الكورونا من عالم مخيف إلى خائف

لأول مرة أشعر بأن العالم ليس مخيفاً بقدر ما هو خائف.. بدأ الأمر مع انتشار فيروس كورونا، الذي تعطلت معه الكرة الأرضية، من الصين إلى العالم، يتسلل الفيروس ليركض فوق السطوح، محمولاً على الأيدي وينام فوق الثياب والحقائب، قافزاً من خد إلى آخر، ومعبراً عن نفسه بقوة في مطارات ومشافي العالم، وحتى المعابد والمتاحف والمهرجانات العالمية، فارضاً شروطه بعدم الاقتراب أو اللمس، محدداً المسافة بين البشر كي لا تنتقل العدوى، وأخيراً معيداً الإنسان لأسلوبه الأول في مواجهة المخلوقات التي لم يحدد ملامحها، وهو الركض نحو منزله موصداً خلفه الأبواب والشبابيك والستائر.
هي مرحلة الوقوف أمام عدو ضائع، لا نراه لتطرده جداتنا بالعصي والهراوات، ولا يُحذر بغضب واضح على طريقة الرؤساء بحاملات الطائرات، بل هو عدو رشيق، ينتشر فوراً فوق السطوح، كجيش سري المواقع، وينتظر وصولك بمكر واضح، عدو يتربص بك عند كل قبضة باب وضغطة زر أو قبلة سريعة عفوية، فيها من المجاملة ما قد يوقع بك إلى الأبد، إنها مرحلة الفراغات والمسافات وعدم اللمس، ويكفي أن ترهف السمع لتسمع صوت بخاخات تنفث ماءها المعقم كتنانين ضخمة تنقذ الأرض من الفناء. هي المرحلة التي يدرك فيها الإنسان عدم جدوى القوة، وأن القبضات السريعة وضغط الزناد وحتى الأزرار الحمراء الكبيرة لا تنفع أحياناً، بقدر الاهتمام بالبحوث العلمية أيضاً والإنفاق عليها كما السلاح.
يعيد الإنسان بناء علاقته مع الأشياء من حوله، ويكبح جماح عاداته اليومية ليدخل مستسلماً للانعزال في زوايا منزله الآمنة، على طريقة الشعراء الانطوائيين، الذين اكتشفوا بطريقة «أقل ما يقال عنها أنها مريبة»، أن العالم غير صالح للاستخدام الشخصي، أفواج تدخل عزلها الصحي بعد أن أعلنت معظم دول العالم مواجهة الفيروس بالحجر الصحي، فجأة صار العالم يدار من الداخل، من الغرف والمشافي والمنازل، أما ساحات العالم وطرقاته فتحولت لإرث ملك مغدور لم ينتصر من أجله أحد، مساحات مهجورة ومهزومة، يصفر فيها ذلك النوع من الريح الذي لطالما استخدمه مخرجو أفلام الرعب ليقنعوا المشاهدين بمدى خلو كوادرهم من الأشباح.
إنها مرحلة مفتوحة على كل الوداعات، تلك الوداعات التي لا تتسع فيها مناديلنا لأكثر من تلويحة واحدة، متساوية القصر في كل العالم، لا تفرق بين الطبقات، أو جوازات السفر، أو لون البشرة، كأن كل العالم أصبح لاجئاً، يحمل معاناته في وجه الخطر المقبل، ويرفع سقف طموحاته بنجاة أخيرة من وباء يدرب الخيال على سيناريوهات تنذر بنهاية العالم، النهاية التي لطالما كانت سخريته بطلب نيزك، لنكتشف أن العالم هش من الداخل. إن حرص الإنسان على النجاة صار مطلباً عالمياً متفقاً عليه، لا ينطلق فقط من مناطق الحروب والنزاعات أو الزلازل، بل ينطلق من زاوية كل بيت بصرخات متقطعة فاترة. ولربما هذه هي المرة الأقوى التي يستيقظ فيها الإنسان من جـــنونه، فهذه الصفة التي يتميز بهـــــا الإنسان تحــــولت مع الوقت لأسلوب حياة، جُنّ الإنسان في العقود الأخيرة من الزمن، بنى حياته على الخرافات ووهم التطور، وتكديس الأسلحة، وإيلام المخلوقات الأخرى، وتسميم الهواء، وجرف ما يستطيع جرفه من حيوات من حوله، وكل هذا وهو بوعي كامل لخطورة ما يفعل.

٭ كاتب فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية