قد يبدو العنوان غريبا لمن يعتقد أنّ عامياتنا العربية في الوطن العربي هي في الحقيقة سليلة العربية الفصحى، وأنّ الانتقال من الفصحى إلى العاميات كالانتقال داخل منزل كبير من غرفة إلى غرفة، وهذا يعني أنّ هوية الفصحى تكتسب من العامّيات والعكس صحيح. الحقيقة أنّ هذا الرأي غير سليم من الناحية العلمية اللسانية. ذلك أنّ الترابط في مستوى المفردات وأحيانا في مستوى التركيب بين الفصحى والعاميّات ليس دليلا على أنّهما تشتركان في النظام نفسه، ولا تسيّرهما القواعد ذاتها. فعلى سبيل المثال، فإنّ النظام الإعرابي الذي يلزم أن تنطق فيه الحركات الإعرابية تحقيقا صريحا، على الرغم من أنّ العامّيات بدورها تنتمي إلى اللغات الإعرابية شأنها شأن العربيّة. وفي المستوى المعجمي تبدو اللهجات أكثر انفتاحا اليوم على قبول التداخل مع اللغات الأجنبية ولا تقبله العربية إلاّ في حالات نادرة يمرّ عبرها اللفظ بالآليات الإدماجية العسيرة لكي يصبح معربا.
لكنّ ما يهمنا ههنا هو أنّ الانتقال من العاميّة إلى الفصحى، أو من الفصحى إلى العاميّة هو ضرب من الترجمة. هذا قول قد يثير الاستغراب ويسعى هذا المقال إلى إزالة بعض الشبهة والغموض حوله. صحيح أنّ الترجمة بين العاميات والفصحى في العربية ليست كتلك الترجمة بين اللغات المتباعدة ولكنّها تظل ترجمة لأنّنا لا نكون إزاء نظام لغوي واحد نبحث فيه عن المترادفات، أو المركبات التي يمكن أن تشرح مركبات أخرى، بل نحن إزاء الانتقال بين نظامين متكاملين ليس بينهما توازٍ أو تماثلٌ، لا في المعجم ولا في التركيب. فعلى سبيل المثال فإنّ عبارة (سدّد زيد الكرة في اتجاه المرمى) يمكن أن تترجم بالتونسية (زيْدْ شَاطْ الكُورَه في الجُولْ) الفعل (شاط ) في الدارجة التونسية هو الفعل الأكثر استعمالا في هذا السياق، وقلما يستعمل التونسي في الدارجة الفعل الفصيح (سدّد)، إلاّ في سياق اقتراض من الفصحى؛ وينبغي أن يكون المستمع إليه متقنا للعربية حتى يفهم عنه. ليس الفعل (شاط) عربيا، ولكنّه معرب من الفعل الإنكليزي shoot وحين عرّب اتخذ الخصائص الاشتقاقية والصرفية لكثير من الأفعال العامية التونسية (فات، مات) وتصرّف تصريفها التي تشبه الأبنية الاشتقاقية والتصريفية في العربية الفصيحة. عبارة (جول) مأخوذة أيضا من عبارة Goal الإنكليزية، ويبدو أن اللغة الإنكليزية (البريطانية) وليست الفرنسية هي المؤثرة في سياق التعبير الرياضي في كرة القدم. وليس في العامية التونسية عبارة (نَحْوَ) ولذلك عوّضت فيها بحرف الجرّ (في) التي تعبر عن وجهة نظر إلى فعل التسديد على أنه موجّه لا إلى الشبكة، بل إلى داخلها. وليس في العبارات العامية حركات إعراب، بل يوقف في كل لفظة على السكون، فالسكون في العامية ليس دليل وقف في نهاية الجملة حيث يكون الكلام تامّا، بل يكون على كلّ كلمة بما هي وحدة دنيا دالّة داخل مركّب أو جملة.
ليس يعنينا في هذا المقال بيان أن هناك ترجمة بين العامية والفصحى فهذا عندنا لا نقاش فيه، بل يعنينا أن نبين أن هناك في اللهجات ومثالنا هنا التونسية عبارات لا يمكن أن تترجم إلى الفصحى. الإشكال الذي يعنينا هنا هو وجود ثغرات بين العربية والعاميّات عند الترجمة. والحقيقة أنّ اهتمام اللسانيين بالعبارات التي لا تقبل الترجمة بين هذه اللغة وتلك ليس أمرا جديدا، وأنّ حديثهم عن الفراغات الحادثة بفعل الترجمة بين اللغات ليس جديدا. كتاب Lost in Translation (ضائع في الترجمة) للكاتبة الإنكليزية آلاّ فرانشاز ساندرس Ella Frances Sanders قدم نماذج من عبارات عالمية لا تجد لها مثيلا في الإنكليزية من ذلك أنّ عبارة sundoku اليابانية تعني اقتناء الكتب وتركيمها دون قراءتها.
فرادة هذه العبارة في اليابانية نابع من أنّ الياباني ميّال إلى شراء كثير من الكتب طمعا في قراءتها، ولكنّ انشغاله أو عدم توفيقه في تخصيص وقت لقراءتها جميعا هو ما يجعل هذا الأمر ظاهرة تحتاج إلى تسمية. وليست هذه الظاهرة موجودة في ثقافات البريطانيين، لذلك لا يمكن أن تجد فيها عبارة توازيها. وبالطبع تشكو العربية الفصحى أو العامّية الفراغ نفسه، فمن الممكن أن تجد في هذه الثقافة من يشتري اللباس أو الطعام ويراكمه ولا يلبسه أو يأكله؛ ولكنّ مراكمة الكتب أمر لا وجود له في هذه الثقافة. وهذا يعني أنّ الشغور في الثقافات الأخرى ليس راجعا إلى فقر فيها، بل إنّ المتكلمين لا يحتاجونها.
في الدارجة التونسية عبارة (اِيْكَشِّخْ) هي فعل يعني عند مستعمليها أن يبتسم شخص مكروه عند من يستعمل هذا الفعل، لأنّ ابتسامته أو ضحكته تافهة لديه ومستثقلة بل ليست في موضعها. في التونسية حين تقول عن شخص إنه يضحك وعن آخر إنه ايكشخ لا يستويان. فيضحك عبارة محايدة، أو عامة يمكن أن تطلق في السياقات التي لا يكون فيها الضحك مزعجا للمتكلم. وحين يكون الضحك مزعجا له ويأتيه شخص يراه بعين العدوّ فإنّ الفعل يضحك لا يليق بالمقام.
البحث عن نظير لهذا الفعل في العربية هو بحث عبثي، فيما أعلمه، ففي سياق مشابه يقول الشاعر الجاهلي عبد يغوث الحارثي: (وتضحك مني شيخة عبشمية // كأنْ لم تر قبلي أسيرا يمانيا). فاستعمل عبارة تضحك في سياق يكون الفعل التونسي ايكشخ أجدر بها. لسنا ندري هل أنّ الفعل كشخ في التونسية اشتق من الاسم (كشخة) بمعنى الفم الدميم، ولكنّها تسمية فيها من المعايبة والتقبيح لفم البشر الشيء الكثير، فالفم الذي يضحك ضحكا قبيحا لا يكون فماً بل كشخة.
هناك عبارات في اللهجات يمكن ان تجد ترجمتها، لكنّها لن تكون وفية بالضبط حتى إنك لتقتنع بأنها ليست في مكانها المريح مثال ذلك عبارة بس، التي يمكن أن تترجم إلى فقط في سياقات من نوع بس وحدة… لتقول واحدة فقط لكن حين تقولها في سياق طلب الكف عن فعل فإنك ستبتعد عن فقط إلى يكفي، وكفاية وهلا انتهيت، وفي سياق الاستدراك يمكن أن يكون لها معنى لكن في قولك (بس أنا ما زعلتش) أي (لكنني لم أغضب).
لكن اغنية فريد الأطرش “أنا وانت وبس”، لا يمكن ان تترجم فيها العبارة بـ”فقط” أو بكفاية أو بغيرها. ستترجم بعبارة أطول هي (أنا وأنت ولا أحد غيرنا) وهي في الحقيقة ليست ترجمة لـ”بس” بل للعبارة الثانية في الأغنية (أنا وانت وبس ولا حد ثالثنا) فإذا ترجمنا بالفصحى لتحصلنا على ما يلي (أنا وأنت ولا أحد غيرنا ولا أحد ثالثنا) لكانت تكرارا فجا لعبارة واحدة تقال بطريقتين. في الفصحى أيضا لا يمكن أن تجد اللهجات معبرة عمّا يمكن أن نجده فيها. فمثلا عبارة الأطلال لا مثيل لها في اللهجات، ولذلك أخذتها اللغات كما هي وتبنتها في لغاتها. فالعاميات يمكن أن تأخذ من المعين العربي ألفاظا إذا قيلت في العامية لا ينتبه إليها، لأنّها استعيرت في الأول ثمّ باتت من العبارات المدجّنة في العاميات. في العاميات ما زالت عبارات الإضافة المعجمية مستعملة مع عبارات الإضافة النحوية حين يقول محمود درويش:
هذا البحر لي
فإنّ ترجمته بالتونسي ستكون متاعي وفي لهجات أخرى (ديالي أو بتاعي بالإضافة إلى استعمال عبارة الإضافة (بحري) هالبحر بحري. نحن إزاء تعايش عبارات للملكية من المعجم وأخرى نحوية واحدة أخذت من اللغة الفصيحة والأخرى اشتقت من العاميات وهما متعايشان معا في اللغة. نحن نتحدث في هذه الحالة لا عن عوز، بل عن دعة لغوية من الاقتراض الممكن لشيء ثنائي أو تبادلي.
٭ أستاذ اللسانيات بالجامعة التونسية
لننسى اللغات الأعجمية ونضعها قليلا على جهة.
يوجد معي في عملي زملاء عرب( مصري ولبنيني) واحيانا أقوم بالترجمة بينهما حيث الفلسطيني يعني الوسطية في كل شيء.
عندما يذكر احد الزملاء كلمة دولاب (لبناني) يستغرب زميلنا المصري كيف ان الخزانة تتحرك من مكانها وعلى أربع.
هنا أتدخل أنا للترجمة من لبنيني إلى مصري وأوضح دور الدولاب في العربية/ السيارة.
وعندما يقول زميلنا اللبنيني انه سيضهر على بكرة يستغرب زميلنا المصري موضوع الظهور ويقوله مانت ظاهر اهو، هو انت مستخبي؟
فاضطر للتدخل لترجمة الشهور وهو غير الطهور، اي ان عنده طلعة اي مشوار.
وللتدليل اذكره بأغنية بتروحلها مشوار بتقولها يا ريت.
وعندما يتم ذكر القرشلة والمناقيش وما شابه بيضيع علية نصف يوم عمل.
خلص الدوام وأنا باعلق حيث ممنوع علية التعليق من البيت.
إلى الزميل توفيق قريرة، هناك التباسات ومبالغات كثيرة في الموضوع في حقيقة الأمر –
قبل كل شيء، ليس هناك عبارات عامية لا تقبل الترجمة إلى الفصحى ما دامت العامية لغة قائمة بذاتها في المقام الأول، وبما فيها العبارات الأجنبية المستعارة أو المستوردة –
حتى أن كثيرا من العبارات العامية يمكن تقفّي آثار أصولها في اللغة الفصحى بشكل أو بآخر –
مثلا، عبارة (اِيْكَشِّخْ) التي استندتَ إليها أيها الزميل في معظم تقريرك يمكن تقفّي آثار أصولها في فعلين من الفصحى بالذات، هما: الفعل (يكشّر) والفعل (يشخر)، وقد اندمجا معجميا في فعل عامي واحد (اِيْكَشِّخْ) ليدل على معنى الابتسام التكشيري والضحك الذي يشبه صوتُه صوتَ الشخير في آن واحد –
وظاهرة الدمج المعجمي هذه موجودة في الكثير من اللغات الأجنبية –
ففي الإنكليزية، مثلا، كلمة smog جاءت من دمج كلمة smoke وكلمة fog ، إلى آخره..
أحسنت أيها الناقد اللساني على هذه الملاحظات الألمعية و التنويرية الحاذقة
كم يكثر اللاهثون على الهوامش من الحسدة و الجهلة أمام الإبداع
تحيتي
أوافقك الرأي تماما، أحسنت!
هناك فرق بين الكلمات العامية من الوسط العربي المحلي فهذه قابلة للترجمة إلى اللغة الفصحى.اما الكلمات الاعجمية فهي بالجذر
اللغوي لا يمكن ترجمتها للفصحى لكن يمكن
تحويلها باللهجة العامية فتصبح متداولة.
شكرا
للدكتور قريرة.
كما يقول المفكر الحكيم :
تجنبوا من يثرثرون بالقشور من العلم المزيف
فهو أشد خطرا من الجهل بعينه
تحياتنا القلبية للناقد اللساني الألمعي وللكاتب توفيق قريرة
جزيل الشكر للكاتب و للناقد على هذه المساهمة الفريدة في تبيان الكلمات العامية و مقابلاتها الفصحى و الاجنبية
بعض المتطفلين يهذون بما لا يعونه حقيقة
عالسريع.
بالنسبة للإنجليزية الأمريكية فهي مختلفة عن البريطانية الأم.
يميل الأمريكان إلى الاختصار والتبسيط في كل شيء ويستعملون بكثرة acronym او abbreviation وهي الأحرف الأولى لمسميات وجمل وأسماء وزارات او نظام صحي او مواصلات او مجاري او غيره.
على الإنسان ان يعيش في هذا الوسط وان يستخدم تلك المصطلحات تلقائيا ليعرفها وهذه لا تترجم إلى لغات،
هذا موضوع طويل وللاختصار اذكر فقط الاسماء حيث توم يعني توماس فلا احد يقول توماس كروز، و جون يعني جوناثان ومايك يعني مايكل إلخ إلخ وبعد الإلخ إلخ Bill يعني ادوارد ولا تسألني ما العلاقة بين بيل كلينتون بدلا من ادوارد كلينتون.
عندما كنت استفسر عن تلك الأشياء في بداياتي لم اجد اجوبة شافية حيث كل ما كنت اسمعه هو English is funny. هذا ما يقوله العوام.
عموما الأمثلة والمصطلحات الإنجليزية الجامدة المترجمة حرفيا في الكتب لا تستخدم هنا وقد يصبح من يستخدمها أضحوكة كمن يطلب snow بدلا من ال ice ليضعه في البيبسي او الكاكولا المقاطعة عربيا.
اعتقد ان لغة انجليزية جديدة ستظهر قريبا ستسمى لغة الماماة مع هز الرأس من الجيل الجديد الذي لا يطيق الكلام.
شكرا للشاعر احمد الشامي على ملاحظته الفذة بشأن اللفظ العامي..وهو الشبيه بلغة ألف ليلة وليلة.احسنت.
في الحقيقة لا أجد أفضل من كتابات الأستاذ الناقد اللساني فهي التي يُعول عليها
التحية الخاصة لشخصه الكريم ولشخص الأستاذ توفيق قريرة
في الأخير من يتكلم عن لغة ألف ليلة وليلة لا يدرك حقيقة أن هذه اللغة (المدوّنة)
ليست عامية كليا ولا فصحى كليا ولكن تقع وسطا بين الاثنين!
tlk
يحاول الغرب أن يفرق بين العربية فيقول عربية جزائرية، مصرية، لبنانية…… يمنية…. وذلك لانحلال العربية وذوبانها.
اللسانيات ليست طريقة لدعم الغرب في إضعاف العربية عندما كان العرب حق عرب لم يأتي أحد بشعر حفظه التاريخ الا وهو عربي خالص. كان العرب يتكلمون العربية بإتقان دون حتى ان يستطيعوا كتابتها. ولكن لما أصبحت الكتابة عامة أصبحت العربية عامية.
اولا، ومن قال ان اللسانيات طريقة لدعم الغرب في اضعاف العربية؟
ثانيا، من يقول بمفهوم (العربي الخالص) فهو عنصري
ثالثا، واخيرا لا آخرا كيف عرف المعلق ان (العرب كانوا يتكلمون العربية بإتقان دون حتى ان يستطيعوا كتابتها)؟ هل كان بينهم بقدرة قادر يستمع إليهم كيف يتكلمون العربية عن كثب؟ حتى الباحثون المتخصصون في اللسانيات وغيرها من العلوم لا يستطيعون إثبات ذلك بأي نحو من الأنحاء!