بزغ اسم اعتدال الشوفي بعد فوز روايتها الأولى «هذيان الأمكنة» بجائزة كتارا للرواية غير المنشورة عام 2022 ثم بعد نشرها روايتها الثانية «شجرة التوت» وبهما احتلت مكانها اللائق بين الروائيين السوريين.. وباعتبار أني لم أطلع على روايتها الفائزة «هذيان الأمكنة» حتى الآن، سأقصر حديثي على زاوية واحدة أرى أنها ذات أهمية خاصة في روايتها «شجرة التوت» الصادرة 2023 بوصفها عملاً يجمع بين النفس الدرامي والنكهة الشعبية الجبلية، التي تؤصّل لهوية المكان الجغرافية والديمغرافية، وتستوفي معطياته العمرانية وطبيعة علاقاته في محيطه الجبلي المنفتح على أفق وطني وإنساني عام.
اللافت في تجربة الكاتبة أنها بزغت فجأة كالكمأة الصحراوية ناضجة ومكتملة اقتحمت جنس الرواية، بعد كمون وانصراف مديدين إلى شؤون الأسرة والحياة الاجتماعية، وبومضة سريعة أعلنت عن نفسها كاتبة، تفيض على مكانها الجبلي، وتنتشر في المساحة والزمن السوريين، وتتموضع كإضافة طيبة على منتجي الثقافة المبدعين. وعبر رواية جادة، ترشح بعبق الأنوثة وحدب الأمومة المتوائمة مع خصائص الكتابة الروائية وثقافتها، الملامسة لعلم النفس والفلسفة والتاريخ والأنثروبولوجيا، إضافة للخبرة بطبائع مجتمع ريفي ذي طابع انتقالي، ثم إنها لفتت نظر القراء بلغة سردية خصبة وإبداعية مرنة، تتكيف مع اللحظة السردية، وتبدّل المواقف وتداعيات الأحداث. وبامتلاكها لهذه الأدوات الضرورية، وتمكنها من ترتيب المبنى الروائي الإطاري الناظم لعناصر العمل وبالتفاعل الجدلي الإيجابي بينه وبين المتن الحكائي الملائم، تحقق للكاتبة فضاء روائي أبعد من حدوده الجغرافية في محافظ السويداء وامتداداتها، وزمني تشابكت فيه وتجادلت معطيات الحاضر الفيزيائية ممثلة في (يقين) الموظفة ومع تهيئات ميتافيزيقية من زمن مضي بأهله قبل مئة عام، ممثلا ً في (حفيظة)، لكن ثقافته وصراعاته، ظلت مؤثرة في الحاضر ومهيمنة على لا وعي الأرملة (يقين) فكان لا بد لها من أن تتحرر منه لتستقل بشخصيتها وحرية خياراتها كأنثى وكإنسان، ثم الوصول إلى الحرية المنشودة وغير المنتقصة.
إن إدراك أن الحرية معطى أساسي في هذه الرواية، وأنها هي رسالة الكاتبة يبنى على وضعها في بؤرة الحدث ومركز الصراع، ومناضلة المرأة لواقعها المتخلف ولتحقيق ذاتها الحرة وكيانها المستقل انطلاقا من الوضع الهجين للمرأة في مجتمعها الذكوري الأبوي، وحيث يقين الأرملة أحد نماذجه التي تحتمل عسف الحاضر، بوصفه امتدادا لماضي يمتد لأكثر من قرن من زمانها السردي، وحيث أن (يقين) هي الشخصية الورقية الافتراضية التي تعيش في تلك الازدواجية المربكة، فهي موظفة وأم لطفل وتدير شؤونها بكفاءة عالية، ولكنها مع ذلك تعيش قلق المرأة وتوجسها، لأنها لم تزل ترزح تحت سقف مفاهيم مجتمع الذكورة وقيمه البائدة المعبر عنها بمعاناتها وشعورها بأنها استمرار لشخصية (حفيظة) الفتاة التي ماتت مقتولة ومغتصبة قبل مئة عام، لذلك فهي تعيش كوابيس مقلقة، تستحضر فيه الماضي بقوة عبر الحاضر، فكأن زمن المرأة لم يتغير ولم تتخلص من الهيمنة الذكورية، وما زالت بحاجة لتناضل من أجل حريتها. من هنا يمكننا أن نحكم على الحالة الرمزية التي أرادتها الكاتبة، ليس بوصفها سرداً لحالة تقمص أو تأكيداً لها، بل بوصفها استثماراً ذكياً لهذا الوعي العام في مجتمعها بقضية طوباوية إشكالية، كانت وستبقى مجالا لآراء واجتهادات لا تصل إلى نتيجة علمية حاسمة. وبمعنى آخر لقد استحضرت الكاتبة ظاهرة التقمص بوصفها حالة انتقال مديدة بين جيلين غير متصلين لتؤكد مضمونها الرمزي، لا بوصفها حالة استثنائية في ظاهرة التقمص، بل لأن السرد الروائي يجب ألا يخرج من دائرة (اللايقين) إلى قطعية الواقع المعيش وهنا في معايشتها كحالة حوارية تكمن أهمية الفكرة وجماليتها. ولكن لأجل إدراك هذا البعد الجمالي وأهميته، لا بدّ من العودة إلى حوار (يقين) مع طبيبها النفسي وهو يتقصّى تفاصيل حياة مريضته، ويركز على أحلامها وكوابيسها حتى ساعدها على تذكر حادثة اغتصاب حفيظة قبل قرن.
وبهذا الكشف تطوي صفحة حفيظة، أي تتحرر منها وتصل إلى حريتها لتعيش حياتها الاجتماعية والعاطفية، وتتابع كفاحها مع مجتمعها على مستويات عدة.
لقد أجادت الكاتبة في ترك (يقين) معلقة في دائرة التخمين والاحتمال، عبر الحوار من دون القطع بالنتائج لأن (اللايقين) فكرة جوهرية في السرد الروائي، فهي تفسح في المجال لتعدد الاحتمالات وتصادم الآراء ولمشاركة القارئ في إنتاج النص، ما يعزز المناخ الديمقراطي في الرواية، وهو ما تجلى في التنقيب الفلسفي والمتكئ على علم النفس البشرية في جوانب تلك الشخصية وملابساتها حين كانت لم تزل عالقة في ازدواجية الحاضر اليقيني (الواقعي) والماضي التخميني الميتافيزيقي بشخصية (حفيظة) وتعمل لتحرير نفسها وجسدها من كوابيسه المقلقة ومن شبح (حفيظة) المهيمنة على لا وعيها.
كذا تتناغم شجرة التوت وتورق في قرية دير الطواحين، بوصفها ابنة أصيلة للبيئة الواقعية وبوصفها دلالة رمزية يتناغم تجدد أوراقها المتساقطة مع تحولات صراع يقين الوجودي مع ذاتها ومحيطها ومع عقل الماضي الذكوري المتجذر فيه، وباعتباره الخط الحامل لصراع جندري في عصر المرأة وعبره بدت حياة يقين صراعاً نسوياً وجودياً في جبهة حرية المرأة وجبهة الحريات العامة في آن واحد.
كاتب سوري