المثقف الجزائري والميديا الجديدة… رهانات وفخاخ

■ تشهد الجزائر منذ أسابيع قليلة مواجهة مع ما يتسرب عبر المواقع الإلكترونية. وبعيدا عن تفاصيل ما ينشر إعلاميا فإن ما يعنينا هو ما أصبحت تشكله الوسائط التفاعلية من رهانات وفخاخ. كتب دون تابكوست كتابا بعنوان :»جيل الإنترنت ـ كيف يغير جيل الإنترنت عالمنا».
واستند الكتاب إلى مقابلات مع أكثر من تسعة آلاف شخص من 12 دولة، وسبق للكاتب إصدار كتاب بعنوان «نشأة الجيل الرقمي» ومن بواعث إصدار الكتاب ما أثير عن الجيل الذي نشأ في خضم الطفرة المعلوماتية، فلقد تعددت التقييمات السلبية والأحكام التي تشير للكارثة، ويذكر الكاتب بعض الكتب التي تضمنت ما ذكر كمــــارك بورلين في كتابه «الجيل الأكثر غباء: كيف يزيد العصر الرقمي الشباب الأمريكي جهلا، ويعرض مستقبلنا للخطر»، والطبيب النفسي إدوارد هالويل في كتابه «سباق الحياة المحموم».
وخلاصة البحث جعلت دون تابكوست يقول: «إن النتيجة التي خرجت بها من البحث ملهمة، وينبغي أن تبث في أنفسنا آمالا عظيمة، فأبناء هذا الجيل العالمي الأول يتسمون بأنهم أذكى وأسرع وأكثر تقبلا للتنوع العرقي من أسلافهم. إنهم يهتمون كثيرا بالعدالة والمشكلات التي يواجهها مجتمعهم، ويشاركون عادة في الأنشطة المدنية، سواء في المدرسة أو العمل أو داخل مجتمعاتهم المحلية». و«مع تناغمهم مع السرعة والحرية، فإن هؤلاء الشباب المؤهلين يبدأون في تغيير كل مؤسسات الحياة المعاصرة، من العمل إلى الأسواق، ومن السياسة إلى التعليم إلى اللبنة الأساسية في المجتمع أي الأسرة، إنهم يستبدلون بثقافة السيطرة ثقافة التمكين».
ويذكر ثماني خصائص ـ أو قواعد ـ يتسم بها هذا الجيل: «فهم يقدرون الحرية وحرية الاختيار، ولديهم رغبة في تخصيص الأشياء لإضفاء الطابع الشخصي عليها. وهم متعاونون بفطرتهم، ويستمتعون بالحوار المتبادل لا بالتلقين والخطب. وهم سيتحررون عنك وعن مؤسستك. بالإضافة لذلك، فإنهم يصرون على النزاهة والالتزام الأخلاقي، ويريدون الاستمتاع بأوقاتهم حتى في العمل والمدرسة».
وأخيرا فإن»إيقاع حياتهم السريع أمر طبيعي، والابتكار جزء من حياتهم».
تلك خلاصات مختص أمريكي، واختيارنا له كمدخل لموضوعنا مقصود.


فالجيل الذي نشأ في زمن الإعلام التفاعلي هو تحقيق للعولمة بالتشابك والتداخل من جهة، وبيان للهوة التي تتفاقم فصولها، فهناك جدلية تقاطع وانفصال، جدلية مرتبطة بحيثيات تتشعب تفاصيلها. لكن هناك نقطة تقاطع هي البحث عن تحقيق للذات، تحقيق بصياغة هويات افتراضية وتشكل أيقونات تجمع شباب العالم كله. في سياق التحولات الأخيرة إقليميا لعبت وسائط التواصل الاجتماعي دورا محوريا. وتشكلت حركة المدونين، ناحتة وجودها على جدران صفحات وسائط التواصل الاجتماعي… التكنولوجيا رفعت الغطاء وخرقت الحجب فعمت الصور النابضة بالحياة، ولكن في الوقت ذاته دخل التلاعب والابتزاز وذلك موضوع آخر.

الجيل الذي نشأ في زمن الإعلام التفاعلي هو تحقيق للعولمة بالتشابك والتداخل من جهة، وبيان للهوة التي تتفاقم فصولها، فهناك جدلية تقاطع وانفصال، جدلية مرتبطة بحيثيات تتشعب تفاصيلها.

في الجزائر رغم وضع خدمة الإنترنت نشط شباب عبر مواقع، ومنهم من بادروا إلى تفعيل بديل لهشاشة المجتمع المدني، فظهرت مبادرات كـ»أهل الخير». إنه الجيل التفاعلي الذي يتقن ببراعة التعاطي مع المعلوماتية، وهو تفاعلي بمرونة تجعله يتواصل مع الجميع، ومن مختلف اللغات باختزال لغوي يختصر الطريق ويقول المراد مباشرة… هو تفاعلي بخلخلته لبروتوكولات التواصل المعتمدة، هو يختصر التعارف، ويدخل في الصميم مباشرة، يلعب الأمر ونقيضه في الوقت ذاته، يفصح ويلمح ويخفي، لكنه يتداعى فيقول ما يشير الإنساني الذي ينسج حميمية بين شاب في سيبر في وهران مع صديق في مونتريال أو في القاهرة. هو تفاعلي لأنه يتفاعل مع ما يجري في القدس واليمن ومالي وأخبار البارصا والريال، وما يحدث وطنيا، وأخبار الفن وآخر الأفلام والأغاني، وآخر صيحات المودة في اللباس وتسريحات الشعر، وآخر ما عرفه عالم السيارات. إنه جيل تفاعلي يحكي حميمياته ويقول رغباته ويعبر عن غضبه ويشهر أحلامه ويتبادل النكت. إنه جيل تفاعلي لأنه يتجاوز الحدود ويستوعب المغاير والمختلف. وهو إجمالا تفاعلي لأنه يعيش عصره ويبدع لغة عصره.
شباب ينتمي للزمن الرقمي، يصيغ وعيه بمفردات زمنه، ويقول الواقع بشفافية تتحدى الحجب، وربما لا يمتلك ما يؤسس به لبلاغته، لكنه ينتج بلاغة تصاغ بكيفيات مختلفة، يصيغها تعليقا على صفحته الفيسبوكية وغيره ما زال يكتبها على الجدران، أو يطبقها بالحرقة أو بحرق نفسه، أو ببتر عضوه التناسلي، أو بكل ما يشكل مادة أخبار الحوادث في الصحف.
في الفضاء تواجد لشباب يعلن عن رغباته ويقول أحواله ويحاول تحقيق الذات، تحقيقا لم تتحه له الأطر الموجودة مجتمعيا، أو افتقد الأطر المحققة لها، وهذا حال الشباب المسكون بالإبداع. عرفت الساحة مدونات ثقافية وسياسية وعامة، مدونات بعناوين مختلفة، تشكلت فضاءات للنقاش والتعبـــير والبوح وإعلان البيانات، بيانات الرفض وبيانات الحلم.
المثقف الجزائري لا يشذ غالبا عن بقية مثقفي العالم في التعامل مع الميديا بوسائطها التقليدية والجديدة، لكن الظروف الخاصة بنا جعلت الميديا تقريبا الفضاء المحوري الذي يجذب ويحتضن المثقفين، فنحن نعيش، رغم كل المهرجانات والمواسم، بؤسا ثقافيا وغيابا لفضاءات الفعالية والتواصل. ومنذ شهور تشهد مواقع التواصل الاجتماعي حملة استقطبت أسماء فنية وأدبية وثقافية ضد السياسة الثقافية المنتهجة وضد وزير الثقافة الحالي.
وفي سياق التعاطي هناك من يندرج ضمن من يحتويهم توصيف «المثقف الميدياوي»… وفي مختلف أنحاء العالم أسماء يرتبط حضورها بالحضور في الميديا، حضورا مماثلا لحضور نجوم الفن والرياضة. وقد انتبه خبراء ومفكرون لتحدي الميديا ونشروا التحذيرات، ومنهم عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو والمفكر بودريار والأمريكي جورج لايكوف. ونذكر عربيا مثلا ما كتبه الغذامي في»الفقيه الفضائي» و«الثقافة التلفزيونية سقوط النخبة وبروز الشعبي». لمنتج الميديا تأثيره الذي لا يمكن الغفلة عنه، تأثير متعدد، ومن تأثيراته الإغراق في تفاصيل ينفلت بكثافتها المعنى، ويتم كما قال بورديو قتل الثقافة، وبعبارة أخرى يتم بالتطور التكنولوجي الارتداد إلى ما قبل الحلول في الحضارة، ارتداد بسبب التجرد من الثقافة التي ارتقت بالطبيعي نحو الحضاري، وبسبب اعتباراته يعم التسرع للتكيف مع المستجدات، فيكثر الزلل وترسّخ السطحية وبقدر طغيان الضوء يتفشى العمى فليس المهم أن تكون كما قال العقاد: «أن تكون في النور، وإنما المهم أن يكون في النور ما تراه»، وبقدر الضجيج يغيب صوت اللغة التي تحمل الدال، وهناك تشكل ـ كما كتبت الكاتبة التونسية آمال موسى : «الشعور المستبطن الظاهر بوجود حالة من الضياع في تحديد الإطار الجديد للعالم اليوم».

المثقف الجزائري حاضر، والفيس بوك حاضنة لنقاشات غابت بغياب فضاءات ومنابر.

وبدون الدخول في تفاصيل نشير لما عرفته المنطقة العربية طيلة سنين ما سميّ بالربيع العربي، ما عرفته من تقولب أسماء فكرية وثقافية ودينية بقوالب صناعة وتسويق الميديا. وذلك لا يعني الغفلة عن أهمية الميديا، أهمية تثمر بفعالية ثقافية حقيقية تستثمر منجز الميديا بدون تبديد المعنى، ومن جهة أخرى تستثمر وسائط الميديا المنجز الثقافي لتضمين ما تقدمه آليات تحمي من متاهات التفاصيل.
ووسائط الميديا تستقطب الكل، عولميين ومحليين، حداثيين وتقليديين، علمانيين وتيارات دينية… وبالتالي فالمثقف التقليدي أيضا حاضر، ولعل ذلك يدفع إلى وقفة عند مفارقات جديرة بالاعتبار في تداخل وتشابك بين ما سبق لابن نبي عرضه عن المعادلة المركبة للحضارة، فكثير من الأشياء تستعمل بعزلها عن الأفكار التي أنتجتها أو توظف في ما يتناقض مع المنطلق الفلسفي للمنجز التقني.
المثقف الجزائري حاضر، والفيس بوك صارت حاضنة لنقاشات غابت بغياب فضاءات ومنابر. وحضور المثقف الجزائري كمثقف ميديائي ـ بتعبير الكاتب أحميدة عياشي ـ مرتبط بحيثيات وضع تصحر مبرمج، وضع تنعدم فيه المنابر الثقافية وتقوض مقومات تشكل الفضاء العمومي أي تغييب ما يعتبر، كما بيّن هابرماس، محوريا بالنسبة لتجسيد المواطنة وتفعيل مسار الدمقرطة. وغياب ما ذكر من منابر وفضاءات تتفاقم فخاخ وسائط التواصل عندما تتحوّل إلى مرجعيات لتلقي المعلومة وتشكل الرمز وتحدد الاتجاه. إن الفخ كامن في تسطيح يجرد التمثلات من إمكانات النضج ويشوه ويميّع الحقائق، وكامن في الاندفاع الانفعالي الذي ينقلب عندما يغيب التأطير المعرفي والعارف إلى غرق في المهلكات. في الوضع الجزائري عرفت وسائط التواصل كثافة وظيفية تعويضية، فتحولت إلى وسائط تفعيل للحراك ضد الغلق السياسي، وإثارة للنقــــاش الثقافي، وإلى أسرة تحليل نفسي، ومنصات تسويق تجاري، ومنابر الفتوى الدينية… وهذا الوضع كثف هشاشة النخبة التي كان وجودها طيلة عقود محل سؤال ـ في مطلع ثمانينيات القرن الماضي نشر الكاتب الجزائري كتيبا بعنوان «مثقفون أم أنتجلنسيا؟»، وضع رجّح مرة أخرى كفة الشعبوي وانتصر لمد القطيع والحشد، مدا جعل، كما كتب مرة الكاتب الراحل محمد الميلي، يشار إلى ما يتصل بنا بعبارة الشارع العربي، أما غربيا فالإشارة تكون بصيغة الرأي العام، والفرق بين الصيغتين له دلالته، والفرق مرتبط بما يتصل بالفضاء العمومي، الذي أشار إليه هابرماس وتحدّد الأدوار والمعايير.
الحديث عن إشكالية المثقف في سياقنا تجعل كما قال أركون: «من المضجر وبلا أي قيمة أن نعود مرة أخرى إلى تلك المناقشات التي دارت في فرنسا حول هذا السؤال «من هوالمثقف؟». طرح المسألة يعني حسب أركون: «العودة إلى دراسة تطور مجريات تراث فكري ما وطريقة عمله ضمن سياقات تاريخية واجتماعية محددة تماما، خاصة به دون غيره».
وبالتالي ما حدث من تشكل لما يسميه السياج الدوغمائي المغلق وهو ما جعل مهمة المثقف المسلم تختزل كما يذكر: «إلى مجرد التعرف على الشيء، لا المعرفة الحقيقية به».
لقد وصلنا مرحلة هز بها الشارع الساكن وخلخل الجاهز واستدعى تبلور العقل الذي يمد الفعل بما يثمنه ويحوله تغييرا حقيقيا مؤسسا للتحول الذي يتضمن جدل القطيعة والاستمرارية، قطيعة مع الذي ساد حتى أباد، واستمرارية رأسملة ما تراكم.

٭ كاتب من الجزائر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية