القاهرة ـ «القدس العربي»: تحولت أنظار العالم منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى الأراضي المحتلة، وبينما لم تغادر الذكرى الخمسون لحرب السادس من أكتوبر 1973 الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي، وكذا الفضائيات، تقوم حماس بضربة كُبرى لم تحدث منذ 73، ومن وقتها وحتى الآن تتواصل المعارك، وهو ما كان له أبلغ الأثر على الشارع العربي والمصري بشكل خاص، رغم تصريحات أنظمة الحكم العربية المعتادة والمتوقعة في مثل هذه المواقف من أي محاولة لإحياء القضية الفلسطينية، وإيقاظها من ثباتها. ونستعرض في هذا التحقيق آراء بعض من المثقفين المصريين على اختلاف توجهاتهم، ورغم اختلاف وجهات النظر هذه، إلا أن هناك اتفاقا على وجود حق يجب أن يعود وعدالة يجب أن تتحقق..
يكفي هذا
بداية يقول الروائي والكاتب رؤوف مسعد.. أغلقت إسرائيل اليوم بالقنابل معبر رفح، وهو المعبر الرئيس بين غزة ومصر، حتى لا يعبر أحد من الجانبين إلى الجانب الآخر، وقد وعد الهلال الأحمر المصري بتقديم المساعدات الإنسانية، كما وعدت الحكومة المصرية بفتح الحدود أمام الحالات الإنسانية الحرجة من المصابين والجرحى جرّاء القصف الإسرائيلي. أما بالنسبة إلى موقف المثقفين المصريين أعتقد أنهم منقسمون على أحوالهم، فالوضع في مصر اقتصاديا وسياسيا وأمنيا في غاية الصعوبة، والدولة المصرية لا تبالي الآن بما يحدث على حدودها الشرقية، ويكفي ما حدث ويحدث على حدودها الغربية والجنوبية في ليبيا والسودان، هناك شائعات بين المصريين، أن هناك اتفاقا ما بدخول وإقامة الغزاويين في سيناء، لكن هذا كله لم تثبت صحته. ووضح أن هناك أزمة بين المثقفين المصريين حول الموقف من الفلسطينيين، فالبعض يرى أنهم مسؤولون عما يحدث الآن، لكنه موقف خاطئ ولا إنساني، حتى الأمم المتحدة تقول إن الحصار الكامل لشعب لم يُشارك معظمه في حرب ضد إسرائيل، ويواجه انتقاما على هذه الشاكلة، هو أمر مُناف لقوانين الأمم المتحدة. فالانقسام العربي سيكون أقوى وأطول وأعمق خلال الأيام المقبلة، لأنها ستكون أياما صعبة جدا على كل المنطقة العربية، فهذا الطوفان الجبار الذي أطلقته حماس، لن يرجع مرّة أخرى إلى حدودها. أنا ذهبت إلى غزة مرتين.. هؤلاء الناس مسجونون في قطعة صغيرة لا تتحمل كل هؤلاء البشر، هم قرروا أن يقوموا بفعل ما لإسماع العالم بأنه يكفي هذا، يكفي ما يحدث لنا، وأننا الآن نحارب بأجسادنا المحتل الذي لا يخضع للقوانين الدولية. من ناحية أخرى فالمصريون شعب مسالم أو يقولون على أنفسهم ذلك، فهم لا يحبون الدخول في حروب تكلفهم أي شيء، وبالتالي الأزمة الطاحنة سياسيا واقتصاديا وأمنيا أقوى من أن تجعلهم يتخذون قرارا حاسما للتضامن مع الشعب الفلسطيني.
أمة لا تموت
من جانبه يقول الفنان التشكيلي فتحي علي.. إن ما يحدث فى فلسطين أمر طبيعي، ردا على ما يحدث في القدس، وإن حماس رفعت الحرج عن الأمة العربية، وكنا نستنكر على ساستها الشجب، والآن لا أحد يشجب أو يستنكر الكل يخاف على كرسيه ويقولون نخشى أن تصيبنا دائرة مثلما حدث في العراق وليبيا وسوريا. إن ما يحدث يثبت أننا أمة لا تموت، ربما تنام أو تغفل، لكنها لا تموت. وإن ما يحدث من الاحتلال من ضرب المدنيين هو لوقف المقاومة عن مواجهة الاحتلال، والقضاء على غطرسته وبيان ضعفه أمام العالم، وما يقوم به من قتل الأطفال يثبت للعالم أنهم مجرمون، وقد رأيت كيف تصرفت المقاومة الفلسطينية مع السيدة وأطفالها، وهذا على لسانها وعلى قنواتهم، ولا بد للعالم أن يساند القضية الفلسطينية، وأعلم علم اليقين أن في الوطن العربي أسود يريدون الذهاب للوقوف إلى جانب أخوتهم كتفا إلى كتف لتحرير القدس. ففي هذا التوقيت تسقط الأقنعة، وتعرف مَن هو الصديق من العدو، ومع الصبر فالنصر آت إن شاء الله.
الموات جدير بغيرهم
ويقول الروائي والقاص السيد نجم.. تعريف «موات» في معجم المعاني الجامع: «هو مصدر الموت، ما لا حياة فيه، أو الأَرضُ التي لم تُزْرَع ولم تُعْمَر ولا جَرَى عليها مِلكُ أَحد».. وتلك هي الحالة التي ظن الصهاينة عليها أهل فلسطين فى غزة والضفة الغربية. فلما بزت السواعد عن صورة جيل جديد، رأيتهم على شاشة التلفزيون حول العشرين سنة بسنوات قليلة قبلها وبعدها، شعرت باطمئنان غير مبرر، وسبب عدم التبرير أنني على يقين من أن العقلية الصهيونية سوف تنتقم بغباء الخرتيت وعنف النمر الجائع، مع تأييد واسع النطاق من البلدان الغربية.
ما سبق ليس أكثر أهمية منه ما راج على شبكة التواصل الاجتماعي في مصر.. بداية من التناول الفرح الساخر من شيوع الصور والفيديوهات التي رصدت هرولة سكان المستعمرات، وشرود المسافرين في مطار تل أبيب، مع تلك المشاهد التي لم نشاهدها من قبل؛ القبض على بعض سكان المستعمرات من عسكريين ومدنيين، وقد تم ترحيلهم ﺇلى الداخل في غزة.
في أبجديات الحياة وسنن الوجود: لا يكفي الحقَّ أن يكون حقّا لكي ينتصر. لا بدَّ للحقِّ من قوَّةٍ وتدبيرٍ وتحالفٍ وتخطيطٍ، وإلَّا سيعيش ذليلا ضعيفا تدوسه أرجل الباطل، ورُبَّما – كأسوأ افتراضٍ – تمحوه من الحياة.
وسرعان ما دارت معركة/معارك كلامية تتساءل عن مشروعية ما قام به رجل الشرطة من عملية قتل لسائحين ﺇسرائيليين (ومعهما المرشد المصري).. فقال قائل بضرورة حماية القادمين ﺇلى البلاد، خصوصا أن المؤسسات الرسمية أجازت دخولهم بوثيقة معتمدة، بينما ردد آخرون أن الجندي سليمان خاطر، وهو أول من رمى رصاص بندقيته نحو مجموعة منهم أثناء زياراتهم الحدود المصرية في منطقة «طابا» لم يمت وﺇن عثروا على جثته مخنوقا في غرفة المستشفى التي يعالج فيها، ولا فرق في ما فعله جندي الأمن المركزي ولا أمين شرطة منطقة «عامود السواري الأثرية» التي قتل فيها اثنان من اﻹسرائيليين. كما تردد أن هناك قذيفة أطلقها اﻹسرائيليون خلف معبر رفح.. فتذكر الجميع ما ردده اﻹعلام الصهيوني من قبل وحتى يوم بداية المعارك، بدعوة ذهاب الفلسطينيين ﺇلى مصر، ففي سيناء متسع لهم، ويتحقق إعلان دولة غزة الكبرى! وهو أمر تم نفيه من جانب السلطة المصرية. الوضع جد خطير ويجب أن نتعامل معه بكل الانتباه، فالآن يتم تفريغ المستعمرات الإسرائيلية التي تم احتلالها بواسطة الشباب الفلسطيني، وحسبما أذيع حتى كتابة تلك الكلمات، تمت سيطرتهم على أغلب المستعمرات ﺇلا من ثلاث منها، ما زالت تسيطر عليها قوات حماس غزة، وعلى الجانب الآخر حيث جنوب لبنان، هناك مماحكات لم تسفر عن أمر محدد. بينما وسط كل القلاقل وجب على الإعلام المصري التناول غير المنفعل، أو هكذا رأيته يدعو على حرص التناول غير المنفعل، وإخفاء مشاعر الفرحة التي عمت صدور المصريين، مع كل التناقض على مشاهد التدمير لفلسطين، ويردد المصري (أغلب المصريين) تحيا المقاومة الفلسطينية، أيا ما يكون توجهها والجانب الأيديولوجي لها، فكل من فعل فعلة تحت مصطلح «المقاومة» وقف في مواجهة الموات الذي أراده الصهاينة، بل قد تحول ﺇلى فعل يومي بل كل ساعة، لكنها المقاومة أيضا، قادرة على إنجاز الجديد، وبلا شعارات أظن أن العملية العسكرية هذه المرة لها ما بعدها حتما.. وأغلب المصريين يتوقعون ذلك.
الكلمة الأخيرة للشعوب
ويضيف المخرج السينمائي طارق الزرقاني.. فى يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي فوجئ العالم بقيام كتائب المقاومة الفلسطينية بعملية عسكرية واسعة ضد الأراضي المحتلة ألحقت خسائر ضخمة غير متوقعة في صفوف جنود الاحتلال والمستوطنين المسلحين. وتباينت ردود الأفعال بين مستنكر ومؤيد للعملية. وكالعادة معظم دول الغرب وأمريكا أدانوا هذه العملية، وللأسف بعض الدول العربية أدانت العملية بشكل غير مباشر مثل الإمارات العربية، وبعض الحكومات الأخرى طالبت الجميع بضبط النفس وساوت بين الضحية والجلاد.. أما الشعوب ففي الغالب رحبت بهذه العملية باعتبارها شكلا من أشكال المقاومة المشروعة ضد الاحتلال الصهيوني، فهذا الكيان العنصري الغاصب تاريخه الدموي منذ دير ياسين وبحر البقر وأبو زعبل لا يترك أي مساحة للتعاطف معه، فإلى جانب هذا التاريخ الدموي فهناك تاريخ من المراوغات ترفض الحل السلمي للمشكلة بمنح الفلسطينيين حق إقامة دولة مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، وكل الاتفاقيات الدولية من كامب ديفيد حتى أوسلو، أفرغت من محتواها بالتعنت الصهيوني المتغطرس المعتمد على القوة والدعم اللامحدود من أمريكا، كل ذلك أعطى مشروعية كامله للمقاومة الفلسطينية لاختيار سلاح المقاومة بعد فشل السبل السياسية. فالعالم تعاطف مع كفاح مانديلا في جنوب افريقيا ضد الفصل العنصري، وحمل مانديلا السلاح في فترة من حياته ومعظم حركات التحرير حملت السلاح، رغم عدم تكافؤ موازين القوة، كما حدث في ليبيا والجزائر وحتى أيرلندا، فللشعوب حسابات مختلفة عن الحكومات، خاصة إذا كانت الأخيرة غير منتخبة ديمقراطيا لأنها بالفعل لا تعبّر عن رأي الشعب، إذ رحبت بعضها بصفقة القرن أيام ترامب وما زالت. فللشعوب الكلمة الأخيرة في هذا الصراع طال الأمد أم قصر. فالمجد للشهداء والمجد للمقاومة والمجد لمن رفض الذل والهوان.
الحق في الحياة
ويرى الروائي إبراهيم فرغلي أنه.. كعادتنا نحن العرب عموما، والمثقفون العرب ليسوا استثناء انقسم الجميع إلى فريقين. مع وضد. وبشكل خاص حين نرصد المثقفين المصريين وموقفهم سنجد أنهم انقسموا بين مؤيد لما قامت به المقاومة في عمليتها الأخيرة طوفان الأقصى، بينما عارضها البعض من منطق أن العملية تخص حماس، وأن حماس جزء من قوى الإسلام السياسي العربي، التي تريد السيطرة على السلطة، وبالتالي رفضوا العملية، بينما رأى البعض في قوة العملية وترتيبها ما بدا لهم مريبا وجزءا من خطة لتهجير سكان غزة إلى سيناء! والحقيقة أن العاطفة كما هو واضح كان لها دور كبير في كل المواقف تقريبا، والأهم انعدام فكرة السياق، وأنا شخصيا منذ فترة ألاحظ انعدام فكرة وضع أي فكرة أو فعل في سياقه حتى يمكن تأمله. شخصيا أرى إنه حتى لو قلنا، على سبيل الجدل، أو حتى لو الاحتمال حقيقيا، أن الأفعال جزء من مخطط إما لكسب دور جديد لإيران، أو لكي يتم تهجير سكان غزة، فهل سيمنع هذا أن نقف مع الحق والحقيقة التي تقول إن هناك شعبا اغتصبت أرضه وحقوقه، وتخلى عنه الجميع وبقي الشعب الأعزل يواجه نيران العنصرية والقوة المفرطة المستخدمة ضده ومحاولات تشريده وبناء المستوطنات يوميا؟ هل تأييد حق الشعب الفلسطيني يعني غض الطرف عن عدم أحقية أحد في تهجير أهل غزة، وهو أمر لا يقبله أصلا أهل غزة ولا أي فلسطيني. وهل سيقبله الجيش المصري بكل عتاده وقوته التي عادت للتموضع في سيناء منذ شهور؟ هل تأييد الفلسطيني في معركته ضد هذا الظلم والشر يعني أن الجزائري يتخلى عن هويته، واللبناني والمصري والسعودي والكويتي؟ من أين جاءت هذه الأفكار الذاتية الأنانية المخيفة؟ لن تهدأ المنطقة أبدا كما يتوهم البعض طالما لم يحصل الشعب الفلسطيني على حقه في الحياة بكرامة، وهذا هو فصل الخطاب كما أراه، وكما تشير إليه كل الوقائع على مدى تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.
ثمرة الانتظار والخذلان
ونختتم برأي الشاعر أحمد عايد إذ يقول: في أبجديات الحياة وسنن الوجود: لا يكفي الحقَّ أن يكون حقّا لكي ينتصر. لا بدَّ للحقِّ من قوَّةٍ وتدبيرٍ وتحالفٍ وتخطيطٍ، وإلَّا سيعيش ذليلا ضعيفا تدوسه أرجل الباطل، ورُبَّما – كأسوأ افتراضٍ – تمحوه من الحياة. ما نشاهده اليوم في فلسطيننا الحبيبة، هو ثمرة هذا الفهم، وثمرة الخذلان المتكرِّر من العالم العربي والمجتمع الدولي، ثمرة أكثر من سبعين سنة تحت كيان الصهيونية غير الإنسانيِّ، ثمرةٌ لا يدرك مثقفونا المتشدِّقون ثمن زرعها، ولا حلاوة مذاق غراسها، ولا قيمة نتائجها.. ثمرة ما أشار إليه شاعر فلسطين محمود درويش وهو يقول في (مديح الظِّلِّ العالي): «سقطتْ ذراعك فالتقطها/ وسقطتُ قربك فالتقطني/ واضرب عدوَّك بي/ اضرب عدوَّك بي.. فأنت الآن حر» ثمرة انتظارٍ خائبٍ.. فكلنا – بلا استثناءٍ- خيَّب أمل الإنسان الفلسطيني. الآن تقف فلسطين ندّا أمام الكيان الصهيوني، بعد أن كانت تستجدي الكاميرا أن تذيع الحقيقة، وتُقبِّل يد مجلس الأمن ليصدر قراراتٍ ضدَّ الكيان الظالم، وترخي دموعها أمام إخوتها العرب ليمدُّوها بالمعونات. تقف فلسطين لتؤدِّي دورَها النبيل، لا أقول دفاعا عن نفسها، بل دفاعا عن الإنسان في كلِّ مكانٍ، ولتعلمنا جميعا درسا، أنَّ حقَّك لن يأخذه لك غيرك، وأنَّ حقَّك لا يُؤخذ من المحاكم الدولية ولا مجلس الأمن، وإنَّما هي ساحات المعارك، الدم بالدم، التهجير بالتهجير، الهدم بالهدم.. هذا هو الذي سيفيق الكيان منعدم الضمير والإنسانية، وربما يفيق الدول العربية الغارقة في أوهامٍ أعلنتها مؤخَّرا أنَّ مستقبل العالم في الثلاثين عاما المقبلة في يدها. نعم.. ستكون خسائرُنا كثيرة جدّا، لكن ما يحدث الآن ضرورةٌ لتظلَّ القضيَّةُ قضيَّتَنا، ولئلَّا ننسىٰ فلسطين، ولتعرف الأجيال الجديدة أنَّ فلسطين ليست أمرا لا يخصُّ سوى الفلسطينيين، بل هي قضيتنا جميعا، وأنَّه لا حلَّ سوىٰ أن يزول الكيان الصهيوني تماما وترجع فلسطيننا كاملة كاملة كاملة، ولنتذكر دائما ما قاله أمل دنقل: «لا تصالحْ».