وأمّهات مغتربات، فالعطشانة في النهاية معجم صغير، ونحن في أيّام اختبارات أو «فحص». لم أكن أوّل من كتب عن أهلنا، لكنّي أزعم أنّي اقتربت منهم أكثر، ولم أرهم بعين «استشراقية» اقتربت من أمهاتنا وحبّاباتنا، وشفوياتنا، ومأكولاتنا، كان أهلنا هم المتن، وهمّ أبطال السردية القصيرة، ولا بدّ أن يكونوا هم قراءها.
□ نجد في الرواية أنماطا عديدة من الصراع، بعضه مركب، كما بين الشخصيات ذاتها، وبعضه الآخر «مستتر» مثل الصراع بين الهامش والمركز، وبعضه الآخر ما بين الهامش نفسه والطبيعة من أجل البقاء واستمرارية الحياة، إلى أي مدى تجد أن «العطشانة» استطاعت ملامسة الإنسان في الجزيرة السورية؟
■ لا يمكنني إصدار حكم قيمة، لكني معك في أنّي ابتعدت عن الشكل الروائي المهيمن في «تبئير الصراع» واتجهت إلى تصوير أبناء العطشانة وهم يواجهون الطبيعة «الجوع والنهر والعواصف الرعدية» وفي صراع خفي مع الحداثة «الأستازيّة ورجال الشرطة» في زمن مهمل 1968 بعد النكسة بعام، وفي منطقة واعدة زراعيّا واجتماعيّا، قبل أن تفاجأ أنّ مخطّط بناء السدّ يتمّ دون أن يستشيرهم أحد. لكنّ العطشانة تتجاوز المحليّة الضيقة، لتكون أيّ قرية من الجزيرة السوريّة، محدّدة ببضعة بيوت، ومدرسة من غرفتين، ورجال الدرك أوّل مهمّاتهم تخويف الناس، مثلما يخوّف «الاستازيّة» أولادهم. في الخربة وعيي بالتاريخ أكثر؛ فترة الثمانينيات التي شهدتها شابّا يافعا، تهيمن على السرد حكاية ياسين، ومن خلاله نمشي بقاع «شاويستان» إن صحّت التسمية، صراع ياسين معاناة أكثر أهلنا في مواجهة الثأر وآثاره. وفي الخربة رصدت التحوّل الاجتماعي لمربّي الماشية الرحّل بعد الاستقرار وقد صاروا فلاحين، يتكيّفون مع واقع جديد، بروح بدويّة.
□ أنجزت «العطشانة» في سياق ما يسمّى «الأدب التفاعلي» فماذا عن هذه التجربة؟
■ بالفعل، استثمرت وسائل التواصل الاجتماعي في استعادة فكرة قديمة بكتابة نص يتشارك فيه الكاتب مع القراء، كنت أدفع إلى أصدقائي حلقات العطشانة، ولقيت منهم الدعم اللامحدود، وقد أسهموا في مناقشة العمل، والإضافة إليه فخرج كما هو، وأكاد أقول إني لم أضف إليه شيئا بعد مغادرته الصفحات الافتراضية، ولعلّ تلك هي المغامرة التي استهوتني، وأزعم أنّني نجحت فيها.
□ نعود إلى البدايات.. كيف بدأت علاقتك بالكتابة؟ وما هي أبرز قراءاتك في تلك الفترة؟
■ بداياتي كانت مع قصيدة التفعيلة، لكنّي تأخرت في النشر، ولم أمتلك الشجاعة الكافية لإصدار ديوان شعري، حتى شاركت في مسابقة البيّاتي. كان الشاعر الراحل عبد الوهّاب البياتي قد اتّخذ دمشق دارا وسكنا بعد محطات نفي متعدّة، فاحتفى به تلامذته العراقيون، وأعلنوا عن جائزة باسمه، وكنت قد تجاوزت الثلاثين، فوجدتها فرصة وقلت لنفسي إذا منحوني تنويها بأنّ العمل جيّد، فهذا يكفي، لكنّي فوجئت بالأصدقاء يبشرونني بالفوز، وكان لجائزة البياتي فضلٌ كبير عليّ في إعادتي إلى الكتابة بعد توقّف. بعد ذلك تورّطت بالكتابة والقراءة وكان لعملي في الصحافة دور مهمّ في الاستمرار. لا أستطيع أن أحصي قراءاتي، لكنّي قرأت في الشعر كثيرا من قديم الشعر العربي وجديده، وطفت بالمنجز السردي لمحفوظ وماركيز؛ ناهيك عن قراءات متناثرة في النقد الأدبي، والفكر عموما.
□ هل ترى أن حضور الرواية في الثقافة العربية في وقتنا الحالي سيؤثر على سوية باقي الأجناس الأدبية مثل الشعر والقصة القصيرة؟
■ تضافرت عوامل كثيرة في تنحّي الأجناس الأدبية جانبا لمصلحة الرواية، لعلّ أهمّها نهاية الصراع بين القطبين، وهزيمة المعسكر الاشتراكي، ثمّ هزيمة المشروع العربي، ثمّ انهيار منظومة الثقافة عموما في طور «ما بعد الحداثة» بسبب تطورات التكنولوجيا المتسارعة. توجه الشعر إلى النخبة في أشكاله الجديدة، وأخرج الجمهور العريض من بابه الواسع، وظلت الرواية كما ذكرت ابنة الهامش والمغيّب والمقصيّ، ونجحت أيّما نجاح، وخرجت أصوات من هنا وهناك توصي بأنّ «الرواية ديوان العرب».