القول أن المؤسسة العسكرية كانت في خدمة تيار أول أيديولوجي… لأجل تصفية تيار ثان… وهي الان في خدمة التيار الثاني… لأجل تصفية التيار الأول… وهم أول، والقول أن المؤسسة العسكرية كانت في خدمة تيار عرقي… وهي الآن في خدمة التيار الآخر… وهم ثان. والقول بأن قيادة الأركان كانت ضد التغيير الجذري بداية التسعينيات، لكنها اليوم معه قلبا وقالبا… وهم ثالث.
الوعي المغشوش
من نماذج الوعي المغشوش، التفكير في أن قيادة الجيش كانت متحالفة منذ كانون الثاني/يناير 1992 مع تيار أيديولوجي واستئصالية لتيار آخر، وأصبحت العكس منذ إقالة الرئيس بوتفليقة… وعلى هذا الأساس يتم اصطفاف البعض موالاة ومعارضة في الموقف من خطابات وقرارات القائد صالح. فقد تكون مقدمتك صحيحة نسبيا لكن نتيجتها خاطئة لانعدام العلاقة العلية بينهما.
عندما يسوق هشام عبود لأطروحة أن القايد صالح عنصري يجري كره القبائليين في عروقه، انطلاقا من اعتقال رجل الأعمال ربراب، هو يقول كلاما عنصريا خطيرا جدا على الوحدة الوطنية وعلى الرؤية الصحيحة لما يجري فعلا في هرم السلطة، لا يملك أي سند واقعي، بل تسقطه كثير من الأدلة الواقعية.
وحينما يروج محمد جربوعة ونعيمة صالحي وغيرهما، لأطروحة أن الجيش أصبح الآن نوفمبريا باديسيا، ومهمته الآن هي القضاء على الزواف وأذناب فرنسا عكس سابقه الذي كانت قيادته متحالفة مع هؤلاء وقتلت من الوطنيين والإسلاميين ما لا يعد ولا يحصى خلال العشرية الحمراء.
العشرية الحمراء
خلال تلك العشرية، قتل مواطنون كثر، ظلما وعدوانا، ومن جميع التيارات الأيديولوجية، بل وحتى من الناس العاديين الذين لم تكن لهم أي إنتماءات إيدبولوجية… بعضهم قتلوا بوشاية كاذبة، والبعض الآخر قتلوا لأنهم كان يحافظون على الصلاة في المسجد، و بعض ثالث قطعت رؤوسهم بالعشرات وألقيت على قارعة الطريق انتقاما لقتل رجل واحد في إطار سياسة إرهاب الإرهابيين أو نقل الرعب إلى الضفة الأخرى.
وكذلك التصفية الأيديولوجية للصحافيين والكتاب لم تطل تيارا واحدا كما يروج كل طرف عن ضحاياه فقط، والأسماء كثيرة وكثيرة جدا جدا، للبرهان على ذلك.
كانت السلطة تعتقل عقول الإسلاميين، تنقل بعضهم إلى محتشدات الصحراء وتقتل بعضهم… بتهمة العلاقة مع الفيس.. وكانت الجماعات الإسلامية المسلحة تغتال بعض الكتاب والمفكرين بسبب أيديولوجيتهم وأفكارهم فقط أو لمواقفهم السياسية من توقيف المسار الانتخابي… وكانت هذه الجماعات تقتل الصحافيين لمجرد اشتغالهم في مؤسسات عمومية… أو لأنهم من تيارات أيديولوجية مختلفة.
ولهذا أعجب حينما يصرخ انفصاليو الماك… مع مغنيهم العنصري أولحلو.. ولا يذكرون إلا ضحايا منطقة القبائل ورموزها بالنسبة إليهم.! وأغضب حين يحيي الصحافيون ذكرى الصحافيين الشهداء في العشرية الحمراء، ولا يوردون إلا أسماء صحافيي التلفزيون الجزائري وصحافيي جرائد معينة، ولا ينبسون ببنت شفة عن الشهداء : صالح قيطوني وعبد الحليم فقراوي (من النور والهلال) وجمال الدين فحاصي (من الفرقان)!..وغيرهم… وأعجب أيضا حين يذكر الناس الشهيد الطبيب الهادي فليسي… ويقفزون عمدا على الشهيد البروفيسور بلحرش!… والأمثلة كثيرة جدا في هذا المجال.
على الحراك الشعبي أن يستأصل هذه القراءات الانتقائية التبعيضية للمأساة الجزائرية خلال العشرية الحمراء… ويؤسس لقراءة توحيدية جامعة لا تفرق بين الضحايا على أساس العرق أو اللغة أو الانتماء السياسي والأيديولوجي… ويوزع مسؤوليات الكارثة على جميع الفاعلين في تلك المرحلة سياسيين وعسكريين.
بين خالد نزار وقايد صالح
داخل المجلس الأعلى للدولة الذي أسس بعد توقيف المسار الانتخابي، إثر اغتيال بوضياف، كان الجنرال خالد نزار المعروف بقائد الاستئصاليين تحت إمرة علي كافي رحمه الله الموصوف في مذكرات خالد نزار نفسه بـ»البعثي الأصولي»… والسبب أن نزار كان يرفض المصالحة الوطنية والحوار مع الجبهات الثلاث ومؤمنا فقط بالحل الأمني الاستئصالي خلافا لعلي كافي، ومصطلح «بعثي أصولي» في مذكرات نزار غير صحيح ولا دقيق… كيف ذلك ونزار نفسه اعترف في حوار ذات يوم… أنه يعشق البيرة في حين أن علي كافي يهوى الويسكي… والحقيقة أن خالد نزار كان هو من يقود المجلس الأعلى للدولة بدعم من رضا مالك وعلي هارون… أما تيجاني هدام فكان الديكور الديني الذي يجمرك قرارات المجلس… لهذا لم تتحرك المفاوضات مع مسلحي الجيش الإسلامي للإنقاذ إلا بعد رحيل خالد نزار عن السلطة (رغم بقاء ظلاله) واقتناع الجميع بفشل الخيار العسكري… في تلك المرحلة الاستئصالية كانت السلطة لا تستهدف جميع الإسلاميين، كما يروج البعض اليوم، فقد كان هناك من تحالف معها وبرر توقيفها للمسار الانتخابي، وكان يدافع عنها في المنابر الدولية… وكانت الحرب سياسية- إعلامية- أمنية… أكثر منها ثقافية – تربوية.
التغيير الجذري
شخصيا لا أعتبر خالد نزار رغم اتهامه لخصومه بالبعثيين الأصوليين، شخصية تفهم في الأيديولوجيا وعالم الأفكار، وهو في طريقة حديثه يشبه البلطجية وقطاع الطرق، واستئصاليته (مثل كثير من القيادات العسكرية) ترجع إلى عاملين اثنين: الأول : غروره بنفسه واحتقاره للشعب كله ولخياراته، الثاني: تخوفه من التغيير الجذري على المصالح العسكرية والمالية لجنرالات الجيش (فقد كان كل واحد يحتكر استيراد مادة غذائية أساسية) ومن الخطاب الفيسي المهدد والزاحف في تلك الفترة… ولهذا لم يكن الخيار خيار نزار وحده بل خيار كل القيادات العسكرية… وهي التي تدرجت في مواقع المسؤولية حتى وصلت اليوم إلى قيادة الأركان.
بالمقابل يبدو قايد صالح رجلا بسيطا في شخصيته وفي ثقافته، لا يملك عنجهية ولا صلف خالد نزار… ، لكنه في خطاباته (التي تكتب له) مثل نزار يعبر عن موقف القيادات العسكرية جميعا… ويعكس تخوفاتها… التي تشبه كثيرا تخوفات نزار وجماعته بداية التسعينيات… مع إختلاف الأسباب والسياقات والملابسات… فالتغيير الجذري ما يزال مرفوضا عنده… وهو مثل نزار لا تهمه الأيديولوجيا وعالم الأفكار والثوابت… لكن يهمه أكثر هذه المرة في نظري الشخصي الاستقرار وبقاء الدولة والوحدة الوطنية… واستئصال العصابات المتآمرة على قيادة الأركان… أكثر من أي شيء آخر.
الاستنتاج
ليس الجيش حاليا في خدمة تيار أيديولوجي أو عرقي معين، كما يتوهم البعض، وليس من مصلحة دولة المواطنة والحرية أن يصبح الجيش كذلك، والذين اصطفوا مع الجيش بداية التسعينيات لأجل تصفية الآخر المختلف، أثبتوا خواء طروحاتهم حول الدولة المدنية والجمهورية والديمقراطية، والذين يقومون بالوظيفة نفسها اليوم، بدعوتهم الجيش إلى القذارة نفسها واهمون ومخطئون… لا بديل عن دولة التعايش التي تسع الجميع دون استثناء… والتغيير الحقيقي طويل دربه، وهو ليس غدا… وتلك أوهام ثلاثة يجب التخلص منها جميعا.
باحث جامعي من الجزائر
استاذ نذير ؛ شكرا من القلب على هذا العمق في الرؤية. انا سعيد جدا بوجود من يفكر مثلك في بلد محمد العربي بن مهيدي جعله الله في الفردوس الأعلى.
الدكتور نذير طيار، عقل جزائري كبير، و هو محلل سياسي من العيار الثقيل، لا ينتمي إلا إلى الحقيقة.