الكتابة الاستعادية وتقديم الذات في كتاب «ومضات من الحياة»

لا يمكن فصل فن السيرة الذاتية عن التاريخ، لأن هذه الكتابة في الأساس تقوم على الاسترجاع، أو استعادة أحداث ومراحل حياة الكاتب، فسرد السيرة الذاتية يحقق غاية تقديم الذات مع التاريخ.
وفي هذا الصدد يعد كتاب «ومضات من الحياة» لأحمد سعد الدين بوتخيل، سيرة ذاتية لرجل تعليم، استطاع أن يجمع ما كان ينشره عن مسار حياته وذكرياته، في إحدى الجرائد المحلية، وبعد تنظيمه وتهيئته عرف طريقه إلى النشر في هذا الكتاب الذي عنونه بـ «ومضات من الحياة» وقد صدر سنة 2018، ويقع في 313 صفحة. غير أن صاحبه لم يدون على الغلاف هذا التعاقد الأجناسي، ما يجعلنا ننظر إلى ما يدل عليه. فنجد أن العنوان والمقدمة والمضمون عناصر توقع هذا التعاقد بين الكاتب والقارئ، كما أن السرد جاء بضمير المتكلم، وهذا لا شك يقوي الاعتقاد بالتطابق بين الراوي والكاتب الواقعي، باعتبار أن السيرة الذاتية هي ملفوظ استعادي واقعي. وعليه نجد هذا النص ينحو السرد فيه منحى تمثيليا للوقائع والذكريات والمواقف، ما يعني أنه نص يقوم بتقديم الذات للآخر، أي محكي ذاتي. وفي هذا المسار السردي فإن الهوية الذاتية لا تبرز إلا في الغوص في أعماق الزمن والتاريخ وعرض شخصيات عديدة ومحكيات تضيء ما يميز هذه السيرة من تشعبات وتجربة حياتية، وهو ما يعطينا نموذج جيل ومرحلة تاريخية بما انطوت عليها من وقائع وأحداث كبيرة، وهي فترة ما قبل الاستقلال وما بعده، باعتبارها مرحلة النهوض من أجل بناء مجتمع متعلم متشبث بقيمه الوطنية، رغم التأثيرات التي مارسها المحتل الفرنسي على بنية تكوين المجتمع، هذا التأثير الذي وجد مسلكا إلى البنية المغربية، رغم الحرص الشديد، حيث تشكلت ملامح جيل جديد له رؤى مغايرة وأهداف مختلفة بعد سنة 1973، كما أن النص في النهاية حريص على الإشارة إلى المتغيرات التي طرأت على المجتمع بعد سنوات من الهجرة من القرى نحو المدن الكبيرة، فالقرية التي انطلق منها السارد، والتي تمثل مسقط رأسه، حين زارها بعد سنوات، لم يجدها كما كان يعرفها بإيجابيتها وحفاوة أهلها وتواصلهم، فالسنوات والظروف السياسية والاجتماعية والتحولات التي عرفها المغرب، شحنت الناس بالسلبية وغيّرت طبائعهم، وساقت تفكيرهم نحو آفاق آخرى، يقول: «عدت إلى بلدي زيارة/عدت أحمل حلما/أُمني النفس أني/سألقى ترحابا وسلاما/تخيلت أنني/ سأجد كثيرا ممن لعبنا صبيانا لكن، وجدت نفسي غريبا/والناس عني أغرابا /لم يعد الناس كما عهدت أناسا/ ولا المكان مكانا!».
وينقل الكاتب للقارئ صورة عن مسار حياته الشخصية، وعوامل التأثير في هذه السيرة، فيبتدئ بالحديث عن ميلاده سنة 1935 بـ«فڭيڭ» (كاف عليها ثلاث نقط، وتنطق Figuig) في واحة شبة صحراوية كانت خاضعة لحكم عسكري فرنسي صارم على الحدود بين المغرب والجزائر. ثم يحكي عن والده الذي كان يعمل فقيها (إمام مسجد ومعلم القرآن) في ضواحي مدينة «تيارت» بالقطر الجزائري.. فسرد الكاتب الظروف العامة التي رافقت زمن ومكان ولادته… ثم تحدث عن طفولته في المنطقة وما أطرها من شغب ومرح طفولي منساب، وما رافق هذه المرحلة من أحداث عامة عرفها المغرب، كوباء التيفوس الذي انتشر في المغرب بعد الحرب العالمية الثانية، فكان الكاتب وعائلته ممن أصيب به، فوصف لنا تجربته مع هذا الوباء القاتل، الذي نجى منه، يقول: «انتقلت عدواه إلى بيتنا، لم أدر كيف، ولكن أتذكر أن جميع أفراد الأسرة أصيبوا تباعا، الكل يئن تحت وطأة الحمى، منا من يشكو صداعا شديدا في الرأس، ومنا من تنتابه قشعريرة ترُج بدنه بشدة، ومنا من يلاحظ انسداد أذنيه، ومنا من تصهره الحمى، كل واحد منشغل بنفسه وبآلامه».

يعالج النص قضايا أساسية شغلت جيل ما بعد الاستقلال، وأثرت في البنية الثقافية والاجتماعية للمغاربة، وساهمت في تكوين الوعي عند جيل من المناضلين ورجال التعليم الذين حاولوا أن يضحوا بالكثير من أجل العلم والمعرفة، ومن أجل تحسين وضعياتهم الاجتماعية.

كما يحدثنا عن عام البون – في النصف الأول من الأربعينات (1944-1945) – وأثر تلك الأزمة على المغرب عموما، باستثناء منطقة فڭيڭ التي لم يؤثر سلبا على ساكنتها، يقول: «الحق أن سكان فجيج (فڭيڭ) لم يحسوا بالأزمة كما أحس بها غيرهم من المغاربة، فالمستوى المعيشي الدائم لهم كان قريبا من مستوى عام البون. ألفوا البساطة، وتعودوا على التعاون والتضامن». ثم يصف أفراد عائلته، متحدثا عن والده (والظروف التي دعته إلى الهجرة للبحث عن عمل) ووالدته، وتحدث عن جدته من أبيه وجدته من أمه، وخص الجميع بالوصف الدقيق، مع إضاءات لجوانب من شخصياتهم وحياتهم… كما تحدث عن باقي أفراد عائلته وأصدقائه، وكل من ربطته بهم العلاقات الأولى من طفولته وشبابه، وما عرفته هذه البداية من تكوين فلاحي واستعداد عضلي للعمل، ثم تناول بالوصف بساطة العيش في منطقة فڭيڭ، وما يميز سكانها من التكافل والتضامن والتعاون والمحبة.
أما عن مساره التعليمي، فقد ابتدأ كما أشار الكاتب إلى التحاقه بالكُتّاب (1940) إلى غاية تأسيس أول مدرسة حرة «النهضة المحمدية» بفڭيڭ على يد العلامة الحاج محمد افرج، برخصة من الملك محمد الخامس سنة 1946، عن طريق مولاي محمد بلعربي العلوي، وكانت هذه المدرسة الوطنية تستقبل الفتيان والفتيات، ثم بعد حصوله على الشهادة الابتدائية تعرض كأبناء جيله في مسارهم الدراسي للتوقف قهرا مدة ثلاث سنوات وهي سنوات المقاومة المغربية للمحتل امتدت من 1953 إلى بداية 1956، باستثناء الذين كانوا يتابعون دراستهم في المدارس الفرنسية وهم قلة، إذ أن المحتل كان يحارب هذه المدارس الوطنية ويعمل على عدم استمراريتها. وبعد ذلك انخرط في مدرسا في التعليم الحر في الدار البيضاء، إلى أن التحق بالتعليم العمومي.. ثم مفتشا للتعليم الابتدائي، ومفتشا للتعليم الثانوي بعد سنة 1986، إلى أن أحيل على التقاعد سنة 1999، بعد 43 سنة من العمل والنضال.
وخلال هذه المسيرة التعليمية يخبر الكاتب عن كل مرحلة على حدة، وما حصّله خلال ذلك من التعليم والتجربة والتكوين، وما اجتازه من اختبارات الكفاءة التعليمية، والظروف التي صاحبت هذا المسار التعليمي من حركات الانتقال من «أحد كوت» نحو «سيدي يحيى الغرب» ثم إلى مدينة القنيطرة (شمال العاصمة الرباط) ثم ما وسم هذا المسار من عملية التدريس والمنهجية وطرق وآليات التكوين.. وما ساهم به في مجال الـتأليف المدرسي من مؤلفات في إطار اللجنة الوزارية. كما يكشف للقارئ، وبلغة يطغى عليها الصدق، ما عرفه مساره من الصعوبات، التي واجهت جيلا من رجال التعليم في مرحلة ما بعد الاستقلال، لقلة المدارس وإقبال المواطنين على تدريس أبنائهم في القرى والمراكز، مع قلة الموارد، وهذا برز بشكل واضح، حين تحدث عن أول تعيين له في «أحد كوت» ضواحي مدينة سيدي قاسم، بعد انتظار طويل، حيث عين في إحدى الفرعيات، نقرأ هنا مقتطفا وهو يصف الصدمة الأولى التي واجهته وزميله، حين وجدا الفرعية في حالة غير مؤهلة للتدريس: «دار المعلم عمر إلى الخلف لإخفاء دموع غالبته، اقتربت منه وسألته، ما يبكيك؟ فأجاب: أنا سأرجع إلى «دارنا» وسأتخلى عن التعيين… لفت بكاؤه الحاضرين، فخاطبني المدير قائلا: ما باله؟ فأجبته: وضعية الفرعية مزرية، كيف نبيت في إحدى هذه الغرف بلا أبواب ولا نوافذ؟ فأجاب المدير: آباؤكم ناضلوا من أجل استقلال بلدكم، وأنتم الشباب تتهربون من المشاكل التي تعترضكم لبناء هذا الاستقلال، فكيف ستبنونه؟».
أضاء الكاتب أيضا مساره النضالي عبر انخراطه في الجامعة الوطنية للتعليم، ثم النقابة الوطنية للتعليم، وما صاحب هذا الانتقال من عراك نقابي وحزبي والسياقات التاريخية المؤثرة فيه والمسفرة عنه.
وبهذا الايجاز، نرى أن هذا النص غني بالأحداث والوقائع، خاصة أن صاحبه يوثق بعض المحطات توثيقا تاريخيا، ويذكر بعض الأسماء المعروفة التي تعامل معها بشكل مباشر وغير مباشر: نوبير الأموي، والمهدي بن بركة، ووالد المفكر محمد عابد الجابري… وإضافة إلى هذا؛ يعالج النص قضايا أساسية شغلت جيل ما بعد الاستقلال، وأثرت في البنية الثقافية والاجتماعية للمغاربة، وساهمت في تكوين الوعي عند جيل من المناضلين ورجال التعليم الذين حاولوا أن يضحوا بالكثير من أجل العلم والمعرفة، ومن أجل تحسين وضعياتهم الاجتماعية. وهذه السيرة تقدم لنا نموذج رجل تعليم نال احترام الجميع بفضل إخلاصه في العمل، وتفانيه وكفاءته، رغم ما اعترض طريقه من معيقات كانت مقصودة في غالب الأحيان. ثم إن هذا النص يقدم تاريخ الهامش المغربي، بأمكنته وعاداته وتقاليده وثقافته ونمط عيشه (فلاحيا وتجاريا وحرفيا).. بأسلوب سردي ولغة تحافظ على أصالتها، وتضمن للمتلقي الإنصات وربط الأحداث، وفهم السياقات والمضمرات… كما نرى أنه يستثمر تقنيات فنية سردية، كالوصف والحوار، والاسترجاع والاستشراف، والغرائبي والعجائبي، وعنصر التشويق والإثارة.. كما يتضمن بعض الأجناس الأخرى، كالخاطرة والحكاية، إضافة إلى المتخيل الشعبي والتعدد اللغوي (الدارجة المغربية المختلفة حسب المناطق وبعض العبارات الأمازيغية). وعلى هذا تعد هذه الكتابة الذاتية ممسكة بجوهر التجربة الإنسانية المرتبط بالزمانية، إذ تتقاطع السيرة مع التاريخ، وتنفصل عنه، في ما يخص الاهتمام بما هو فردي وخاص.

٭ كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية