لم يعش اللبنانيون الحرب نفسها، تلك التي يحتار الذهن في إيجاد توصيف لمدى «توقفها» منذ نهاية نوفمبر من العام المنصرم، مع «استمرارها» من ضمن آليات هذا التوقف، أو بالتجاوز على المتفق عليه، بالاستفادة القصوى من البنود المختلة في الميزان أساساً في اتفاق إطلاق النار، وبالسكب عليها مما ليس في النص.
الاتفاق لا يكتفي باقتضاء نزع سلاح «حزب الله» جنوب نهر الليطاني. بل هو يمنع نقل هذا السلاح إلى شمال النهر، ويمنع الدولة اللبنانية من اقتنائه، ويشترط تسليمه للجنة الإشراف برئاسة الضابط الأمريكي لإتلافه أو مصادرته، ويترك النص المجال للفهم بأنه يقتضي تفكيك ترسانة السلاح شمال النهر أيضاً، من دون إيضاح كيفية ذلك أو من يتولى الأمر.
يمنع الاتفاق في المقابل تدفق أسلحة إضافية تعبر الحدود إلى الداخل اللبناني من أي نقطة حدودية، برية أو بحرية أو جوية. هذا كله في النص. ما ليس في النص هو أن إسرائيل لم تكن في الوارد سلوك طريق الشكاوى المرسلة إلى لجنة الإشراف، بل جوّزت لنفسها التحرك الفوري، قصفاً وتدميراً وإغارة واغتيالاً، والاحتلال الذي استمرّ لشهرين ونصف ثم اكتفى في الأيام الأخيرة من القرى المدمّرة بالمرابضة على التلال.
عاش اللبنانيون الحرب جميعهم، لكن أكثرهم لم يعشها هي نفسها، وإن عاشها هذا الأكثر متكثفاً، مرعوباً من هول استمرارها، لائذاً ببعضه البعض، نتيجة حركة اللجوء الواسعة النطاق التي أوجبتها الحرب التي اتخذت شكل التطهير الإثني ولأسابيع بلا رحمة. وفي ظل هشاشة التحوطات الداخلية مما يمكن أن يجره الاختلاف في المشاهدة والمكابدة رغم التشارك أو التجاور في المكان من حنق متبادل وصمم شعوريّ جامع.
عاش اللبنانيون حربين، لا واحدة. وهم يعيشون اليوم، «ما بعد حربين» كأنهما، شعورياً في عالمين متوازيين، فيما الحرب نفسها لا يمكن القول إنها توقفت، ولا يمكن القول إنها مستمرة على النحو الذي فظّعت وفجرت فيه. يعيشون في «لبنانين» في وقت واحد الآن، ليس بينهما ذلك الفرز الترابي الذي يشتهيه بعضهم، ويبغضه أو يتبرّم ويتوجّس منه بعضهم الآخر.
عاش اللبنانيون حربين، لا واحدة. وهم يعيشون اليوم، «ما بعد حربين» كأنهما، شعورياً في عالمين متوازيين، فيما الحرب نفسها لا يمكن القول إنها توقفت
يعيشون انقساماً لا يقل عمّا عرفوه قبل تمادي الرعب، في إثر تفجيرات البايجرز وما تلاها، وهم بهذا الانقسام يستقبلون فعاليات يوم تشييع أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصر الله في المدينة الرياضية هذا الأحد. الصراع على السرد عندهم لم يدخل لحظة التبلور الخطابي المتماسك بعد، لا هنا ولا هناك، إلا قليلاً. لكن الانشطار في السرد وفي الشعور لا ينتظر اكتمال التناسق عند توزيع مفاصل الحكاية. هناك من ينظر لنهار التشييع كحدث تأسيسي مطلق، توليدي ذاتياً للطاقة الكفاحية الصالحة لما بعده. وهناك من ينظر له كحدث «دفنيّ» لمرحلة وتمكينيّ لمرحلة أخرى، كما لو كان ما يفعله المشيعون هو إعطاؤه الشعلة له كخصم في اليوم التالي! لكن متى كانت المآتم «دفنية» فقط في حياة البشر؟ لم نفد ما في جعبة الحزب الخميني اللبناني من «وعيد»؛ لكن الحالة الشيعية الإيجابية تجاهه أو المتقاطعة معه أو الاستكمالية معه لا يزال لديها مخزون من «الوعد» ولو شحب بريقه.
هناك، بهذا التقدير، هزيمة «موضوعية» – عدوّ أملى على عدوه شروط الهدنة ثم أفاض عليها – هذا من بعد حرب خيضت في ظل أسطورة اسمها «الميدان» – لأن إسرائيل جعلت الميدان هو البشر والعمران أيضاً ولا يمكن أن يكون المنطق المضاد لها، أننا نحتكم إلى ساح القتال البحت فقط. من بعد الحرب، هناك من يعتبر أنه بمقدار إنكاره للهزيمة الموضوعية ومنعها من أن تكون ذاتية أيضاً، فإنه يخفف منها، مقتنعاً من وراء ذلك بأن خطابه العقائدي لم يزل هو الأرضية الصالحة لاستيعاب معنى الخسارة وحجمها وكيفية تعويضها. هناك طرف في المقلب الآخر، مقتنع بأن تثبيت الهزيمة الموضوعية بالإقرار الذاتي لها يريح البلد ويعيده إلى جادة البصيرة. والهزيمة نفسها، يظهر أنها ما كانت بالقدر الكافي للطرف الذي يحثّ على «اعتراف» غريمه في الداخل وفي صراع المحاور الإقليمية بها، فيما يمكن أن تنطبق على الطرف الذي ينوء تحت ثقل الهزيمة، أن الأجدى له هو إنكار حدوث الهزيمة «بالمجمل» والاعتراف العملي بها «بالمفرّق».
عند هذه العتبة يأتي استحقاق تشييع السيد نصر الله. يأتي للتذكير بكم أن المارثيورولوجيا هي الإطار الرمزي الجامع بين اللبنانيين رغم كل انقساماتهم، فلكلّ مرجعيته الشهيدة التي يحيطها بهالة، ويتردد خصمه بين مجاملتها وبين مدّها بالطاقة السحرية الإضافية كلما سعى لأبلستها، عامداً في أحيان متفرقة إلى لبوس لباس «العقلانية» المصطنعة لداعي الجحود بها، أو على عمل استيعابها، وإخراجها من المتون إلى الهوامش. لكن المارثيورولوجيات المختلفة ليست متواجدة في فضاءات متوازية إلا في جزء من الصورة. في الجزء الأكثر احتدامية هي مارثيورولوجيات بين الواحدة والأخرى أنهار من دماء. شهيدك قاتل شهيدي: هذه هي المعادلة اللبنانية المشتركة، بتفاوت. هذا هو العقد الاجتماعي في شكله اللاتعاقدي، واللا ـ اجتماعي. يبقى أن الارتفاع للقدرة على التفاعل بشكل أقل محمومية وتوتراً مع هذا الانقسام المارثيورولوجي لا يكون بافتعال غنائيات «احتضانية» الجماعات لبعضها البعض، طول الوقت. وانما بالقدرة قبل أي «احتضانية» لتحديد التناقضات ونقاط الاختلاف العميقة بشكل قادر على التذكير مجددا بأن البشر رغم كل ما ابتلوا من شرور ومصائب في هذه الدنيا، إلا أنهم يتمتعون على الدوام بالقدرة على استشعار وجع ومصاب وحسرة ورجاء بعضهم البعض. وفي الوقت نفسه الإقرار بأن المصالح والأهواء بين البشر ليست واحدة، بل على الأغلب متباينة، ولا يمكن إرجاع كل هذا التباين لقسمة مانوية، بين «وطنيين» وبين «خونة». والحال أنه، في لبنان، كثيرون يضيقون ذرعاً من إرهاب «التخوين» عن حق، لكنهم لا يجدون في جعبتهم ما يسهّل عليهم الإقرار لا بعمق وحيوية الانقسام في المصالح والأهواء بين الجماعات المختلفة، ولا بما يحرك لديهم القدرة على الاستشعار بما يعيشه سواهم في هذه اللحظة أو تلك.
كاتب من لبنان