أسرف الكُتّاب والشعراء لردحٍ من الزمن، وهو بالكاد ليس قصيرا، في تمجيد الكِتاب والاحتفاء به، والرّفع من شأنه، لكونه يُشكّل، في نظرهم، رافعة أساسية لفكر الإنسان، وهو السبيل الأيسر والمختصر للسير بخطى حثيثة ووئيدة في مسار النّهضة والرُّقي. ولعلّ ما ينمّ عن ذلك هو وفرة العبارات الرائجة والمتداولة بشكل كبير في صفوف القرّاء والمثقفين، ولا أحد يختلفُ حول دقتها وروعتها، لكن هل الاحتفاء بالكتاب، وبذل جهدٍ مضنٍ من أجله، يحتاج فقط إلى عبارةٍ منمّقة تستقرُ في أوتار قلبِ قارئها كتلك التي وردت في كتاب القيرواني «زهرُ الألباب وثمرُ الألباب»: (الكتابُ والجُ الأبواب، جريءٌ على الحجّاب، مفهِم لا يَفهمُ، وناطقٌ لا يتكلم، به يشخصُ المشتاق إذا أقعده الفراق، والقلم مجهّز لجيوش الكلام، يخدم الإرادة، ولا يملّ الاستزادة، ويسكتُ واقفا، وينطق سائرا، على أرض بياضها مظلم، وسوادها مُضيءٌ، وكأنه يقبِّلُ بساط السلطان، أو يفتح نوَّار بستان). (ج 1، شرحه: علي محمد البجاوي، دار إحياء الكتب العربية). أعتقدُ اعتقادا راسخا أن الاحتفاء الحقيقي بالكِتاب يحتاجُ إلى دفاعٍ باسل عنه، من خلال ما يكتبهُ الإنسان بشكلٍ دائم ومستمر دونما فتور، كما يحتاج إلى تكوين علاقة وشيجة مع الكِتاب دون أنْ تعصف بها تقلّبات الزمن، دون نسيان المبادرات والفعاليات التي ما فتئت تحتفي بالكتاب وترفع من شأنه؛ وأستحضرُ في هذا المضمار عدّة مبادرات قيّمة شهدتها المنطقة العربية، التي تبذل قصارى جهدها للمحافظة على منزلة الكتاب، عبر التحفيز على القراءة، وترسيخها في صفوف الناشئة باختلاف فئاتها العمرية، وهي في حقيقة الأمر جديرةٌ بالتقريظ (مبادرة إثراء القراءة نموذجا).
ولعلّ من بين الأعمال الأدبيّة التي كرّست نفسها لتمجيد الكتاب، والاحتفاء به، عبر حكاية تتأسس على الإلغاز والغموض، وتتكئ أيضا على التلميحات الرمزية، واستدعاء ثيمة السخرية السوداء. كل ذلك قد يستشفّها القارئ كلّما واصل قراءة النص، وأعني هنا رواية، «عزلة صاخبة جدّا» للكاتب التشيكي المعروف بوهوميل هرابال. وقد صدر هذا النص في طبعة فاخرة عن منشورات المتوسط سنة 2017، بترجمة أنيقة للمترجم التونسي منير عليمي.
بمجرّد أن يشرع المرء في قراءة هذا النّص، سيجدُ نفسه، بلا ريب، متورّطا في أحداثه التي يفتتحُها السّارد (هانتا) بوصف المَهمَّة التي أوكلت إليه والمتمثّلة في جمع الكُتب، وتكديسها، وسحقها بآلةٍ هيدروليكية قويّة في شقة مكونة من طابقين في هولشوفيتسه. هكذا بدأت الحكاية، وهو يسرد هذه المهمة التي يعشقها بعدما انغمر فيها لما يربو عن ثلاثة عقود، دون أن تخامره فكرة التخلي عنها، بعدما عشق الكتبَ وروتين تجميعها وإتلافها، ورائحة أوراقها البالية تسعّر الفرح في داخله. منذ أولى الصفحات كانت اللغة متدفقة بجملٍ طويلة تحفلُ بالألفاظ التي ترفع مقدار التشويق لدى القارئ.
قد يظن القارئ، في البداية، أنّ الحكاية ستظلّ مقيّدة في المستودع فقط، وأنّ السارد سيختلقَ عقدة يجعلها نواة مادّته الحكائية، قبل أن يبدأ في التسلل إلى قضايا أعمق، ويشتبك معها. حطّ الرحال في الفلسفة الألمانية، وغاص في قضاياها مسائلا رموزها: كانط، هيغل، شيلينغ، شوبنهاور، ونيتشه… إلخ، وهذا يبين مدى موسوعية بوهوميل هرابال، لأنّه ذكر تفاصيل دقيقة لبعض القضايا التي ناقشها هؤلاء، وتحتاجُ لدارسٍ متخصص، ومطّلع حصيف على كتبهم، حتى يستوعبها. أذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر: فكرة الحساسية عند كانط، نقد نيتشه للحداثة… إلخ. لكن الذي لم أستسغه، لحدّ الآن، هو تمجيده المبالغ فيه للفلسفة الألمانية، وإهماله الجليّ لباقي الفلسفات الأوروبية، وحتى إذا استعرض رمزا من رموز فلسفة أخرى يكون عبر إشارات سريعة ومحتشمة جدّا.
شخّص الكاتب في هذا النّص، بعينٍ فاحصة، الوضع السياسي المتشرذم في التشيك بعد الحرب العالمية الثانية، الذي كان قوامهُ التفكك، وميل نظام الحكم إلى الرّدع والقهر وفرض الرقابة على كل من ناهض جوره الظاهر، دون أن يهمل بوهوميل المجازر التي اقترفها الحزب النازي في هذا البلد الصغير، إضافة إلى وصفٍ عميق للاضطهاد الذي تعرّض لها الكتّاب والمثقفين في التشيك، قبل انفصالها عن الاتحاد السوفييتي خلال العقد الأخير من القرن الماضي. نجح بوهوميل، أيضا، في إبراز المكانة الأسنى التي تتمتّع بها الكتب في بلاده (المعروفة بالكتابة والقراءة على مدى خمسة عشر جيلا)، ولعلّ هذا ما أجّج حماسه الكبير في الذود المُستميت عنها طوال صفحات هذا النّص، واختلاقه لهذه الحكاية الممتعة بغية الاحتفاء بها وتمجيدها، رغم أنّ الظاهر في النّص يثبت العكس. ما ينم عن احتفائه بالكتب هو جعلها نواة مادته الحكائية، وسخريّته من النظام الماسك لمقاليد الحكم المُنشغل بإتلافها منعا للحقيقة والتنوير، بالإضافة إلى الإطراء المكشوف على عادة القراءة. ولتبيان ذلك نقرأ: «أنا أشربُ لأفكّر بعمقٍ أكثر، أسافرُ نحو قلبٍ ما، وأقرأ؛ لأنني لا أقرأ للمتعة، أو لقتل الوقت، أو لأخلد للنوم». ونقرأ عبارة فاتنة ومكثّفة: «حيث يضغط الإنجيل إلى صدره، إلى أن يدخل نصفه إلى جسده. باردا كان كما كان. لكن الكُتب دفّأتني الكتب التي لا أستطيع العيش من دونها».
أثار انتباهي أثناء قراءتي هذا النص تعظيمٌ بارزٌ للغجر، سواء عبر إعجاب السّارد بفتاة غجرية وإسهابه في وصفها بدقةٍ عالية، تشي بحبٍّ جارف يستميلُ قلبهُ، وكذلك رميهم بعبارات توحي بحنوهُ الكبير تُجاه الفئة المَقصية في التشيك؛ الشيء الذي يؤكّد تعاطفه مع هذه الأقلّية التي تعرضت لتمييز شنيع مقارنة بالتشيكيين الأصليين؛ حيث إنهم ظلوا محرومين من أبسط حقوقهم (التعليم، الصحة، إلخ) في هضمٍ واضح للمشاعر الإنسانية التي انتصر إليها بوهوميل هرابال. إنّ وظيفة الرّوائي هي الانتصار للمهمّش والضعيف والمغيّب في الحياة اليومية، وقد أبان بوهوميل مدى استيعابه لهذه الفكرة، حيث منح للغجر تقديرا كبيرا نابعا من التشبّع بقيّم الإنسانية ومبادئها الساميّة، دون أنْ يُعير الأصول أدنى اهتمام. وقد أكّد من خلال ذلك أنّ ما يشتركُ فيه الناس هو كونية الإنسانية، أمّا الأصول فهي تفاصيل ثانوية ليست لها القدرة على صناعة الإنسان الحقيقيّ.
إنّ النظام الاستبدادي، أو دولة الواحد بلغة عبد الله العروي، منشغلُ طوال الوقت بفرض سيطرته وإرهاب الناس، وهذا الانشغال الزائد يجعلهُ متوجسا من المثقفين الرافضين لحكمه، لذا يُسخّر جميع الوسائل لقمعهم واضطهادهم، لكن صوتهم، رغم أنّه يكون مبحوحا في غالب الأحيان بسبب هذا الغيّ، فإنّ كلمتهم تصل، ولو اضطروا إلى نشرها على حساب حياتهم، أو باسم مستعار، أو أنْ تنشر بعد وفاتهم، ليطّلع حينها القرّاء على الوضع السيئ الذي عاشه هؤلاء. ولعلّ صاحب هذا النّص يعد من بين هؤلاء، لأنّه رأى في الكِتاب الوسيلة السحرية والأمينة لتعرية أعطاب المجتمع التشيكي، وتشخيصها، وفضحها. لذلك اختلق هذه الحكاية الغريبة والآسرة.
من حسنات الترجمة، بصرف النّظر عن السجالات الرّائجة الآن التي تُنظّر للترجمة، وتصنّف الترجمات الجيدة من عدمها، هي أنّها تعرفنا على كتّاب نحتاجُ عمرا طويلا لنقرأ لهم، بلغة أقرب للغة التي كتبوا بها، كما أنّها تمكّننا من السبر في خبايا الثقافات الأخرى، وتلقي بنا في فضاءات الكاتب لنعاين الوضع السائد والمشاكل التي تنخرها. هل كان بمقدوري أن أملك تصورا واضحا عن أسرار الوضع السياسيّ السائد في التشيك بهذه الدقة في الوصف، والتشريح، والكثير من السخرية، من دون أن أقرأ نصّ بوهوميل؟
الأغرب من كل هذا هو كيف استطاع بوهوميل هرابال أن يقول كلّ شيء في نصّ روائي قصير لا يتعدّى 110 صفحات من القطع المتوسط؟ إذ استحضر السياسة وما تنضح به، واستدعى حصيلته المعرفية في الفلسفة، وسلّط الضوء على قضايا فكرية محلية، وانتصر للغجر المنكوبين في ذاك البلد الصغير، وانتقد الحداثة ضمنيا التي أفضت إلى إنتاج الآلة والتحول الذي أفرزته على حياة الإنسان بعدما صار بلا معنى. كيف نجح، إذن، في المزج بين هذه الحقول المتنابذة في نصّ روائي متماسكٍ؛ قوامه السرد المتدفق، والجمل الطويلة والمكثّفة، الغارقة في الوصف الدقيق والاهتمام المفرط التي تُغني النّص من دون الوقوع في مصيدة الحشو الذي لا طائل منه، بل يفقد النّص نُضرته. وقصارى القول إنّ بوهوميل ولد ليكون روائيا بارعا.
كاتب مغربي