لا يجادل عاقل الناس، على اختلاف مشارب تفكيرهم ورؤاهم وقناعاتهم وانتماءاتهم الجغرافية والعرقية والثقافية جدوى الماء والهواء والنبات والشجر والنسيم العليل إن توافر في حياتهم. مقاربة موضوعات من قبيل ما ذكر، يستدعي وجود منصات ثقافية وإعلامية، تتيح إمكانية فهم الجمهور لما يجري ويدور من تأويل الأحاديث في مناظرات مفتوحة على المعارف الإنسانية، أنى كانت اللغة التي يتم بوساطتها نقل تلك المعارف، طالما أن (المعارف) أصبحت اليوم أفقية، بحكم التقدم التكنولوجي والثورة الرقمية المدهشة، وبحكم توافر المعلومات والبيانات والمعطيات، بحيث غدت في متناول عموم الجمهور، كل حسب ذوقه واهتمامه ونمط اختياراته الفكرية، تبعا للمستوى التعليمي، والتأهيل الأكاديمي إن وجد، فضلا عن الوسط الاجتماعي الذي نشأ فيه الإنسان وكذا نوع التربية التي تلقاها في وسطه الأسري.
عناصر كلها تصب في خانة التأهيل البشري، الذي يقتضي وجود قاعدة عريضة من الكفايات المُفضية إلى ردم تلك الهوة السحيقة ما بين الأنا والآخر، الذي ليس دائما جحيما كما ذهب إلى ذلك جان بول سارتر، ردم الهوة ما بين الثقافات المختلفة في إطار المغايرة، ردم تلك الهوة ما بين اللغات بكل رطاناتها ومستويات تعبيراتها، صوتا ومعجما ودلالة، حتى يكتب لمستعمليها واللاهجين بلسانها، مستقبل يضمنون فيه وبه رهاناتهم – وما أكثرها – في ظل وجود عالم، تحكمه تناقضات كبيرة، لا قبل للإنسان بها، فيما سلف من الأزمنة، عالم يعج بمتغيرات، لا تصب ـ للأسف – في مصلحة البشرية، لعل أولها وآخرها دحر الطبيعة وتدمير البيئة، التي تعتبر حاضنة وملاذا للإنسان والحيوان والنبات.
نحن – معشر المغاربة – نوجد اليوم في مواجهة مباشرة مع تحدّ من نوع خاص، لاسيما في الظرفية الدولية الحالية، المطبوعة بالحروب الاقتصادية الكبرى التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، بزعامة الرئيس ترامب. نعني به تحدي ذاتنا الجريحة، بالانتقال من ردود الأفعال إلى الأفعال.
حسبي أن الإنسان يولد في بيئة لا تسعفه دائما على رسم جداريات من الزهور والياسمين، كما لا تسعفه دائما وهو حافي القدمين على ملاحقة الفراشات في الحقول الخضراء الزاهية. قد يتحقق جزء من حلمنا المشترك، لكن داخل دوائر لغتنا وثقافتنا، وليس خارجها، خاصة إذا أذنا لأنفسنا بالذهاب بعيدا في ممارسة التحدي، كل أنواع التحدي، رفعا لكل لبس، يحول دون فهم محتوى التقدم المنشود، بما في ذلك مستويات التنمية والقواعد التي تحكم وتنظم العلائق بين المؤسسات الدستورية من مجالس منتخبة وبرلمان وقطاعات حكومية. قد يقول قائل: لم كل هذه التورية؟ تعالوا لنذهب رأسا إلى السؤال المباشر والجوهري و»كفى المؤمنين شر القتال». هناك جوانب كثيرة في حياة المؤسسات الدستورية، ونمثل لها بالمجالس الجهوية، التي أتعبت كاهلها الدورات العادية والاستثنائية، حتى باتت لا تنام أو تصحو، إلا على إيقاع الاجتماعات وعقد لقاءات صورية، وتعهد حفلات توقيع شراكات واتفاقيات تعاون وتبادل الخبرات وتوأمة مدن وغيرها، غالبا ما تظل معلقة وبلا نجاعة في الممارسة والتطبيق، إن لم نقل، تنتهي بانتهاء الزيارة، إذا تعلق الأمر برحلة إلى إحدى دول الاتحاد الأوروبي.
عود على بدء، نسجل بأن عنصر المبادرة التي يفترض أن تعنى به هذه المؤسسات الدستورية، والتي ينبغي في كل الأحوال عدم نكران الأدوار التي تضطلع بها، محليا وجهويا وحتى وطنيا، أمر أساسي. مجالس الجهة لم تخلق لأجل أهداف وغايات، ترمي إلى تنفيذ تعليمات الرؤساء، والاستجابة لرغباتهم ومطامحهم الشخصية والحزبية، وإظهارهم «أبطالا دونكيخوتيين» (نسبة للشخصية الروائية في رواية «دون كيخوته دي لامانشا» للإسباني سيرفانتيس) من قبل لون من الصحافة المعلومة، التي تتهيأ كل حين وتتعبأ لتجيير الواجهات والكيل بمكيال الإطراء والمديح، بل خلقت هذه المجالس للعمل، ثم العمل على تقديم صورة واقعية عن سير الاشتغال على أوراش تنموية حقيقية واستراتيجية، من شأنها أن تثمر نتائج إيجابية، تتصادى مع طموحات المواطنين وتطلعاتهم القريبة والبعيدة.
كاتب من المغرب