تونس- “القدس العربي”: قال المؤرخ التونسي د. عدنان منصر إن عملية “طوفان الأقصى” تمثل “كفاحاً مشروعاً” ضد الاحتلال الإسرائيلي، معتبراً أن محاولة البعض تحميل المقاومة الفلسطينية مسؤولية العدوان على غزة، ناتجة عن عدم إدراك طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي من جهة، ومحاولة لمساندة العدوان الوحشي ضد الشعب الفلسطيني الأعزل من جهة أخرى.
وبعد خمسة أشهر من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، يختلف المراقبون في توصيف ما يحدث، هل هو “معركة غير متكافئة” بين المقاومة والاحتلال، أم أنها حرب إبادة وتدمير ممنهج تخوضها إسرائيل ضد سكان القطاع؟ أم أن الأمر مجرد “مبالغة في الدفاع عن النفس” رداً على “هجوم” المقاومة، كما تؤكد بعض الأنظمة الغربية.
ويرى منصر، في حوار خاص مع “القدس العربي”، أن “هناك إشكالاً في تعريف ما يجري “لأن اختيار المصطلحات والمفردات ليس في نهاية الأمر سوى تكييف لموقف سياسي مما يحصل. بالنسبة لي، عندما نتحدث عن حرب فهذا يفترض بالفعل أن يتعلق الأمر ببلدين متحاربين يضع كل منهما جيشه في مقابل الجيش العدو. تقديم الأمر بهذه الصيغة مخالف للوقائع على الأرض طبعاً، لأن المغالطة هنا بالذات هي الهدف”.
ويضيف: “الأمر موضوعياً يتعلق بحركة تحرر، بمجهود تحرري يستعمل، من ضمن ما يستعمل، الكفاح المسلح، وهو كفاح مشروع بمقتضى القوانين الدولية نفسها. تقديم الأمر على أنه حرب بين جيشين ينزع هذه الشرعية الأخلاقية والسياسية إذاً، وهذا هو الهدف الأصلي من السردية الصهيونية والغربية إجمالاً التي حاولت التغطية على الجرائم الصهيونية، خاصة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول”.
ويستدرك منصر: “السردية الموضوعية تقول شيئاً آخر مختلفاً تماماً، وهو أن الأمر يتعلق بحركة تحرر وطني، وأن هذه الحركة مخولة أخلاقياً باستعمال كل الوسائل للدفاع عن كيانها الوطني والثقافي والسياسي والبشري، في حين لا يملك الاحتلال أياً من الحقوق الأخلاقية التي يدّعيها”.
منصر: ما حصل في البرلمان التونسي حول مشروع قانون تجريم التطبيع يؤكد أن الرئيس مستعد لإظهار برلمانه عاجزاً لمجرد أنه رافض للفكرة من الأساس
ويتابع بقوله: “هناك إذا في فلسطين حركة تحرر من استعمار يستعمل كل الوسائل، بما في ذلك الإبادة الجماعية وكل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية من أجل إعاقة تحرر الشعب الفلسطيني. هذا هام جداً لأنه يتعلّق بسردية الصراع، وهذه السردية هي العمود الفقري للصراع”.
وحول تباين ردود فعل الأنظمة العربية إزاء عملية “طوفان الأقصى” وتحميل بعضها المسؤولية لحركة “حماس”، قال منصر: “لنتناول الأمر من زاوية موضوعية ومجردة؛ هل جرائم الإبادة التي تشنّها الصهيونية على الشعب الفلسطيني هي أمر مستحدث أدى إليه هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول؟ أم أنه تقليد قديم ملازم للمشروع الصهيوني منذ يومه الأول في فلسطين؟ في سنة 1948 مثلاً، لم يكن هناك 7 أكتوبر، ولاحقاً أيضاً، لم يكن هناك 7 أكتوبر. وطيلة ثمانين عاماً لم يكن هناك 7 أكتوبر، ولكن الإبادة لم تتوقف يوماً”.
وأضاف: “تحميل المسؤولية للمقاومة هو رد فعل منكر للوقائع التاريخية وعلى الأرض، وهو يفسر بحالتين: عدم إدراك طبيعة الصراع في الحد الأدنى، ومساندة الاستعمار الوحشي الذي تقوده إسرائيل في الحد الأقصى. هناك حدّ وسط طبعاً، وهذا تمثّله سلطة محمود عباس التي تعتقد أن مصلحتها إلى جانب إسرائيل وضمن أوسلو. هذه إذاً ردود فعل نابعة من قراءة المصلحة، ومن سيطرة الوهم الذي تمثله إسرائيل على الوعي العربي الرسمي بالخصوص”.
وتابع منصر: “لقد استغرقوا عقوداً طويلة من أجل ترسيخ هذه الرؤية، وهذا في الحقيقة أحد الأهداف من التطبيع. المسؤول عن التدمير هو إسرائيل، والمسؤول عن المجاعة هو أيضاً إسرائيل، وكذلك المسؤول عن الإبادة والتهجير”.
وأوضح أكثر: “عندما تقول إسرائيل إن “حماس” هي المسؤولة فهذا أمر متوقع، ولكنه خطاب لم يعد مقنعاً حتى للإسرائيليين، فما بالك للغربيين. يأتي حينئذ دور الآخرين، وهم عرب ومسلمون، للتعبير عن نفس الفكرة، ولكن من زاوية أخرى، أي من زاوية الشفقة على الفلسطينيين”.
وأضاف: “هذان فاعلان موجودان باستمرار في كل صراع من أجل التحرر، ولم يخلُ منهما بلدٌ خاض معركة استقلاله عن الاستعمار. هناك الاستعمار، وهناك أبناء الاستعمار، وهناك المقاومة. أبناء الاستعمار هم أولئك الذين ربطوا مصالحهم بالاستعمار، واعتقدوا أنه لا يمكن إزالته. عندما يحتدّ الصراع يكون وقت تقديم خدماتهم قد حان، وهذا ما يحصل اليوم بالضبط”.
ورغم التسليم بأن عملية “طوفان الأقصى” هي “قرارٌ فلسطيني بحت”، إلا أن البعض يتحدث عن “دورٍ ما” لطهران وموسكو فيها، على اعتبار أن الطرفين يجنيان بعض ثمارها عل الصعيد الإقليمي والدولي.
يعلق منصر على ذلك بقوله: “ما الذي يدفع قوى تتدخل بنشاط في الصراع، بالأموال والأساطيل والذخائر والدعاية والفيتو للقول إنها تملك شرعية هذا التدخل، وأنه ليس من حق المقاومة في فلسطين أن يكون لها أصدقاء وحلفاء يدعمونها؟ هذا أمر على علاقة شديدة بالسردية التي تحدثنا عنها سابقاً. طبيعي أن يكون للمقاومة أصدقاء، بل هذا مطلوب لأنه ينطلق من واجب أخلاقي وسياسي وإنساني وهو مساعدة شعب على نيل حريته والتخلص من استعمار ظالم وإجرامي بشع”.
ويوضح بقوله: “ما يحصل من هجمات انطلاقاً من اليمن والعراق ولبنان، وحتى سوريا، أمر يحقق غايتين: أن الأمر يتعلق بصراع ذي بعد إقليمي ودولي، لأن المشروع الصهيوني لا يستهدف فلسطين فحسب. وأنه يتعلق أيضاً باستهدافٍ لأمة تحمل نفس الثقافة ونفس المصالح. فلسطين هي الجزء من الأمة الذي يُستهدَف بالحصار والقتل والتدمير والإبادة، لكنه تكثيفٌ لكل الصراع ضد الظلم والهمجية اللذين تمثلهما اليوم إسرائيل”.
ويضيف: “فلسطين تكثيف لكل المبادئ الأخلاقية والإنسانية، وإسرائيل تكثيف لكل نقيض أقصى لتلك المبادئ. هذا يجعلنا معنيين بالصراع، مثلما فهم الغرب أنه معنيّ به أيضاً. أن تكون إيران إلى جانب المقاومة فهذا أمرٌ يشرف إيران ويشرف المقاومة في الوقت نفسه، كما يشرف قيم الحق والعدل والإنسانية. كذلك الأمر بالنسبة للبنانيين والعراقيين واليمنيين”.
ويستدرك بالقول: “أما أن تكون هناك تبعات جيوستراتيجية دولية لما يحدث، فهذا أمر طبيعي. هذا نتيجة للتكثيف الذي يحمله الصراع العربي الإسرائيلي لأنه في الوقت نفسه صراعٌ ذو أبعاد دولية. فهناك قطب غربي يريد الاستفراد بالقرار والمصلحة والقوة، وهناك قوى تقاوم هذا المخطط. من مصلحة جميع المستهدفين بهذا المخطط أن يتحدوا إذاً لإفشاله، لأن وجودهم مرتبط بهزيمته”.
منصر: السلام الحقيقي يمرّ عبر إزالة الاحتلال وليس عبر التفاوض معه، والانتصار يمرّ عبر الكفاح الوطني المسلح وليس عبر تسوّل التنازلات الصغيرة
ويوضح منصر: “هذا منطق بسيط: ما الذي يعني أستراليا البعيدة آلاف الأميال عن فلسطين بأن تقف إلى جانب إسرائيل؟ المصلحة الإستراتيجية والارتباط بالغرب. هذا نفس ما يدفع روسيا وإيران والمقاومة لتنسيق أنشطتها: مقاومة الاستعمار الغربي والهيمنة الغربية”.
ويرى عددٌ كبير من المراقبين أن عملية “طوفان الأقصى” تشكل مرحلة مفصلية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وأن ما بعد حرب غزة ليس كما قبلها.
يعلق منصر على ذلك بقوله: “بالفعل، فقد كان توقيت عملية الطوفان خارقاً بجميع المقاييس. لقد جاء في سياق أقصى التوسع الصهيوني في المنطقة عبر التطبيع وعبر تعميق دور إسرائيل كقوة ردع استعماري أقصى في المنطقة. لقد كانت هناك محادثات تطبيع مع السعودية مثلاً، واتفاقية تعاون عسكري وأمني إسرائيلي مغربي في شمال إفريقيا، وتمدد إسرائيلي (عبر الإمارات خصوصاً) في القرن الإفريقي واليمن وآسيا الوسطى. جاءت العملية وإسرائيل في أوج جبروتها فكسر شوكتها وأوضح الطريق، وأن سلوكه والانتصار فيه ممكن”.
ويعتبر أن إسرائيل “هي، في نهاية الأمر، مجرد نمر من ورق عندما تتوفر العزيمة الصادقة والرؤية الواضحة، وهذان هما المقومان الأساسيان في عملية الطوفان. اُنظر فقط إلى اسم العملية: الأمور لن تكون كما قبل السابع أبداً. هناك مشهد قديم انتهى، ليحل محله مشهدٌ جديد تماماً. هذا المشهد الجديد يخترق فضاءات إستراتيجية أخرى، امتداداً جغرافياً وعمقاً سياسياً”.
ويوضح أكثر: “هناك تحولات كبيرة تحدث في الغرب اليوم بفضل ما يجري في غزة، ولا يتعلق الأمر بالمظاهرات فقط، بل بالتمثلات التي غدت تحملها الأجيال الأوروبية الشابة للصراع. هذا يفتح على تطورات كبرى في الوعي الإنساني ويعطي للقضية الفلسطينية زخماً كثيفاً ويعيد وضعها باقتدار على الساحة الدولية”.
ويضيف منصر: “هناك لدى فئات متوسعة باستمرار من الغربيين اليوم وعي يزيد كل يوم بالخطر الذي تمثله الصهيونية على البشرية، ووعي آخر بعمق تورط حكوماتهم في المظالم البشعة التي تجري على الأرض، وارتهان النظام السياسي العالمي للصهيونية والاستعمار”.
ويتابع بالقول: “هناك لدى أبناء القضية اليوم قناعة لن يغيرها شيء: السلام الحقيقي يمر عبر إزالة الاحتلال وليس عبر التفاوض معه، والانتصار يمر عبر الكفاح الوطني المسلح، وليس عبر تسول التنازلات الصغيرة. وهذا مهدد لكل النظام العربي، وهو ما يفسر أن كل هذا النظام ينتظر سقوط المقاومة وانتصار إسرائيل، لأن هذا يرسخ نظرته للواقع ويعيده لدوره الذي عصف به طوفان الأقصى. هذه جميعها أنظمة أوسلو، وسلطة عباس ليست إلا إعادة إنتاج للنظام الرسمي العربي المتعايش مع الاستعمار والصهيونية والهيمنة الغربية. أصبحنا نفهم كل ذلك بوضوح الآن، وبفضل الطوفان”.
وحول السيناريوهات المطروحة لنهاية الحرب المتواصلة في قطاع غزة، يقول منصر: “يجب أن نلاحظ شيئاً في البداية، وهو أنه مضت سنوات طويلة لم نعد نسمع فيها كلمة واحدة عن حل الدولتين. لم يعد طرح العبارة إلا بعد السابع من أكتوبر، وهذا فيه اعتراف من رعاة اتفاقية أوسلو بأن أوسلو فشلت تماماً”.
ويضيف: “ما لم يقله الأمريكيون والأوروبيون هو أنهم كانوا مسؤولين عن هذا الفشل، بل إنه كان فشلاً مخططاً له بإمعان، وصدقته السياسات المتبعة منذ ذلك الوقت، بما فيه غض النظر عن توسع الاستيطان في الضفة الغربية. واستغرق الأمر حوالي ثلاثين عاماً ليتأكد الجميع، بمن فيهم “أنصار السلام” من العرب، بأن كل المسار كان نوعاً من التحايل السياسي على الحقوق الفلسطينية، وأن خطة كاملة قد وضعت من أجل الالتفاف على ما بقي من وجود فلسطيني في الأراضي المحتلة”.
ويعتبر منصر أن مسار مدريد “جاء لإجهاض الانتفاضة، وظن الفلسطينيون في منظمة “فتح” أنهم حصلوا على اعتراف بحقوقهم، أو بالحد الأدنى منها. كان مساراً لوأد المقاومة لم ينتج سوى مزيد من الصهاينة في المنطقة واتخذه بقية العرب أو بعضهم مبرراً للتطبيع”.
ويضيف: “السياق اليوم مشابه، حيث إن الهدف من عودة مصطلح “حل الدولتين” للتداول هو وأد المقاومة والحقوق الفلسطينية. يعلم الفلسطينيون اليوم ذلك جيداً بكل تأكيد، ولكن سلطة رام الله لا تزال تصدق الأمر، ولكن هذا موضوع آخر تماماً. فمن يتحدث عن حل الدولتين من العرب ويؤمن به، لا يعرف شيئاً عن طبيعة المشروع الصهيوني، ولا يفهم ما يجري هناك منذ أكثر من مئة عام”.
منصر: ما دفع أستراليا البعيدة آلاف الأميال عن فلسطين للوقوف إلى جانب إسرائيل هو نفس الذي يدفع روسيا وإيران لدعم المقاومة
وأوضح بالقول: “المشروع الصهيوني هو مشروع استعمار عنصري مدعوم تماماً من الغرب لاعتبارات وسياقات يطول شرحها. في نظر هذا المشروع لا وجود أصلاً للفلسطينيين، أتحدث هنا عن وجود شعب فلسطيني وثقافة فلسطينية، فما بالك عندما يتعلق الأمر بالمشاركة في الدولة أو في القرار. بالنسبة لإسرائيل، لا وجود للعرب حتى العراق، وليس في فلسطين فقط. ما يعني أن الأمر يتعلق بمشروع متوسع باستمرار، مستند إلى القوة العمياء وإلى مساندة الغرب بطريقة غير محدودة”.
ويتساءل منصر: “هل يمكن الحديث مع الإسرائيليين عن “حل الدولتين” في حين أن خططهم هي الإبادة والتهجير؟”. ويجيب بالقول: “إطلاقاً لا. فالأمر لا يستوجب إلا المقاومة، والحرب التي يخوضها الفلسطينيون هي حرب بقاء، لا حرباً من أجل مكان يسمح لهم به الإسرائيليون في فلسطين”.
ويعلق على حادثة قيام الجندي الأمريكي آرون بوشنل بإحراق نفسه أم سفارة إسرائيل، بالقول “الأمر يتعلق بمؤشر، من ضمن مؤشرات أخرى عديدة، على تحول عظيم، وهو يحصل بفضل تضحيات الفلسطينيين. ثلث الشباب الأمريكي اليوم يعتقدون أن إسرائيل دولة معتدية، وأنها تقوم بحرب إبادة غير مبررة على الفلسطينيين، وأنها ترتكب أبشع الجرائم ضد الإنسانية والتطهير العرقي، وأنه ينبغي إيقافها عن القيام بذلك”.
ويعتبر منصر أن “هذه النسبة تتوسع باستمرار، وهي ظاهرة لا تخص الولايات المتحدة فحسب. الآن، وفي خضم الانتخابات التمهيدية الأمريكية، هناك محاولة من إدارة بايدن لتصويب بعض المواقف بسبب الغضب الذي يشق قواعد الحزب الديمقراطي من مساندته المبالغ فيها لإسرائيل”.
ويضيف: “المظاهرات الضخمة في أكثر الدول إسناداً لإسرائيل هي مؤشر آخر، وهي توحي بتحول عميق في الرأي العام الغربي تجاه السردية السائدة. وهذا يحصل بفضل المقاومة، وبفضل السابع من أكتوبر. اليوم يكتشف هذا الرأي العام أن حكوماتهم شريكة في الجرائم الواسعة التي تحصل، وأن هذه المشاركة تتم رغماً عن إرادة الرأي العام، وبغض النظر عن مصالح بلدانهم. يعني ذلك أن هناك وعياً متزايداً بتبعية حكوماتهم لإستراتيجيات مضادة للمصالح الوطنية الحقيقية لتلك البلدان، أي أنها حكومات تابعة”.
ويتابع بالقول: “من كان يجرؤ على التنبؤ بكل هذه التحولات قبل السابع من أكتوبر؟ ما يحصل عظيم لأنه يسقط السردية الصهيونية التي حاولت الترسخ في الوعي الإنساني وباستعمال كل الإمكانيات طيلة ثمانية عقود. من أسقط هذه السردية هي المقاومة وليس أوسلو. أوسلو كانت تعميقاً لسردية إسرائيل الاستعمارية الصهيونية”.
من جانب آخر، يرى منصر أن الموقف الرسمي التونسي -الذي يعتبره البعض متناقضاً- حول العدوان على غزة يتسم بـ”الشعبوية”.
ويفسّر بقوله: “عندما نفهم السياق الذي يقع فيه إرسال هذه المؤشرات المتناقضة، فإن الأمر يصبح مفهوماً. فنحن تحت حكم شعبوي، والتناسق ليس أبداً غاية الشعبويين. والغاية هي المزايدة، وربح التأييد بناء على تلك المواقف المزايدة، وخاصة بناء على الغموض الذي يحيط بها”.
ويضيف: “الرأي العام يطرب لسماع شعارات مثل أننا لا نعترف بإسرائيل من الأصل لذلك لا نستعمل كلمة “تطبيع”. نفس الرأي العام يطرب لأننا نزايد على مواقف الجامعة العربية لأن هذا الرأي العام يحتقر الجامعة العربية. والهدف دائماً هو مجاراة المزاج العام، وأن تخرج الشعبوية رابحة في كل الحالات. في المقابل، هناك أشياء لا تقال أبداً، لأنها تنسف مقولة السيادة التي ترفع شعارها الشعبوية، مثل أن الذهاب في بعض المواقف يمكن أن يتسبب في ضغوطات غربية على تونس، خاصة وأن شركاءها الاقتصاديين الأساسيين هم من المساندين لإسرائيل”.
ويتابع منصر: “ما حصل في البرلمان حول “مشروع قانون تجريم التطبيع” ينبئنا بأشياء أخرى: الرئيس مستعد لإظهار برلمانه عاجزاً لمجرد أنه رافض للفكرة من الأساس. وقعت خروقات عديدة في هذا الموضوع، ووقع إيقاف مناقشة المشروع بعد أن صوّت البرلمان على فصلين من المشروع، واعتقادي أنه لن يعود للموضوع مطلقاً بسبب اعتراض الرئيس”.
ويستدرك بالقول: “يجب أن نقول أيضاً أن مشروع القانون كان سيئاً، وأن نواب الرئيس أرادوا اكتساب مصداقية ما بالاستفادة من السياق العام، فقدموا مشروعاً مستعجلاً وشعبوياً، فسقطوا بالضربة القاضية في مواجهة شعبوية الرئيس نفسه. شعبويتان فاشلتان في مواجهة بعضهما البعض”.