المجاز العقلي

حجم الخط
0

قريب من الروح، بعيد عن الجثامين، فأضحت سائلا ثخنا… من على الشرفات، والأزقة والدروب والأشلاء… ومن تحت المياه العادمة… روائحُ الموتى، وصمت القبور الجماعية، وهياكلُ معدنية مدفونة في حفر منسية للزمن، والتاريخ ولقوات المينورسو… ولحفظ السلام… وحفظ العقيدة.. وحفظ الأقلية. اللعبة انتهت، كما قال محمد الدوري في أروقة الأمم المتحدة عشية سقوط بغداد المدوي، بعد هذا الفرار الكبير.. وأسدل الستار على مسرحية البراميل المتفجرة، والكيميائي، وكل الأسلحة المحظورة، والأدخنة المتصاعد من مسامات الجثث المتناثرة، وفي كل مكان ديست صورك بأقدام عراها البطش، وجنون العظمة، وجنون السلطة، وجنون الجنس. وفي كل مكان سُحلت تماثيلك البرونزية، وأنت تصفع بأياد لم تعرف أن مصيرها مرتبط، عبر التاريخ، بالاحتلال الفرنسي.
اللعبة انتهت، في أروقة الذل والعار والفرار المقيت، أمام المنتظم الدولي الشاهد الأول على مسلخ البشرية. دون روح، ودون عقل، ودون إنسانية يزداد طفل من أب مغتصب للقوارير، جلاد بسياط الوأد، والدفن.
أين ذاهبة أنت أيتها الإنسانية؟
الديكتاتورية وصمة عار على جبين الجلادين في أقبية المنية، بشيء من التعقل والبصيرة ستعرف أين المبتدأ؟ وأين الخبر؟ والتاريخ مدرسة تعلم فيها أرسطو، وابن خلدون، وابن عربي، وابن رشد، ورولان بارت، وتودوروف. انتهى العراق، وانتهت تموره، وشايه الذي يُشرب في بغداد.. انتهى العراق محتلا.. والصفع على الخدود مع الفجر الولود.. انتهى اليمن والشيعة تطلق رصاص الانتصار مغتصبا سماء صنعاء.. لن ترى، بعد اليوم، عبد العزيز المقالح في كافيتريا سكاي بوكس، أو بازوكا، أو حتى في رويال بروست. انتهت سوريا؛ وبلاد الشام مهد الحضارة الأموية، ومهد حضارة بلاد الأندلس. تاريخ من الخيانات، والغدر.. لا يعرفون سوى الخطابة والفرار، يا ابن أمي.
بشار.. كم من البراميل تكفي كي تعرف أن للتاريخ يدا سابغة، تعيد نفسها؟ وهو يعيد نفسه؟ بشار بتؤدة وروية وسكون القبور، ستدرك أنك مجرد آلة ضخمة للدمار والخراب، والقتل، والوأد، والاغتصاب في السجون والمعتقلات السرية والعلنية، وأنك مجرد لعبة في رقعة الشطرنج. ها أنت أصبحت ورقة صفراءَ في يد التتار، وهم يزحفون، ويصفعون الفجر الوليد.
ما هكذا تورد الإبلُ يا أسدُ. وكم من الدماء تكفي للارتواء من حوض الغدر، والخيانة والكذب والبهتان؟
بلاغة السلطة، أم سلطة البلاغة؛ عنوان درس كبير من دروس علم البيان، كم كان يعجبني درس المجاز العقلي، وأنا في رحاب كلية الآداب في الرباط، فالعدوى، بسرعة البرق، انتقلت إلى النحو العربي؛ لأنها حلاَّلة المشاكل.. فما سمعنا بهذا، وما ألفناه. أن تؤمن بشيء لا تراه فهذا ضرب من الجنون، بل همس الجنون كما قال نجيب محفوظ. نحن لا نؤمن إلا بما نراه.. في أقصى حجرة الدرس، نطق صوت مبحوح، ملأ علينا الدنيا، وشغل مسامعنا ؛ هل تؤمن بالريح ؟ قلت : نعم. وهل تراها قلت: لا.. فتبا لسيبويه عندما جعل الفاعل الحقيقي، والفاعل غير الحقيقي، لذلك كان بشار، الآن، ليس فاعلا حقيقيا، وإنما فاعل بالنيابة فقط.
فتح المفتاحُ الباب، فالفاعل غير حقيقي، بل أضحى مجازا عقليا، ولعل في دروس أحمد الولالي، رحمه الله، ما يشفي الغليل… كان المثال الذي يشنف به، دائما، مسامع الطلبة في مجلسه العلمي، هو: «بنى الملكُ المدينةَ.. «فالمجاز العقلي عندما يُسند الفعل لغير فاعله، إذاك نتحدث عن المجاز العقلي. فالعمال هم الذين باشروا عملية البناء، وليس الملك. فالطائرات ترمي النار على حماة، وإدلب. فالطائرات لا ترمي النار، وإنما ترمي ما سيكون نارا.. وستحرق الأخضر واليابس. فهل ستكون البلاغة خلاصا وطوق النجاة ؟ البلاغة أم المسؤول السياسي.. فالبلاغة تنتمي إلى عالم الأدب، بينما المسؤول السياسي ينتمي إلى عالم السياسة، والحروب، وأنهر من دماء الأبرياء في الغوطة لا يسمع إلا نفير الدبابات، وهي تسحق العظام… وتقتلع البشر والحجر.
أليس فيكم رجل عقل؟
كرسي السلطة يقضي بأن أكون للجميع، وليس لطائفة على حساب أخرى..
كرسي السلطة يقضي بأن أحب لطائفتي ما أحبه للطوائف الأخرى..
كرسي السلطة يقضي بأن يكون لي بعد نظر، قبل أن أصبح ورقة في أياد خبيثة، ترمى على طاولة الندماء…
إحراق البلد يسعفني، ولا يسعفني أن أفتح حوارا حقيقيا بين جميع الطوائف، وأن أترك التعصب جانبا ؛ لأنني أسوس الناس بسياسة قوامها العدل، والديمقراطية، وحقوق الإنسان.
نشر الدمار والخراب يسعفني، ولا يسعفني أن أبني المستشفيات والجامعات والمعاهد. يسعفني الكأس، ولا تسعفني العبارة… كما قال أحمد المجاطي.

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية