«قررت أنا وزوجتي ألا نعود ثانية إلى سوريا، حتى لو رحل بشار الأسد.. ربما نقوم عندها فقط بزيارات خاطفة». بنبرة صوت رتيب قالها أبو خالد، أمام جمع من السوريين، الذين وصلوا إلى النمسا قبل بضع سنوات، واستقر بهم الحال فيها، تبادل الآخرون النظرات في ما بينهم، مع قليل من الهمهمة، وبدا أن معظمهم على الأقل يشاطر أبو خالد ضمنيا اتخاذ القرار نفسه.
بالنسبة لهؤلاء ممن نجحوا في الوصول إلى أوروبا، وبقية البلدان الغربية الأخرى، تبدو الحرب التي عايشوا فصولها المرعبة يوما بيوم قد انتهت على الأقل كواقع يومي، خبروا معاناتها وفظاعاتها جيدا، لكن الوضع بالنسبة لمئات الآلاف من اللاجئين السوريين، الذين ما زالوا عالقين في مخيمات اللجوء في دول الجوار، يبدو مختلفا تماما.
ففي بلد مثل لبنان، وفي ظل الظروف القائمة هناك، وطريقة تعامل المجتمع المحلي والسلطات الرسمية مع أوضاعهم، لم يحظ اللاجئون السوريون بشعور الأمان الذي يحتاجه أي لاجئ فار من الحرب وأهوالها، بل إن الحرب التي فروا من نيرانها، يبدو أنها لم تنته بعد، فهي ما تزال تلاحقهم وتحرق خيامهم البائسة. لا تُعرف على وجه الدقة أعداد السوريين الذين اضطروا مجبرين على مغادرة وطنهم إلى دول الجوار القريب منه والبعيد، ومنه إلى أقاصي الأرض، لكن أرقام الأمم المتحدة الأخيرة ترجح أن العدد يقترب الآن من 7 ملايين شخص. وتكشف مأساة النازحين واللاجئين السوريين خارج حدود بلدهم عن مفارقة لافتة في الواقع العربي المُعاش، ففي حين مُنح اللاجئون السوريون، الذين استطاعوا الوصول إلى أوروبا وبقية البلدان الغربية (وهي بلدان لا تمت لثقافتهم ولعاداتهم وأصولهم العرقية بصلة) أوضاعا وحقوقا إنسانية وقانونية، ساعدت كثيرين منهم على نسيان ما عايشوه من فظائع الحرب، ومخاطرالطريق إلى بلدان اللجوء، وبقي اللاجئون السوريون في دول الجوار (وهي الأقرب إليهم، بل والمتماهية معهم اجتماعيا وثقافيا وعرقيا) يتجرعون المعاناة الحياتية والنفسية، بكل تفاصيلها وتعقيداتها اليومية، مضافا إليها هواجس المستقبل.
اللاجئون السوريون في دول الجوار يتجرعون المعاناة الحياتية والنفسية، بكل تفاصيلها وتعقيداتها اليومية، مضافا إليها هواجس المستقبل
من بين دول الجوار كلها تميز لبنان على صعيد المأساة السورية بأمرين: الأول أنه الأقرب جغرافيا إلى مراكز ومناطق الثقل السكاني في سوريا، مع سهولة الإجراءات القانونية للدخول إلى أراضيه، التي لا تزال معمولا بها في سنوات الحرب الأولى على الأقل، ما أهله بالتالي لأن يشكل الخيار الطبيعي والموضوعي، كبلد لجوء واستقرار مؤقت بالنسبة لكثير من السوريين الفارين، والثاني أنه بات الأبرز من بين الدول المستضيفة للاجئين السوريين، على صعيد حوادث الاعتداء والإساءة، التي يتعرضون لها. المفارقة هنا أن الثورة السورية شكلت في بداياتها الأولى لمعظم اللبنانيين، على اختلاف توجهاتهم وطوائفهم، مناسبة لإعادة التعرف على سوريا كبلد مجاور، بمدنه وقراه ومناطقه وأقاليمه، وبشيء من تاريخه السياسي القريب، وقبل كل هذا كوطن لشعب هبّ في سبيل استرداد حريته وكرامته المسلوبة منذ عقود. خطا كثير من اللبنانيين خطواتهم الأولى في طريق إعادة التعرف على سوريا، بعد أن كان هذا البلد ولخمسة وثلاثين عاما مضت، مرتبطا بأذهانهم بالنظام السوري وأفعاله وتدخلاته في لبنان، عسكريا وأمنيا وسياسيا، ولم تكن أبدا محل استحسان ورضا أغلبيتهم، بل سببا لسخطهم على سوريا والسوريين معا. التمييز بين سوريا الشعب، وسوريا النظام، انعكس وقتئذ على ما دوّنه، وكتبه كثيرٌ من اللبنانيين على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي وسائل الإعلام المختلفة، وفيه تعبير صريح عن التعاطف مع ثورة الشعب السوري، ضد نظام خبر اللبنانيون أنفسهم ديكتاتوريته وقمعه، بينما التزمت حفنة من اللبنانيين المرتبطين بالنظام السوري، من سياسيين وكتاب، الصمت المؤقت تجاه ما يجري، واكتفوا بمراقبة تطورات الوضع، وكان الظن يغلب عند معظمهم، بأن مصير النظام الذي استخدمهم لمآربه السياسية والأمنية، واستخدموه لمصالحهم الشخصية، لن يختلف عن مصير نظرائه في تونس ومصر وليبيا. غير أن ما بدا وكأنه شبه إجماع شعبي لبناني من الموقف العام تجاه ما يجري في سوريا، الذي اتسم بإيجابية ملحوظة تجاه الثورة السورية، وما قابله حينئذ من «حيادية وصمت ونآي عن النفس» على المستوى الرسمي، بدأ لاحقا بالتزعزع والاهتزاز، أثر الكشف عن التدخل المباشر لحزب الله، وأطراف لبنانية أقل شأنا إلى جانب النظام السوري، في المعارك والمواجهات، التي كانت تجري على الأرض.
عمد حزب الله المرتبك آنذاك، جراء القرار الإيراني بالزج به في أتون الحرب السورية، إلى جهد إعلامي ودعائي كبير، ليبرر أمام قاعدته الحزبية والشعبية، وأمام الرأي العام اللبناني ككل، أسباب تدخله العسكري المباشر والفج في الأحداث السورية، وركزت حملته على خليط من الأسباب والذرائع، التي تداخلت فيها السياسة ببعديها المحلي والإقليمي، مع الطائفية الصريحة، التي شكلت مادة لا غنى عنها لإيجاد وازع القتال في نفوس عناصره ولضمان حماسة التأييد والمباركة من قبل أنصاره وحاضنته الاجتماعية.
مع حلول عام 2004 كان التحريض الطائفي والسياسي في لبنان والمنطقة ككل قد بلغ ذروته، خاصة مع انخراط إيران وأذرعها الطائفية (بتنسيق كان لابد منه مع الولايات المتحدة وبموافقة ضمنية إسرائيلية) في محاولة لكسر وتعطيل موجات التغيير في المنطقة العربية، وتزامن هذا التحريض الذي سماه البعض «الفتنة الشيعية ـ السنية» مع اندفاع أعداد أكبر من المواطنين السوريين إلى مغادرة بلدهم إلى دول الجوار، ومنها لبنان هربا من تمادي النظام بأعمال القتل والتدمير الممنهج، المترافقة مع تمادي القوى الدولية الفاعلة، أو ما يسمى بالمجتمع الدولي، في غض الطرف عن أفعاله وجرائمه، والاكتفاء بتصريحات وإدانات وعقوبات مدروسة دعائية الطابع. مع تكاثر أعداد اللاجئين السوريين في لبنان، وبروز تجمعات ومخيمات مؤقتة لأكثرهم فقرا، في كل المناطق اللبنانية تقريبا، كانت الأجواء مهيأة لموقف سياسي، وإلى حد ما شعبي في أوساط طائفية معينة، غير مُرحب بوجودهم، مستغلا الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية أصلا، في لبنان، وما تشكله من ضغط على المواطنين العاديين، الذين راح بعضهم ينفس عن غضبه واحتقانه من الوضع العام، عبر استهداف اللاجئين السوريين، أفرادا أو حتى جماعات في أوقات ومناسبات معينة، وزادت عليه السلطات اللبنانية من حين إلى آخر حملات وموجات من المداهمة والاعتقال، في مخيمات اللاجئين بذرائع مختلفة، ومنها العلاقات المزعومة لبعض اللاجئين بجماعات وفصائل سورية مسلحة. مع الوقت تطورت موجة التمييز والاستهداف التي تعرض، وما زال يتعرض لها اللاجئون السوريون في لبنان، لترتدي طابعا طائفيا أوضح عندما عمدت بعض بلديات المدن والبلدات في بعض المناطق إلى حظر تجول ليلي للسوريين المقيمين فيها، بل أقدمت بعض البلديات على طردهم إلى خارج حدودها الإدارية، وفي حالات معينة منعت بلديات أخرى اللاجئين السوريين من دفن موتاهم في المقابر التابعة لها. وهكذا بات اللاجئ السوري في لبنان، خاصة الأكثر فقرا بنظر شريحة من اللبنانيين، إما شريكا (باعتباره مهجّرا محسوبا على مناطق الثورة والمعارضة السورية) في «مؤامرة دولية « تستهدف المقاومة في لبنان، التي يمثلها حزب الله، وما يسمونه محور المقاومة في المنطقة، أو مغايرا طائفيا ودينيا حاله حال اللاجئ الفلسطيني، أو منافسا للبناني في تحصيل الرزق، أو متهما ومشبوها دائما في مخالفات جنائية وقانونية. وقد لعب الإعلام اللبناني الحزبي والموجه بمعظمه طائفيا وسياسيا دورا لا يُستهان به في بلورة هذه الاتهامات والتشجيع عليها.
راكمت هذه التجارب المريرة بطبيعة الحال نظرة شك، بل وعداء متبادلة بين شريحة اللبنانيين الرافضين لوجود اللاجئين السوريين من جهة، والسوريين بشكل عام، الذين بات كثير منهم وتحت وطأة شعور الإهانة والغبن واضطهاد كل ما هو سوري، يميل بدوره إلى خطأ التعميم، ليطال كل ما هو لبناني، في تجاهل لمواقف شرائح شعبية واجتماعية لبنانية، ما تزال على تعاطفها مع السوريين وثورتهم، وفي تجاهل أيضا لأصوات ناشطين وإعلاميين ومثقفين لبنانيين من مختلف الاتجاهات والطوائفن ترفض وتستنكر حالة الظلم والاستهداف التي يتعرض لها اللاجئ السوري في لبنان. تمثل أصوات العقلاء في لبنان القادرين على بلورة استنتاجاتهم ومواقفهم الخاصة تجاه الأحداث، والوقائع المحلية والإقليمية، خاصة تلك التي يتأثر بها بلدهم، والمتحررين بالتالي من تبعية القطيع المُسير طائفيا، تمثل تذكيرا لبقية اللبنانيين بالأهمية الحيوية لسوريا، كبلد مجاور والوحيد بالنسبة للمسافر وحركة البضائع اللبنانية نحو العالم الخارجي عن طريق البر، مدركين أنه لا مفر أمام جميع اللبنانيين، وإلى أي فئة انتموا من علاقات أكثر من جيدة، بل ومتميزة مع الشعب السوري ذاته، الذي يشكل في نهاية المطاف ثابتا ديمغرافيا واجتماعيا وتاريخيا في محيطهم المباشر، غير قابل للإزالة والاندثار مهما تكالبت عليه المصائب والمحن والاستهدافات.
كاتب فلسطيني
بصراحة عدم العودة شئ لا يخدم المجتمع او الامة او حتى الوطن. انه كلام مبدئى لان الاخوة حديثين الوجود فى بلد المهجر. لكن عندما تتحسن الظروف يتغير التفكير فانا ممن هاجر لسنين طويلة ولكنى الان عدت من حيث بدات ولله الحمد و المنة.