المعارضة تخشى من أن تصبح هذه المحاكمة سابقة تتلوها أخرى وتفتح الباب على مصراعيه لتكريس إجراءات ومحاكم استثنائية في المستقبل.
تونس ـ «القدس العربي»: ما يزال موضوع المحاكمات التي تطال النشطاء السياسيين والإعلاميين ورجال القانون وغيرهم في تونس، يثير الكثير من الجدل خاصة مع التطورات الأخيرة المتعلقة بالمحاكمات عن بعد التي قررت السلطات القضائية إجراءها من خلال استغلال التقنيات الحديثة. وبررت هذه السلطات جنوحها إلى هذا الخيار، الذي لم تألفه البلاد في القضايا التي تهم الرأي العام، بالأسباب الأمنية وذلك حفاظا على سلامة المتهمين والقضاة والمحامين وغيرهم ممن تتطلب المحاكمات عادة حضورهم، وكذلك لحسن سير هذه المحاكمات.
وكانت رئاسة المحكمة الابتدائية بتونس قد وجهت قبل إنطلاق الجلسات يوم 3 آذار/مارس الماضي مراسلة إلى الفرع الجهوي للمحامين بالعاصمة التابع للهيئة الوطنية للمحامين بتونس، عللت فيها قرارها بإجراء المحاكمة عن بعد، وعدم جلب المتهمين إلى مقر المحكمة بوجود خطر حقيقي على حد تعبيرها. كما جاء في المراسلة أيضا أن إجراء المحاكمات عن بعد يشمل إلى جانب قضية أمن الدولة، القضايا الجنائية المنشورة والمعينة خلال شهر آذار/مارس الجاري، أمام القطب القضائي لمكافحة الإرهاب بالعاصمة.
ومباشرة عبرت عائلات المتهمين في هذه القضايا، وجهات سياسية وحقوقية، وأطراف من المجتمع المدني عن رفضها لهذا القرار القاضي بعقد جلسات المحاكمة عن بعد. فقد رأت هذه الأطراف أن عقد الجلسات عن بعد هو انتهاك لحق الدفاع الذي تكفله القوانين، وانتهاك لمبادئ المحاكمة العادلة التي تقتضيها العدالة، خاصة وأن القضايا التي ستشملها المحاكمات عن بعد تهم الرأي العام.
وبالتالي فإن هذه التبريرات التي قدمتها المحكمة الإبتدائية لم تقنع الكثيرين وخصوصا منهم المنتمون والموالون للمعارضة والحقوقيون وعديد الفئات الأخرى ممن لم يستسيغوا هذا الصنف من المحاكمات، ولم يعتادوا عليه في السابق. فقد جرت العادة، حسب هؤلاء، أن يتواجه الخصوم بقاعة المحكمة ويتطلع القضاة في المتهمين والشهود، ويدققوا في ملامحهم، ويتمعنوا جيدا في تقاسيم وجوههم أثناء الاستماع لهم في الجلسات وذلك لاستجلاء ما وراء السطور من حديثهم.
فالقضاء الجزائي، برأيهم، يعتمد بشكل كبير على ما يسمى مبدأ «الوجدان الخالص للقاضي»، وعلى قناعات القاضي التي تنشأ لديه بعد سلسلة من الجلسات يستمع خلالها للمتهمين والشهود وللسان الدفاع ولممثل النيابة العمومية ويطلع على الوثائق المرفقة بالملف التي تساهم في إنارة سبيله. ويرى هؤلاء أيضا أنه خلافا لما تحجج به البعض من أنه يحصل أن تقتصر المحاكمات على حضور المحامين دون أطراف النزاع، فإن ذلك يحصل فقط في القضايا المدنية حيث لا وجود لعقوبات جزائية بدنية وسالبة للحرية على غرار السجن والإعدام وإنما يقتصر الأمر في هذه القضايا على نيل الحقوق أو خسارتها.
وبالتالي يرى هؤلاء أن حضور المتهمين ومحاموهم إلى قاعات المحاكم والمواجهة المباشرة مع القاضي وممثلي النيابة الذين وجهوا الاتهام ضروري في المادة الجزائية نظرا لأن المحاكمات في هذا الإطار قد تترتب عنها أحكام قاسية وعقوبات بدنية مثل السجن والإعدام والأمر ليس بالهين. ففي النظام الأنكلوسكسوني تذهب المنظومة القضائية بعيدا في تكريس العدالة وظروف المحاكمة العادلة ولا يتم الاعتماد فقط على مبدأ الوجدان الخالص للقاضي وإنما أيضا على مبدأ الوجدان الخالص لهيئة المحكمين التي يحضر أعضاؤها الجلسات ويتمعنون في وجوه المتهمين وفي حركاتهم وسكناتهم ويشعرون بأحاسيسهم أثناء الاستنطاق وذلك حرصا على تكريس العدالة وتجنبا لظلم المتهمين قدر الامكان.
يشار إلى أن المعارضة لا تطالب فقط بعدم اعتماد المحاكمات عن بعد، بل تريد أن يتم نقل هذه المحاكمات مباشرة لعموم التونسيين مثلما حصل في قضايا سابقة تهم الرأي العام في زمن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. فالمعارضة تخشى بشدة من أن تصبح هذه المحاكمة سابقة تتلوها محاكمات أخرى وتفتح الباب على مصراعيه لتكريس إجراءات ومحاكم استثنائية في المستقبل بعد أن تم إنهاء بمحكمة أمن الدولة الإستثنائية بعد نهاية عصر الرئيس بورقيبة.
وفي هذا السياق نفسه اعتبرت هيئة الدفاع على لسان أحد محاميها بأن المحاكمة عن بعد لا تحقق المحاكمة العادلة المنشودة وتستهدف حق الدفاع والمبادئ التي سار على نهجها القضاء التونسي. وتجنبت هذه الهيئة في الجلسة الأولى الخوض في الأصل وانصب تركيزها على الشكل من خلال طرح مسألة المحاكمة عن البعد واعتبروها انتهاكا صارخا لحق المتهمين في محاكمة عادلة تكفلها الأنظمة القضائية التي تتمتع بالمصداقية.
كما اعتبرت هيئة الدفاع أيضا أن الحضور في قاعة الجلسة ليس إجراء شكليا خلافا لما ذهب إليه البعض، بل هو ركن أساسي لضمان حق الدفاع وتكافؤ الفرص بين النيابة العمومية والمتهمين. كما أكدت على غياب جملة من الإجراءات الأخرى التي بغيابها تصبح نزاهة المحاكمة محل شك، وأكدت أيضا على أن المتهمين هم عنصر أساسي في المحاكمة شأنهم شأن القضاة وممثل النيابة العمومية وهيئة الدفاع وغيابهم غير مبرر بأي حال من الأحوال.
وأكد أحد أعضاء فريق الدفاع أيضا على أن الفوضى هي التي طغت في الجلسة الأولى وكذا سوء التنظيم ولم يتمكن أطراف القضية من قضاة ومحامين ونيابة ومتهمين من الاستماع جيدا لبعضهم البعض. كما تم التأكيد أيضا على أن المحامين سيواصلون الدفاع عن مبدأ عدم الخوض في الأصل ما لم يقع احضار المتهمين إلى قاعة الجلسة. وتوقع أحد أعضاء فريق الدفاع أيضا بأن الجلسة القادمة التي ستكون يوم 11 نيسان/ابريل ستكون نسخة مطابقة للأصل من الجلسة الأولى.
وللإشارة فقد تم في وقت سابق رفع قضيتين أمام المحكمة الإدارية بتونس في علاقة بهذه المحاكمات، واحدة موضوعها إلغاء قرار المحاكمة عن بُعد الصادر عن المحكمة الابتدائية، وأخرى استعجالية موضوعها إيقاف تنفيذ المحاكمة. ومن بين أهم دفوعات هيئة الدفاع في القضيتين، أن قرار رئاسة المحكمة الابتدائية القاضي بإجراء المحاكمات عن بعد هو قرار غير معلل ولم يأخذ موافقة المتهمين، وبالتالي فهو برأي هيئة الدفاع موجب للإلغاء.
من جهة أخرى يدافع الموالون للسلطة في تونس على مثل هكذا محاكمات عن بعد ويعتبرونها ضرورية مع تطور التقنيات الحديثة ومواكبة المنظومة القضائية للعصر. وبالتالي لا مجال برأيهم للمقارنة بين الماضي والحاضر باعتبار أن الحياة تطورت، والرقمنة طالت جميع المجالات بما في ذلك ميدان العدالة حيث لم يعد حضور الأطراف ضروريا برأيهم، وقد تجلى ذلك بصورة جلية خلال فترة الحجر الصحي التي تسببت فيها جائحة كورونا.
ويرى هؤلاء أن هناك خطرا حقيقيا يهدد سير المحاكمات وسلامة أطرافها وأن قرار المحكمة الابتدائية كان صائبا ولم يكن اعتباطيا وليس لرغبة من السلطات القضائية في التنكيل بالمتهمين مثلما ذهب إلى ذلك البعض، وإنما فرضته الضرورة وأسباب لا يمكن الحديث عنها في العلن. فالمتهمون، برأيهم، من الحجم الثقيل وليسوا أيا كان وسلامتهم الجسدية مسؤولية السلطات التونسية وهناك من يتربص باستقرار البلاد ولا يريد لها الخير وقد يستهدف طرف ما في هذه المحاكمة فيحصل اضطراب في البلد يصعب تطويقه لاحقا وسيتم حينها اتهام الدولة بالتقصير في توفير الحماية لمواطنيها.