عيلبون ـ «القدس العربي»: كانت مجموعة الرحابنة منذ انطلاق مشروعها الفني الكبير قد حملت القضية الفلسطينية بهمومها، ومن الطبيعي أن يبادر باحث فلسطيني عاشق لها بتوثيقها، ويقدم قراءة مستفيضة فيها ضمن عمل موسوعي كبير. في حيفا صدرت هذا الأسبوع عن دار النشر (كل شيء) موسوعة «المحبة.. الميثولوجيا الرحبانية». في هذه الموسوعة الصادرة ضمن أربعة أجزاء يتتبع مؤلفها فضل سمعان (أبو نزار) مسيرة الرحابنة، بالرصد والتحليل بمقاييس جمالية فنية، فيقدم قراءة تفصيلية لأعمالهما، متبنيا فلسفة الأخوين منصور وعاصي بقولهما «إنهما قصدا التغيير بعمق في الإنسان، وفي نظرته إلى الموسيقى ونقل الإنسان الشرقي من القتامة إلى الإشراق، من البكاء في الحب إلى الفرح». وتستعرض الموسوعة مراحل «الثورة الفنية الرحبانية» مواضيع ومضامين الغناء على أنواعه، إضافة إلى فصل عن فيروز في الظاهرة الرحبانية، ورغم تبجيل سمعان لصوتها، إلا أنه يعتبرها وردة في حديقة الرحابنة، وأن مشروعهم كان سينجح حتى لو استبدلت فيروز، بفضل قوة كلمتهم وألحانهم ومجمل فلسفتهم الثقافية والموسيقية.
زيارة إلى عيلبون
فضل سمعان عاشق فلسطيني للثقافة الإنسانية الواسعة من عيلبون قرية في الجليل صغيرة بتعداد سكانها، كبيرة بثقافتهم ومحبتهم لها. عمل أبو نزار ثلاثة عقود ونيّف في التمريض ومداواة الجسد، لكنه لم يبرح يوما غذاء الروح (الموسيقى والغناء) خاصة الرحابنة الذين سكنوا عقله ووجدانه، فيكاد لا يسمع إلا نتاجاتهم. وكبرت محبته للرحابنة مع الأيام. فمنذ اطلاعه على أعمال الأخوين منصور وعاصي الرحباني في نهاية خمسينيات القرن الماضي بدأ يبحث عن سيرتهما وفلسفتهما الموسيقية، وما لبث أن تحوّل لباحث مختص بأعمالهما، وصار يدرس ويعاين كل ما يصدر عنهما بالتفصيل، وبعد ستة عقود أثمرت مساعي البحث والتنقيب والإصغاء لكل كلمة رحبانية في كتابة الموسوعة.
أجزاء الموسوعة
في الجزء الأول عالج المؤلف مواضيع تمهيدية لـ»الميثولوجيا الرحبانية» ومفهومها لديه، انطلاقا من «المدرسة الرحبانية» فـ«الثورة الفنية الرحبانية» و«تأَلُّق فيروز في الظاهرة الرحبانية» ثم «جولة في حدائق الكلمة الرحبانية» فـ«المرأة والحب في الأدب الرحباني» وصولا إلى «البيت: وطن الطفولة» فـ«الضيعة: وطن الصبا والشباب» ثم «أهل الضيعة ومعالمها وعاداتها وتقاليدها في الأعمال الرحبانية» وانتهاءً باسكتش «حكاية الإسوارة».
أما في الجزء الثاني فيسرد المؤلف المفهوم الرحباني لــ«لبنان وطن القلب ووسادة الروح» و«لبنان الراية الرحبانية» و«لبنان معبد التنسُّك الرحباني: أرضا وإنسانا ووطنا أخضر» مع تركيز على بعض الأعمال: «البعلبكية» «رحيل الآلهة» «جسر القمر» «دواليب الهوا» «ناس من ورق» «لولو» و«ميس الريم».
ويأتي الجزء الثالث فيدرس المؤلف «الإنسانية في الوطن الرحباني» مفصِّلا «الظلم الداخلي» (في «الشخص» «صح النوم» «ناطورة المفاتيح» «يعيش يعيش») ثم «الظلم الخارجي» (في «أيام فخر الدين» و«بترا») وتوقف مليّا عند «فلسطين في الأدب الرحباني» عبر «راجعون» «أغاني العودة» «القدس العتيقة» اسكتش «جسر العودة» مغناة «راجعون» و«أعمال قصيرة في خدمة القضية» واسكتش «حصاد ورماح» ومسرحية «جبال الصوان».
وفي الجزء الأخير بحث عن «الوطن الرحباني الأكبر» في «المحطة» «هالة والملك» فـ« والإيمان في الأدب الرحباني» وما فيه من بُعد إنجيلي يتجلَّى في المحبة والسلام والفرح والكرمة، والأطفال ملائكة الأرض، خاتما بمفهوم «الزواج والحب في الميثولوجيا الرحبانية» و«النور وجذوره الإنجيلية» ومنتهيا إلى «الليل والقنديل» و»مختارات رحبانية منوعة.
بعلبك.. أنا شمعة على دراجك
«القدس العربي» زارت الباحث فضل سمعان في بيته، لتدلّ جدرانه إلى قصة حبه مع الرحابنة، فهي مزدانة بشهادات شكر تلقاها على محاضرات قدّمها حول «الأسطورة الرحبانية» ومنها معلقات معدنية وخشبية فنية. وهناك خزانة خشبية أنيقة في صالون بيته يحتفظ فيها بعدد كبير من الإسطوانات الغنائية الرحبانية بعضها عمره عقود.
يستهل أبو نزار حديثه بالإشارة إلى أن «قصة الحبّ» مع الرحابنة بدأت مبكرا جدا وما زالت انطباعات احتفالية بعلبك الكبيرة عام 1960 محفورة في خلده. وعن ذلك يقول: طلك أن تسمع وتصغي للسيدة فيروز وهي تعتلي المنصة التاريخية في بعلبك وهي تنشد: «بعلبك… أنا شمعة على دراجك… وردة على سياجك… أنا نقطة زيت بسراجك.. بعلبك يا قصّة عزّ عليانة… بالبال حليانة… يا معمّرة بقلوب وغناني..».
الملحمة البعلبكية
يدندن هذه الأغنية الملحمية وهو يقول إن فيروز غنت لبعلبك لكنها بذلك غنت لكل الأوطان وقد «شعرت أنها تغني عن وطني الصغير عيلبون وعن وطني الكبير فلسطين في هذه الأغنية». وأبو نزار كان من أوائل المهتمين بالمسرح في أراض 48 فأقام فرقة مسرحية سماها «فريق الفيروز للتمثيل المسرحي عيلبون» عام 1961 وقدّمت مسرحية «فوق الانتقام» اعتمادا على نص للكاتب فؤاد مدوّر، ثم قدمت مسرحية «أبناء الأرامل» للكاتب المصري محمود ذياب. في غمرة انشغاله بالمسرح كان أبو نزار كبقية الشباب في بلاده مغرما بعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وصباح وسميرة توفيق وأم كلثوم، وبأغاني الحب والعشق في ما كان صوت فيروز غريبا لم يستوقفه في البداية، حتى قيض له أن يسمعها في مهرجان بعلبك عام 1956 عبر المذياع الصغير. وتابع «كان ذلك بفضل جاري طارق زريق الذي اقترح عليّ سماع فيروز، فتحفظت وقتها لكنه ألّح فأصغيت لأغانيها في مهرجان بعلبك ودخلت قلبي، ولاحقا سمعت المزيد من دررها ودغدغت خاطري وهي تغني للحياة للفرح وللحب والإنسان والأرض، ودون بكائيات وندب بل غناء مع أحاسيس منضبطة. أذكر كيف طرت فرحا عندما سمعتها تغني قصيدة سعيد عقل: «بحبّك! ما بعرف، هنّ قالولي.. من يومها صار القمر أكبر.. عَ تلالنا، وصارت الزغلولة… تاكل عَ إيدي اللوز والسكّر..». أصغيت للكلمة الرقيقة العبقرية في بساطتها وقوة تعبيرها وليس فقط للصوت الفيروزي الصافي. من وقتها ابتدأ مشواري، بل رحلتي الممتعة مع الرحابنة فصرت أسمع وأصغي وأحفظ وأدرس وأحلل وكلما قارنت اكتشفت سخافة الكثير من بقية الأغاني غير الرحبانية».
المأساة الفلسطينية
ويؤكد أن الرحابنة لامسوا قلبه كإنسان وكفلسطيني عندما غنت فيروز أغاني العودة كأغنية «جسر العودة» أو «احترف الحزن» وكلاهما للأخوين الرحباني وهما تختزلان عذابات الشعب الفلسطيني، في لغة شاعرية ملتهبة وتنطق الوجع وعن ذلك يقول منفعلا لحد الدهشة: «كيف لا وفيروز تشدو معبرة عن هذه الفاجعة الإنسانية التي أصابت فلسطينيين كثرا وأسرهم، داخل غربة موجعة يفترشون فيها الأرض وفوقهم خيمة تعبث بها الرياح: أحترفُ الحزن والانتظار أرتقبُ الآتي ولا يأتي.. تبدّدتْ زنابق الوقتِ.. عشرون عاماً وأنا أحترف الحزن والانتظارْ..».
يدندن أبو نزار هذا المقطع من القصيدة، وكأنه يقف بنفسه على عتبة «بوابة الدموع» وغيره الكثير من نصوص الأعمال الرحبانية، يحفظها عن ظهر قلب ويحّرك يديه بحركات مسرحية وهو يتساءل هل تجد أعمق من هذه الكلمات تعبيرا عن نكبة الفلسطينيين؟
وغاب نهار آخر
ويوضح أبو نزار أن أغاني العودة مثل «وغاب نهار آخر» التي غنتها سهام شماس قبل أن تغنيها فيروز، عبارة عن أيقونة فنية معتبرا أنها تسحر من يسمعها وهي تصف مشاعر اللاجئين تتقاذفهم أمواج الأمل واختلاطها بأمواج الخيبة: غاب نهارٌ آخر… غُربتنا زادتْ نهار.. واقتربتْ عودتُنا نهارْ». ويتابع «لكن السحر الحقيقي يكمن في الكلمة والمعنى واللحن قبل الصوت مهما كان جميلا. لا بد من أن عاصفة تهب داخلك عندما تسمع القول في هذه القصيدة المدهشة «ودَّعني طيرٌ وقال إلى بلادي أمضي ذَكَّرني بِطردي وكَبُر السؤالْ غاب نهارٌ آخر.. نهارٌ آخر..». هل سمعت من وضع صورة معبرة كهذه عن هؤلاء اللاجئين داخل خيمة بائسة ينطرون العودة لأوطانهم؟
وفي الموسوعة يخصص الباحث الفلسطيني العاشق للرحابنة فصلا في موسوعته الجديدة عنهم هو «الرحابنة وفلسطين» ويعتبر أنهم أفضل من أطلع البشرية على عدالة قضيتها للعالم. كذلك يتوقف في هذه الموسوعة عند دور الرحابنة في توثيق الوطن اللبناني بنباته وطيوره ومناطقه من عكار إلى صور في الجنوب، بل هو توثيق لماضي لبنان وسوريا الكبرى كما يقول سمعان باعتزاز لافت.
مشوار الرحابنة
أبو نزار الذي يحفظ تواريخ ميلاد الرحابنة يستذكر أن منصور وعاصي عاشا كتوأمين منذ كانا طفلين في قرية أنطي الياس في جوار بيروت، ويدلل على شغف وعبقرية منصور الرحباني في مجال الكتابة والموسيقى بالقول، إنه أصدر جريدة جمع فيها مقالات سماها «الحرشاية» وهو في الثالثة عشرة من عمره. كما يستذكر أبو نزار تعرّف الرحابنة على فيروز في 1950 وهو يحتفظ بالكثير من تفاصيل سيرتها الذاتية، لافتا لولادة أول عمل لهم معها قصيدة: «حبذا يا غروب» منوها لزواجها من عاصي الرحباني. ويشير لضياع مئات من ألحان الرحابنة لأن الإذاعات العربية في البدايات تحفظت من بث أغانيهم المتميزة بنمط جديد في مضامينها وألحانها وأدائها، رغم عمل عاصي الرحباني وقتها في الإذاعة اللبنانية. ويبدي العاشق الفلسطيني للرحابنة سعة اطلاع بمسيرتهم منذ انطلاقها مبكّرا، فينبه إلى أن الفضل في الكشف عن الجواهر الرحبانية، هي إذاعة دمشق بإدارة أحمد عسّي الذي كان أول من آمن بالرحابنة ومشروعهم، فأذاع أعمالهم رغم احتجاجات مسؤولين وسياسيين منهم على سبيل المثال عضو البرلمان السوري الكاتب فخري البارودي، الذي اعتبر هو الآخر أن الرحبانيات تسيء للذائقة الفنية العربية، لكن العسّي ظل مثابرا على محاولات إقناعه حتى نجح بعدما أسمعه أغنية «عتاب» الممتازة بكلمات وألحان سماوية». ويكشف أبو نزار أن الفضل في بلوغ صوت فيروز والرحابنة إلى الفلسطينيين داخل أراضي 48 يعود لإذاعة دمشق. ويرى أن كلمة الرحابنة نجحت وانتشرت بسرعة، لأنها غنت للحب وللإنسانية وللمرأة وللوطن ويقدم أمثلة كثيرة من قصائد يحفظها غيبا فيقول مثلا: «تخيل جمالية وصف الجاذبية بين الرجل والمرأة «الحب والتلاقي تمرّد الزهر على التراب». الحب عند الرحابنة هو عملية قدرية لا حياة دونها وليست للهو والتسلية». وعن حفظه عددا كبيرا من أعمال الرحابنة يقول الرجل مبتسما، إنه كان يعود لسماع الأغنية الواحدة خمسين مرة يصغي فيها لكل حرف مشيرا لمتابعته لها منذ 60 سنة ويتابع.. «رغم هذا الشغف لا أقول إنني سمعت كل أعمال الرحابنة فهذا ، بل محيط من الكلمات وتحتاج لعمرين كي تغطس فيه وتلتقط دررهم».
لقاء منصور الرحباني في القاهرة
ودفعته محبة الرحابنة للبحث عن طريقة للاتصال بهم، حتى نجح بالحصول على رقم الهاتف الخاص بالراحل الخالد منصور الرحباني: «كان ذلك عام 1999 وعندما هممت للاتصال به كنت في سري أتمنى أن لا يرد، بسبب انفعالي ورهبتي من هذا المكالمة مع هذا العملاق صاحب الكلمة الجميلة المحاربة اجتماعيا وسياسيا، لكنه ردّ بهدوء لافت وكان قلبي يخفق خفقة إضافية كل ثانية. تلبكت وتحدثت واكتشفت أنني اتحدث مع إنسان هادئ عميق ومحّب. بعد عام التقينا في القاهرة وامتلأت سعادة عندما تلقيت دعوة شخصية لمشاهدة مسرحية غنائية للرحابنة (آخر أيام سقراط) في دار الأوبرا المصرية. كان ذلك بالنسبة لي حلما وكأني أطير فيه للسماء وأعود ولوقتها غالبتني الدمعة عندما وجدت نفسي هناك أمامهم ومعهم. ويستذكر أنه أطلع منصور الرحباني في ذاك اللقاء في القاهرة على مشروع الموسوعة الرحبانية، وقد أصابته الدهشة لكثرة المواد التي جمعتها عنهم ولمعرفتي الواسعة بكل مسرحياتهم الغنائية البالغة نحو 28 مسرحية كبيرة، علاوة على عشرات الاسكتشات القصيرة ومئات القصائد والأغاني، واليوم فرحتي كبير والدنيا لا تسعني عندما تلقيت أخيرا بين يدي هذه الموسوعة التي استغرقت جهدا لا يعلم به غير زوجتي ورب العالمين».
زهرة في حديقة الرحابنة
وردا على سؤال، ينفي أبو نزار أنه غمط حق السيدة فيروز ويقول، إنها صاحبة صوت ملائكي لكنها زهرة في حديقة الرحابنة، ولم تكن تطير للعالمية لولا كلمات الأخوين الرحابنة. وضمن رؤيته هذه يضيف «لا يوجد شيء اسمه تلحين، بل هناك كلمات وقصائد. عندما تفاعل الرحابنة مع قضية أو قصة عبروا عنها بكلمات رقيقة والكلمات هي بذاتها لحن تحمل موسيقاها، هل ينزل الشلال في الطبيعة بلا صوت؟!
سلمت يداك أستاذ عواوده على كتاباتك ،عندما أقرأها انتقل بروحي وقلبي إلى فلسطين الحبيبه التي اعشق ثراها.