أدرك السياسيون الذين يسيطرون على منظومة العمل السياسي، أن بقاءهم في السلطة يعتمد على تغييب المواطنين عن ساحة العمل السياسي، وقامت الأجهزة الأمنية باتخاذ الخطوات التالية لتحقيق ذلك الهدف:
*تجريم العمل السياسي، إذ حولت الأجهزة الأمنية العمل السياسي إلى جريمة يعاقب عليها القانون، وشنت على المواطنين حملة إرهاب وترويع وملاحقة مستمرة، لم تنج منها الأحزاب السياسية على اختلاف أطيافها، وطالت الجامعات والمعاهد والمدارس والفنانين، وكل نشاطات المجتمع داخل الوطن وخارجه، وفرض على المواطن أن يكون مهزوما من الداخل قبل أن يحق له توفير القوت لأطفاله.
*خلق مجتمع الجوع والخوف، من المعروف أن وسائل الإنتاج تفرض نمط العلاقات الاجتماعية، ووجود مجتمع غير منتج يحافظ على نمط العلاقات القبلية والطائفية والعشائرية، وهذا يصب في صالح السياسيين، الذين يريدون إبقاء الحال على ما هو عليه، ولأنه لا بد من توفير المواد الأساسية، يقوم المستوردون، وهم السياسيون أو وكلاؤهم، باستيراد كل شيء من الخارج، وهكذا يتم بناء المجتمع الاستهلاكي الذي تطفو على سطحه الطفيليات السياسية. إن غياب القانون والفساد المالي والوظيفي وعدم القدرة على التنبؤ بما سيحدث اليوم أو غدا للسياسيين أو المواطنين، لا يشكل أرضا خصبة للمستثمرين، وأصحاب رؤوس الأموال، لذا فإن بناء مجتمع منتج عسير المنال، وإذا أضفنا إلى ذلك الإرهاب المستمر لمنع المواطنين من دخول ساحة العمل السياسي، وربط معظم الوظائف الحكومية وغير الحكومية بموافقة الأجهزة الأمنية، وابتعاد المواطنين عن النشاطات السياسية، وكل ما من شأنه أن يضعه في حالة تماس مع الأجهزة الأمنية بكل أشكالها، فإن مجتمع الجوع والخوف، اكتملت أركانه، وهذا بدوره أدى إلى تفكك المجتمع إلى أفراد يعيشون على بقعة جغرافية، من دون أي تواصل فكري أو سياسي أو اجتماعي، وأصبح المواطن في حالة خوف دائم وقلق مستمر على مستقبله ومستقبل عائلته وأطفاله، يبحث عن بدائل ممكنة خارج الوطن، ووجد في التعليم ضالته الكبرى، وأصبحت الشهادة الجامعية جواز سفر للهجرة، أو بكلمات أخرى أصبحت الشهادة الجامعية تمثل الوطن البديل.
*صناعة الهويات المحلية، أدى تجريم العمل السياسي، وإرهاب المواطنين إلى خلق مجتمع الجوع والخوف، الذي أدى إلى غياب القانون وتفشي الفساد السياسي والوظيفي، ودفع المواطن للبحث عن بدائل توفر له الحماية والأمن، فدخل في شرنقة القبيلة والعشيرة والطائفة، وأصبحت الهوية القبلية والطائفية هي الهوية التي يتم التعامل بها بشكل يومي، وتنحّت الهوية الوطنية ولم تعد هي الهوية التي تجعله جزءاً من كل، وكما يقال «حين تصبح الطائفة وطن أعضائها، يصبح أعضاؤها بلا وطن» وهذا ينطبق على الحزب والتنظيم والقبيلة. إن الأجهزة الأمنية تعمل ليلا ونهارا على الحفاظ على الوضع القائم كما هو عليه، لذا فإنها تقدم التسهيلات لوجهاء العشائر والقبائل والطوائف، لتعميق الهوية المحلية على حساب الهوية الوطنية. إن تراجع الهوية الوطنية أمام الهويات المحلية جعل التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي أمراً عسيراً، إن لم نقل مستحيلا، وفتح الباب على مصراعيه للحروب الأهلية التي لا تنتهي.
أدى تجريم العمل السياسي، وإرهاب المواطنين إلى خلق مجتمع الجوع والخوف، الذي أدى إلى غياب القانون وتفشي الفساد السياسي والوظيفي
*الدين والسياسة (الدين لله والوطن للجميع). إن العمل السياسي نشاط إنساني ذو حدود جغرافية وبشرية، ويتعلق بالحياة الدنيوية للأفراد، وحل المشاكل الناتجة عن هذا النشاط الإنساني، يجب أن يكون عن طريق الإنسان نفسه. أما الدين فليست له حدود جغرافية ولا بشرية. إن الدين والسياسة خطان متوازيان لا يلتقيان، ولكن ساسة الواقع العربي وأجهزتهم الأمنية جعلهما يلتقيان، وفي جميع الحالات التي تم فيها استعمال الدين لتحقيق أهداف سياسية كانت النتائج كارثية، فحين تم استعمال الدين في أفغانستان لمحاربة روسيا الملحدة، كان ذلك لخدمة المصالح الأمريكية والإسرائيلية. إن إقحام الدين والشباب العربي في حرب أفغانستان، كان حجر الأساس في بناء «داعش» وكل الحركات التكفيرية أينما وجدت، كذلك كان إقحام الدين في الربيع العربي، السبب الرئيسي في إجهاض كل إنجازاته، وفي كلتا الحالتين كان الممولون نفسهم والممثلون نفسهم يلعبون الدور نفسه لخدمة المصالح الأجنبية والمقبل أخطر.
*حصاد سبعين عاما من الديكتاتورية، سيطرت أنظمة الحكم الديكتاتورية في الوطن العربي على أركان النظام السياسي الثلاثة، وعطلت دوره في تنظيم العلاقات الداخلية والخارجية للمجتمع، وأصبح مئات الملايين في الوطن العربي، كماً مهملا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وبلغ الأمر ذروته، حين أصبح الهم الوحيد للسياسي الحفاظ على منزلته مهما كان الثمن، مثله كمثل الصفر يحافظ على منزلته دائما، فإذا جمعت الأصفار أو ضربتها أو طرحتها أو قسمتها تكون النتيجة دائما صفراً. هذا الوضع السياسي المأساوي استمر لعقود طويلة، وأدى إلى قطع حبل الوصل بين الحاكم والمواطن، وبين الحاكم والمواطنة، وبين الوطن والمواطنة، فأصبح الحاكم والمواطن والوطن لقمة سائغة لمن يريد ابتلاعها وهم كثر، وفتح الباب على مصراعيه للتدخلات الأجنبية التي تبنت استراتيجية للتدخل تتكون من ثلاث مراحل وهي:
التقزيم، قبل الهجوم العسكري على العراق شن الإعلام الأمريكي هجوما متواصلا على الرئيس العراقي صدام حسين، وكان الهدف من هذا الهجوم شيطنة الرئيس العراقي، وتقديمه للمجتمع الأمريكي والأوروبي على أنه قاتل ومجرم ويهدد الإنسانية جمعاء، وأن العالم سيكون أكثر أمنا بدون صدام، ومن ثم تم تقزيم العراق في شخص صدام، وهذا يعني أن الحديث عن العراق يجب أن يكون دائما مرتبطا بشخص صدام القاتل والمجرم، وتغييب حضارة العراق وتاريخه ونسائه وأطفاله وأنهاره ومعابده وجباله عن الإعلام ووسائل الاتصالات الأخرى، وكأن الولايات المتحدة بكل ما فيها من موارد بشرية واقتصادية وعسكرية في حالة حرب مع شخص صدام، لكي لا يسأل أحد عن مصير أطفال العراق ونساء العراق، ولكي لا يتبلور رأي عام ضد الحرب.
التقسيم، بعد تقزيم الدولة ومهاجمتها يتم تقسيمها جغرافيا وديمغرافيا، حسب تركيبة السكان طائفيا وعشائريا وقبليا، ويتم تسليحهم جميعا للدفاع عن أنفسهم ضد القبائل أو الطوائف الأخرى، ولكن الأسلحة المسموح بها تكون غير كافية لحسم أي معركة وبهذا تستمر الحرب الأهلية، حسب رغبة ومصالح الممولين.
التدمير، إن الحروب القبلية والعشائرية والطائفية تصعب السيطرة عليها، وهي قابلة للانفجار في أي لحظة وبدون أي سبب، ويصبح من الصعوبة بمكان إقامة دولة حقيقية، يضاف إلى ذلك مصالح الدول المختلفة والمتضاربة في معظم الأحيان، كما هو الحال في سوريا وليبيا واليمن وفلسطين.
إن حصاد سبعين عاما من الديكتاتورية، لا يعني أنها قد رحلت بلا رجعة، فبعض الديكتاتوريين لا يزالون يذيقون شعوبهم سوء العذاب، والبعض الآخر رحلوا وتركوا وراءهم الخراب، والبعض يحاول إنقاذ البلاد والعباد. لمن يحاول إنقاذ البلاد والعباد نقول: تبرز في هذه المرحلة أهمية خاصة لدور المواطنين في صياغة رؤيا واضحة للعمل السياسي على المدى القريب، وعلى المدى البعيد، مع ضرورة التركيز على الهوية الوطنية الحاضنة لكل مكونات المجتمع، من دون أي تمييز، والرافضة بشكل واضح وصريح لكل الهويات المحلية، التي تحاول أن تعلو فوق هوية الوطن. وضرورة التركيز على البعد القومي الديمقراطي الذي سيشعر الجميع بأهميته وضرورته، إذا تمكن المواطنون من إنجاز الخطوة الأولى في بناء دولة الحريات والقانون. فشلت أنظمة الشرق العربي في تحقيق أحلامنا في الوحدة والحرية والديمقراطية والعيش الكريم وجئنا اليوم ندق أبواب المغرب العربي فهل من مجيب.
كاتب فلسطيني