مدينة اور التاريخية
كل لقاء محكوم بزمن، ولكن بعض اللقاءات يكون تأثيرها أطول من عمرها، وقد لمست الآنسة نيدابا ذلك التأثير في لقاء إنساني حمل بعداً عميقاً، وحين تبدأ الآنسة بسرد الحكاية سأرسل كلماتي إلى منفاها.. فالحرية حين يسمح لموسيقى الآلهة بالعزف.
نيدابا: في لحظة عبوري للحاجز الأمني الأخير لمبنى السفارة الفرنسية في بغداد استوقفني رجل، وقد لاحظت خطوط الزمن رسمت وجودها في وجه كأنه قمر شاحب…
عفواً هل تسمحين لي أن أسألك؟
نيدابا: تفضل يا سيدي.
أنا اسمي إلياس.. ولدت هنا في بغداد.. أنتمي إلى هذه الأرض.. هل بالإمكان مساعدتي للحصول على (فيزا) تأشيرة سفر إلى باريس؟
بعد أن وقع تفجير كنيسة سيدة النجاة في بغداد أعلنت حكومة فرنسا دعمها لاستقبال المسيحيين العراقيين، فهل يمكنني الهجرة؟ لكن ليس من السهل مغادرة هذا الانتماء؟ ولا أعرف كيف أعبر لك عما يجول في خاطري؟ تؤلمني سياط العاصفة وتدفعني للهجرة، ولكن العاطفة تشدني إلى هذه الأرض، وها أنا أقف حائراً بين العاصفة والعاطفة.. تنهش مشاهد الخراب أسوار حضارتي.. ولم أتمكن من تنظيم تساؤلات نفسي المتأرجحة، التي لا ترحمني، ولا تتابع عرض شريطها بهدوء، كيف وصلت إلى هنا؟
من المستحيل ان يفارقني الوطن.. الوطن لا يرحل، وأنا كذلك لا أرحل..
عشت في هذا البلد، وبداياتي الوظيفية (معلم) وانطلقت رحلتي من أقصى الشمال، حيث أعالي الجبال، وتدحرجت ككرة ثلج لا تذوب.. أتنقل بين مدارس شمال ووسط البلد، ثم عانقت نخيل البصرة، وكل الذين التقيتهم في رحلتي الطويلة، رسموا ألوان الوطن في كياني.
نيدابا: تعال نجلس إلى رصيف الزمن، فربما نعثر على محطة تنتظرنا، أو قد يكون فرصة للبوح أكثر عما يجول في أعماقنا.
أنا نيدابا عراقية أنتمي إلى هذا البلد الحزين.. وأحياناً السعيد.. البلد العنيد دائما.. كم أعشقه.. أتخيله كتاب طفل نائم.. صفحاته من طين، وكلما فتحت صفحة أشرقت منها حضارة، وإذا طويت صفحة اندثرت حضارة، وهكذا تتابع الحضارات وجودها في بلد الطين والشمس. الحقيقة أني صغيرة في السن، ولكن في شهادة ميلادي الأمر مختلف تماماً.. ما رأيك أن تهاجر معي إلى أور إلى خمسة آلاف عام، تعال نلمس أحجارها المسحورة لتختطفنا إلى الاغوار السومرية.. لنفتش بين وجوه الآلهة عن الآلهة نيدابا، كم أنا متعطشة لذلك اللقاء، أريد أن أسألها كيف تسللت إلى خفايا الأعماق؟ كيف غرست وجهها بين الماء والطين؟
أيتها الآلهة: هل أنا أشبهك؟ ولماذا تستدعين حضورك في كياني؟
الآلهة نيدابا: ايتها الآتية من بلد أعرفه في زمن لا أدركه، أود أن أعبر لكِ عن غبطتي ومسرتي لمصادفتي نموذجي ونظيرتي.
نيدابا: من يصدق أني التقيت بنظيرتي السومرية القديمة..
إلياس: أنا حالم وتحيط بي معالم من الرهبة والدهشة والذهول والتأمل والفرح…هذه بيوت أور فيها مقادير كثيرة من ألواح الطين، وأشم في كل لوح رائحة البلد العريق.. أنظري يا نيدابا لقد عثرت على نظيري السومري في هذا اللوح.. سأتلو على مسامع قلبك مذكرات تلميذ سومري كتب مذكراته قبل أربعة آلاف عام، وهل كان يحلم بأن الحياة ستعود لمذكراته؟
«كنت أستظهر لوحي، وآكل طعام غذائي وأهيئ لوحي الجديد لأكتبه وأكمله، ثم يعينون لي درسي الشفهي، وفي العصر يخصصون لي درسي المكتوب، وعندما تنصرف المدرسة أعود إلى بيتي، فأدخل الدار، وأجد أبي جالساً هناك فاطلع أبي على درسي المكتوب، ثم أستظهر له لوحي فيسر أبي لذلك… وعندما أستيقظ في الصباح أواجه أمي وأقول لها: أعطني طعام غذائي لأنني أريد الذهاب إلى المدرسة، فتزودني أمي برغيفين وعندئذ أشرع بالمسير إلى المدرسة. وفي المدرسة قال لي العريف: لما أنت متأخر؟ ثم دخلت وأنا وجل خافق القلب في حضرة مدرسي، وحييته باحترام». ثم يقوم المعلم بتدوين قطعة شعرية بشأن التلميذ «أيها الشاب، لانك لم تهمل قولي، ولم تنبذ إرشادي، عساك أن تبلغ القمة في فن الكاتب، وعسى أن تتقنه غاية الإتقان، ولعلك تكون قائدا بين أخوتك وأن تصبح رئيساً على جميع أصدقائك، وليتك تبلغ أعلى الرتب بين طلاب المدرسة.. حقا لقد أنجزت أعمال المدرسة كل الإحسان وأصبحت رجل علم».
حين تغمرني نواميس أور القديمة لم أعد أتذكر شيئاً من روزنامة بلدي الحزين، وكل ما أدركه في هذه اللحظة هو الحضور الروحي في محفل أور.
لتعذرني كل تواريخ بلدي إن أختزلت الكثير من لحظاتها، وها هي أور العريقة تحتفي، وقد تمت إنارة زقورتها لأول مره منذ أربعة آلاف عام، ابتهاجاً بزيارة قداسة بابا الفاتيكان فرنسيس.. ومن طرفي أتمنى أيضاً أن تسلط الأضواء وتتواصل عمليات البحث والتنقيب في أعماق سومر..
قداسة البابا فرنسيس أدهش العالم بقوله (جئت حاجاً إلى العراق مهد الحضارة والتنوع الديني٫ (ارى طريق الحج من هذا المكان الذي يذكرنا بأبينا إبراهيم ٫ (من هذا المكان بدأ الايمان والتوحيد من ارض ابينا ابراهيم). في هذه المدينة تنبت سنابل الحياة وألواح الطين مفعمة بالسحر والإبداع .. يمنح الإله إنكي تقدير مصير سومر من خلال نص مبدع:
يا سومر يا أيها البلد العظيم بين جميع البلدان في العالم
انت مغمور بالنور الثابت الراسخ، الذي ينشر من مطلع الشمس إلى مغرب الشمس النواميس الإلهية بين جميع الناس. إن نواميسك المقدسة نواميس سامية، لا يمكن إدراكها، قلبك عميق لا يسبر غوره، المعرفة الصحيحة التي تأتي بها.. كالسماء لا يمكن أن تمس، والملك الذي تلده متوج بالتاج الأبدي.
كاتب عراقي
عندما يجلس الماضي والحاضر والمستقبل على طاولة ويعلو الضجيج لا صوت يعلو فوق صوت العراق
هل يسمح لنا المنبر بالعودة للعراق لكن على ظهر الكلمة فهي أسرع من الريح بل البرق شكرا لقد وقف التاريخ أمام الصورة التي لم يظهر في وجهها شيب رغم مرور عشرات القرون ولم يكتف بالوقوف فقط بل أمسك ريشته وبدأ في رسمها على ظهر صفحة من صفحاته الدهبية الفضية واختار لها لونا من عالم لالوان ولم يسمح لها بأن تختار أراحها فقط طلب منها أبتسامة وقبلة وفعلا فعلت ولما لا أنه التاريخ وما ادراك دكي ومحنك ومعلم لامثيل له نعم لاتكفي هده الكلمة فالمساحة المخصصة جد قصيرة تحية للكاتب المحترم وهي كدالك لكل عاشق للفن والتاريخ