الكتاب الورقي والنشر الإلكتروني

حجم الخط
5

من منا لا يؤمن بتبدل الزمن، وتغير رجاله، بل يدعو إليه، ويعمل من أجله؟ إننا عندما نتحدث عن التبدل، أو التغير، فإننا نقصد به الانتقال إلى الأحسن والأفضل. أما التبدل السلبي فليس سوى تقهقر عما كان سابقا. وللتبدلات السلبية، على المستوى الاجتماعي، أسباب تعود إلى تبدل رجالات الزمن نحو الأسوأ، أو بروز رجال جدد لا علاقة لهم بالزمن السابق، الذي صار يبدو أحسن من زمانهم بالقياس إلى تقهقر قيمهم، وتدهور مستواهم على الأصعدة كافة. عندما كان الكتاب كتابا حقيقيين، كان الناشرون في المستوى المطلوب. ساهم الناشر الحقيقي في نشر الأعمال التي ستظل رائدة أبدا، رغم تبدل الزمن لأنهم تعاملوا مع كتّاب كانت لهم رؤية وتصور وعمق في فهم الظواهر الاجتماعية والفكرية والثقافية. كان الناشر يضطلع بطبع المخطوط، ولا داعي للحديث عن الخطوط اليدوية، فبعضها تحتاج معه الراقنات إلى بذل جهد كبير في فك شيفرة حرف، قبل التفكير في طبع جملة. وقد يستغرق طبع مخطوط ضخم أشهرا ومصاريف حقيقية. يعود الكتاب إلى المؤلف ليراجعه، ويصحح مرة أخرى، وقد تطول العملية. وحين يصدر الكتاب يفرح به الناشر قبل الكاتب، ويسعد به القارئ. وبعض الكتاب يكونون دقيقين في محاسبة الناشر على المبيعات، وقد يأخذون حقوقهم كاملة، أو منقوصة، ويظل التراضي بينهما قائما، رغم الصورة النمطية التي كانت سائدة عن الناشر إن صدقا، أو كذبا، وكان الكتاب يطبع طبعات عديدة.
هذا ما كان عليه الوضع في الزمن الورقي الذي قلما نجد فيه كاتبا يمتلك آلة كتابة، وكانت مشاكل الطبع والنشر لا حصر لها. لكن مع الزمن الرقمي الذي صار فيه الكاتب يُغني الناشر عن أن يكون طابعا، ومنسقا، ومنظما، بل إن البرمجيات المكتبية صارت تُمكِّن من يمتلك بعض وظائفها الأساسية من تقديم الكتاب جاهزا للناشر، ولا يتطلب منه سوى سحب الكتاب في آلة تصوير متطورة. بل إننا صرنا نجد محلات التصوير العمومية قادرة على أن تصدر لك كتابا لا يلزمه سوى الإيداع القانوني، واسم مطبعة، ليكون قابلا للتداول، ولو على نطاق ضيق. أليس هذا جميلا؟
لكن هذا التبدل على مستوى التأليف والنشر سهَّل عملية التأليف والنشر، فصار الكثير من الناس كتابا، كما صارت لمن عنده إمكانيات مادية أن يستثمرها في النشر، وهو في الأصل لا علاقة له بالكتاب. أتذكر القادري (دار الثقافة) ونزار الفاضل (المركز الثقافي العربي) والصايغ (الأمنية) في بداية السبعينيات، ونحن تلاميذ، وبعد ذلك طلبة كيف مارسوا دور الكتبي قبل الانتقال إلى النشر. وكانت معرفتهم دقيقة بالكُتاب والكِتاب، فكانوا صادقين في الخدمة وفي التعامل الراقي، واحترام الكاتب.
كنا نكتب لأننا نعتبر الكتابة رسالة علينا أن نبذل فيها كل طاقاتنا لنوصلها إلى القارئ، وقبل أن نلتحق بالجامعة أصدرنا كتبا كان ينبغي أن يكون من متطلبات الماستر أو الدكتوراه. لم نكن نفكر في الترقية بالمقالات ولا حتى بالكتب؟ أصدرت كتاب «القراءة والتجربة» (1985) قبل الماجستير (1989) وعِيب عليّ أنني لم أضف إليه، وأتقدم به لنيل تلك الشهادة. وكان الموقف نفسه مع «الرواية والتراث السردي» (1992) الذي كان يمكن أن يكون أطروحة الدكتوراه التي حصلت عليها سنة (1997). كان طموحنا كبيرا وصادقا. فنال كتاب «تحليل الخطاب الروائي» (89) جائزة المغرب الكبرى للكتاب، ولم أكن قد رشحت نفسي لها. ونال «قال الراوي» (97) الجائزة نفسها، ولم أكن رشحت نفسي لها. كانت جائزة المغرب مفتوحة لأي كتاب نشر في السنة، قبل اشتراط قبول الكاتب للترشيح. كانت الجوائز العربية تابعة لمؤسسة الدولة، وصارت، بعد ذلك متعددة بتعدد المؤسسات والأشخاص. وكانت ترقيتنا في الجامعة تتم بالأقدمية لا بـ»الإنتاج العلمي». وكان يتساوى الأستاذ ـ المؤلف، بالأستاذ الذي لا يقرأ، بله أن يكتب. كان هذا في زمن ولى. أما الآن فقد كثرت الجوائز الأدبية عربيا ووطنيا، وصار الانتقال من رتبة إلى أخرى في زمن قياسي، وبمقالتين «محكمتين»؟ أليس هذا جميلا بالمقارنة مع الزمن الورقي؟ جوائز وترقيات.
لقد حل الزمن الرقمي مشكلة النشر. وصار كل من له حاسوب، مثل من له منصة، قادرا على أن يصبح «كاتبا» أو «مؤثرا». لا عبرة بالشكل ولا بالمحتوى. فـ»الواجهة» (في المغرب نسميها «التوجيهة») هي كل شيء. ومن له وجه «صحيح» بمعنى «جريء» و»وقح» يمكنه ادعاء أنه كاتب، وناشر، ومؤثر. أليس هذا زمن الـ»دمقرطة»؟ يجمع «الكاتب» مقالاته، ويترقى بها، وفي الوقت نفسه يترشح بها للجوائز. وصار الأستاذ «ينشر» الكتاب، ويدفع ثمن تكلفة النشر مقابل نسخ يبيعها للطلبة، ولا يتردد في التقدم للجوائز. تبدل الكاتب فتبدل الناشر، وتبدل الكتاب. لكن هل تبدل القارئ؟
كانت الصورة النمطية أن الناشر لا يؤدي الحقوق، فصار الكاتب لا يقوم بالواجب: القص واللصق، والذكاء الاصطناعي في الباب للأجيال القادمة. فمتى يمكننا تطوير النشر في الزمن الرقمي لتكون الواجبات والحقوق متساوية، كما نجد في تجربة دور النشر العالمية، ويستعيد الكتاب مكانته في واقعنا؟ دون تبدل الناشر والكاتب لا تسألوا عن الكتاب!

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فريد:

    نعم، التحولات التي شهدها الكتاب من النسخة الورقية إلى النسخة الإلكترونية تشير إلى تحول عميق في كيفية تعاملنا مع المعلومات والأدب والثقافة. لكن لا أعرف لماذا ذكرني هذا التغيير الذي ليس مجرد تحول تقني، بل هو أيضًا انعكاس لتغيرات فلسفية ونقدية واسعة تعكس التفاعل بين التقاليد والابتكار، بالعرض الثقافي الفرنسي في حفل افتتاح أولمبياد باريس 2024 والذي سلط الضوء على التحدي المتمثل في تقديم التراث الثقافي بطرق تتماشى مع السياق العالمي المعاصر. ففي خضم هذا الحفل الافتتاحي، استحضرت فرنسا عناصر من تراثها الثقافي المميز: ثقافة الكباريهات، النبيذ، والمجال التحرري… لكن هذا العرض يثير تساؤلات عميقة حول العلاقة بين الهوية الثقافية وتجددها في عصرنا المعاصر…

  2. يقول فريد:

    …فهل نحن أمام محاولة لإعادة إحياء لحظة تاريخية معينة، أم أن فرنسا تسعى لتقديم نفسها من خلال موروثات قديمة قد تكون غير ملائمة لزماننا الراهن؟ في الفلسفة، يُنظر إلى الهوية على أنها تجسيد للتراث، لكن أيضاً كمسعى دائم للتجدد والتكيف. وتاريخياً، كانت الكباريهات والنبيذ رموزاً للتمرد والتقدم في فترة زمنية محددة، حيث كان بإمكانها أن تعبر عن تحولات اجتماعية وثقافية جذرية. ولكن في القرن الحادي والعشرين، حيث يتسم العصر ببحث متسارع عن معنى التقدم وتحديد القيم الجديدة، قد تطرح هذه الرموز تساؤلات حول ما إذا كانت ما زالت قادرة على التعبير عن التحولات الحقيقية التي تمر بها المجتمعات المعاصرة. إن تقديم فرنسا نفسها من خلال هذه الرموز يمكن أن يُفهم كجهد لاستعادة دورها كمركز للتحولات الثقافية. ومع ذلك، قد يكون من الأجدى استكشاف كيف يمكن للهوية الوطنية أن تنسجم مع القيم والتحديات الجديدة. وفي عالم يتسم بالتنوع والتغير السريع، يبدو أن القيم المعاصرة مثل الاستدامة، والابتكار، والشمولية تمثل المجال الجديد الذي يتطلب إعادة النظر في تقديم الذات الثقافية.

  3. يقول نادية ابرايكات:

    سلمت دكتور وسلم تحليلك ونقدك ،تقديري بلا حدود💐

  4. يقول الدكتور جمال البدري:

    تحياتي للأستاذ الفاضل سعيد يقطين…والتهنئة للمغرب بعيد العرش المكين.نعم التطوّر قانون الحياة نحو سمو الحياة. ومن تصارع اللاتطوروالتطوّريولد الجديد…إنما أرى أنّ قضيّة النشر بين الورقيّ والإلكترونيّ؛ لا تزال { بين بين } على الأقلّ في مشرقنا ومغربنا العربيّ…ولو فرض الزمان التخلّي عن الورق بالبديل الإلكترونيّ طرًا ؛ فحتّام يومها علينا التعامل بالجديد… لكن مهما نال النشر من تغيير؛ سيبقى للورق نكهة الشوق المكنون في الذات؛ منذ دراستنا الابتدائيّة ونحن من النوابت نصاحب الكتاب.والتعلّم في الصغر كالنقش في الحجر.ويبدو أنّ وسيلة أخرى ستظهر؛ غير الورق وغير الإلكترونيّ؛ وأعني بها وضع شريحة ثقافيّة في جسد الإنسان لتزوّده بالمعلومات الثقافيّة متى ما هو يريد؛ وهي مرحلة متقدّمة على زماننا هذا وعلى الاحق من الدهر.فتكون الثقافة مشاعة لمنْ يريد…وسيبقى المال ميزان الاختيار
    للحصول على ذلك الجديد الآتي من بلاد الرّوم عبر البحار.لكن ستبقى { اقرأ } راسخة لا تزول مهما ابتكروا وسائلًا للنشر.

  5. يقول احمد المغرب:

    “حتى يلج الجمل في سم الخياط”
    “ان يوما عند ربك كالف سنة مما تعدون”

    ميزة الكتاب الالكتروني بدل الورقي
    سرعة البحث
    وحمل خزانة باكملها في قرص لا يتعدى الخنصر
    شرط التاكد من صحة ما ينشر

اشترك في قائمتنا البريدية