في كل عصر تجد الكتابة تتكيف والمتغيرات الطارئة، ويتم ذلك عبر تراكمات واجتهادات ترتبط بالأذواق والاتجاهات النقدية المتجددة دوما، ويجب عدم نسيان الجمهور الذي من أجله تشحذ الأقلام وتؤلف النصوص والكتب، فدون مستهلك لا مكانة ولا محل للإنتاج. فالكاتب والأديب لا يتوخى من عمله الوصف والإمتاع فحسب، بل يعمل جاهدا من أجل التغيير في التصورات، وفي الأخذ بالأسباب المفضية إلى التحولات الكفيلة بحفظ الحقوق والدفع نحو تأدية الواجبات، وفي ذلك حرص على خلق تفاعل تعايشي، غايته تقدم حضاري مادي ومعنوي أخلاقي.
فكل كتابة لا تأخذ بعين الاعتبار الجمهور المفترض تَلقِّيه للخطاب، تعتبر كتابة بائرة لا محالة، والمسألة تقتضي دراسة الوضع من عدة جوانب، ومن عدة اعتبارات تصب في تحديد المبتغى.
الكتابة وأهميتها
منذ فجر التاريخ والكتابة تفرض نفسها على الإنسان في غاياته وتوجهاته وتنظيماته، فهي القناة المستخدمة في الاعتراض والتوافق، في الاقتراع والتصويت والاختيار والامتعاض والحب والكره… ولأن المشاعر والأحاسيس إزاء الذات والموضوع مشتركة بين البشر، في شتى أقطار العالم، فقد ظهرت الكتابة الإبداعية سردا وشعرا للتعبير العميق عما نراه وتختلج به أفئدتنا.
الكتابة لها دخل في العلوم، في التربية، في المحافظة على المعلومة من الزوال، فهي سجل أمين للأفكار والاقتراحات والآراء، وهي بذلك مساعدة للذاكرة التي سيكون عليها ثقل التخزين للأفكار والمعلومات لولا الكتابة. الكتابة وسيلة لتقاسم المصطلحات والعادات والأعراف والثقافات، وتعلم اللغات، والتشارك في أخذ المبادرات الجماعية من أجل البناء الحضاري المتغير من جيل إلى جيل. وانطلاقا من الحيثيات السابقة، عمل الإنسان جادا بغية تطوير وسائل الكتابة تيسيرا للعمل والتعامل بها، فجدد أساليبها وغير طرائقها، فمن القلم التقليدي البسيط، تطورت وسائلها إلى أقلام الرصاص وأقلام الحبر والآلات الكاتبة، إلى الحواسيب والمحمولات المنتشرة اليوم بشكل مهول.
الكتابة الأدبية من العسر إلى اليسر
كانت الكتابة الأدبية والإبداعية قديما أمرا يصعب امتلاكه لكل من هب ودب، كانت صفة الأديب والكاتب من الأمور المستعصية على الناس، فهي تستوجب الموهبة، وصقل هذه الموهبة، والقراءة المكثفة، ودراسة الوسائل والمعطيات الكفيلة بجعلها في المستوى المطلوب، علاوة على الاستفادة من النقد بكل أشكاله.
فكان الكاتب الفرد المعتبر والمقدر من قبل أفراد المجتمع، فهو عملة نادرة ينبغي إيلاؤها الاحترام والإجلال، فهو بمثابة المعلم الموجه، والمربي، والمفسر الدافع نحو التغيير تجاه الأفضل والأحسن. ما زال الناس في العصر الحاضر يعودون للاستقاء من منابع الكتاب القدامى، الذين تركوا بصماتهم في عالم الأدب والفلسفة والأفكار وغيرها (العقاد، أحمد أمين، المتنبي، الفارابي، ابن رشد، الرازي، طه حسين، نجيب محفوظ، محمود درويش، نزار قباني…) كتاب أعطوا ما يذكرون به في المجامع الأدبية والفكرية، وفي المنتديات والمؤتمرات والملتقيات، تثقفوا وتدربوا برزانة وصبر وأناة قبل أن تزهر كتاباتهم كل في مجاله.
الكتابة وعصر التفاهة
صار التقدم التكنولوجي في مرتبة سهلت الكثير من الأمور في مقدمتها الكتابة والقراءة للمكتوب، وهذا أمر محمود من كثير من الجوانب، لكنه لا يخلو من مضار ومخاطر على النشء وعلى الراغبين في الكتابة الاحترافية المعتبرة بتأثيرها وجمالها ورصانتها، فهب الكثيرون من مختلف الأعمار فاقتحموا عالم الكتابة بكل أجناسها، وأغلب هؤلاء لا دراية لهم بركائز الكتابة، ولا أساس تراكمي لكتاباتهم، يكتبون أي شيء، يعبرون شعرا، يعبرون سردا، يعبرون بنصوص كثيرة متلاحقة، إذ يجدون من يصفق لهم، ويرفع من معنوياتهم في الإبداع، وإن كان ضحلا لا يستحق التشجيع والاستمرار، كتابة بأخطاء، كتابة بلا معان تامة، كتابة تمزج بين الدارج والفصيح، كتابة لا عمق فيها، كتابة سطحية وأخرى غامضة إلى حد التعمية والانغلاق المفضي إلى الفراغ. لقد صارت الآراء المتفاعل بها في وسائل التواصل الاجتماعي حافزا لكثير من الكتابات المستهجنة، وقليل من الكتابات الرصينة الرزينة التي تحمل الإبداع والإمتاع في الوقت ذاته. واختلاط الحابل بالنابل ليس مسألة صحية، حيث يصير الإيجابي مظلما منحطا والعكس صحيح. لقد صار النقد ليس للنقاد وإنما للايكات الجمهور العريض الذي يضفي الإعجاب على التافه، ويعود بالخراب على الناضج الجميل والمتين.
صار الجمهور يقدر ويميل ميل العاشق إلى التفاهة والعبث، فصارت الكتابة رميا للكلمات دون خوف من رقابة تصحيحية شكلا ومضمونا، وللإعلام الدور الفاعل في توجيه السلوكات والأنظار نحو التفاهة، التي صارت تبسط وتفرض نفسها على الكل، الكبار والصغار، الذكور والإناث، إلا من رحم الله.
المسألة لا تتعلق بالكتابة فقط، وإنما تجاوزتها إلى الفن في مختلف أطيافه، الأغنية صارت كلمات جوفاء وموسيقى لا هوية لها تربطنا بها، تفصيل الملابس، الدراما بكل أشكالها.. وإذا كانت الغاية تبرر الوسيلة فإن الجري نحو الاستهلاك هو العامل الأساسي في ما يجري. صار الكل يتمتع بلقب شاعر في وقت وجيز. صار الكثيرون روائيين في طرفة عين،والهايكو في عدة شهور أو أقل، وصار الكثيرون قصاصين. صار التمتع والحصول على الشواهد التقديرية العليا لا يتطلب الكثير من الكدح والمجهود. صار الكل موسيقيا ومغنيا وممثلا دون إعداد قبلي ودون موهبة مصقولة، ودون تدريب ونقد وانتقادات.
لقد كدنا ننسى الأدباء المرموقين الذين أثروا ساحة التأليف والكتابة بالجواهر التي لا تقدر بثمن. وهنا نطرح السؤال: هل الكتابة في حقيقتها وأساسها الصحيح في خطر؟ أم أن الغث مصيره الزوال؟ أم أن الثمين سيبقى خالدا لأنه يستحق الخلود؟
كاتب مغربي
جميل صديقي وأخي الكاتب النبيل الأستاذ لحسن ملواني، لقد وضعت الأصبع على الجرح الغائر ، لقد قلت كل شيء، افصحت واجدت وأحسنت، قرأت وأنا أتأمل مما جعلني أطرح السؤال على نفسي، هل فعلا ما نكتبه يستحق أن يكون كتابة، وهل فعلا نستطيع أن نكون القدوة، أخجلني هذا الموضوع وصرت ابحث فيه عن حجم الجميع مستحضرا النصوص القديمة التي وصلت القمة ومنها من حصل على جوائز سجلها التاريخ بمداد من ذهب، أعتز بك صديقا ، وأتمنى أن يكون الجواب شافيا على أسئلتك الصعبة، لأن مصير ما كتب يبقى تقليدا على الرقاب، وأتمنى أن نكون قد سجلنا ما لا يضيق الصدر، تحياتي ايها الأديب الرفيع، العالي المقام، دمت كبيرا وستظل صديقي…
بارك الله فيك أخي ادريس دمت مبدعا يستحق الذكر والتشجيع.
تحياتي الخالصة
البقاء للاجمل سيحدد التاريخ الكاتب الحقيقي من الكاذب الفنان الحقيقي من العفان زبد البحر مصيره الزوال
ذكرني مقالك اخي لحسن بمقال لأحدهم بجريدة مغربية اليكترونية تعج بالتفاهات قال فيه ان مغني الراب قد
تفوق على الشاعر و حل محله ضاربا بعرض الحائط مسألة قيمة الجمال تحياتي و مودتي
شكرا جزيلا على مرورك وتعليقك الجميل
مقال شيق و إثرائي. . مشكور جدآ
تحياتي وتقديري لك