المرأة بين قيود الهوية والوطن في «مذكرات امرأة غير واقعية»

سحر خليفة تبدو في جل روايتها منشغلة بهموم الوطن المحتل والتزامها بقضاياه، كما تحضر ثيمة المرأة في مواجهة ظلم الرجل. وكأنها تعكس معاناة المرأة في إثبات هويتها بالقدر نفسه، الذي عالجت فيه معاناة الفلسطيني من أجل الحرية. متلازمتان عصيتان على التحقيق. سحر لا تكتب للمرأة فقط، ولا للوطن فقط، وفي روايتها «مذكرات امرأة غير واقعية» تتماهى هوية المرأة مع هوية الوطن في بوتقة: (لا أدري كيف توصلت إلى معرفة أن فلسطين هي بلدي، وأن فلسطين ضاعت).

البحث عن الذات

تفتح الساردة نصها بإعلان الضمير: (أنا ابنة المفتش) هو تأكيد للذات غير موارب، لكنه يفتقد إلى الاستقلالية التي تفرض نفسها على سياق السرد، من خلال هذا الضمير، ذلك أنها: (ابنة المفتش… وزوجة التاجر). هذا الحذر الذي تخلصت منه يتكسر في كونها ابنة المفتش ثم زوجة التاجر، وكأن هذه الكينونة لا تنسجم إلا مع هذا الرجل الذي يكمل الجملة، مع التحول إلى ثالثة، فهي (أحيانها ـ أكون الاثنتين معا). ثم تصل إلى درجة من الوعي بذاتها: (واكتشفت أني مشوشة الهوية، وقد كنت مشوشة أصلا، فأنا بنت، لكني لخوفي من تخوفاتهم تصبينت، وصرت ما بين البينين). وهو ما زادها تشظيا بين: الأنوثة المرفوضة والذكورة المرغوبة، فـ(ازدادت هويتي تشويشا).

الوعي

تبدأ معالم التمرد على الوضع (زوجة التاجر) فهذا (الزوج.. يسبب لي أقسى أنواع الوحدة… وينبت السؤال فجأة: ما الذي أوقعني في هذا الفخ). ترى حياتها مثل ثوب يدور داخل آلة الغسيل في حركة رتيبة، وتستعيد ذاك التأرجح الذي عاشته طفلة ترفض الأنوثة، وتكره انحياز المجتمع للذكر، وتحاول الإفلات من هيمنة الرجل/ الأب، لكن مع إحساس بعدم الجدوى (وأنا أقرأ عن ظروف المرأة والتربية والسجن، وكيف لن تكون حرة حتى لو أفلتت من كل قيد لأنها في الداخل ليست حرة.. وردت لأن أتحدى، أتحدى التربية… وأكون كالرجل تماما). ويدفعها التحدي إلى أن تمثل الدور وتقول: (وضعت أمام عيني هذه الصورة: امرأة تنفذ رغباتها بالأسلوب نفسه الذي ينفذه الرجل، امرأة ترغب وتشتهي وتحس، تستخدم الزوج كما يستخدم الزوج امرأته، تستعمله كما يستعمل الرجل المومس). ومع كل هذا التخبط الذي تعيشه عفاف إلا أن وعيها بذاتها يصل إلى درجة مميتة من اليأس تجعلها تقدر أن هذا الوضع لا حل له إذ هو (إحباط ممتد، لأني أعرف الحقيقة… وعرفت أني سأظل متعايشة مع هذا الإحساس حتى نهاية الزواج… وأن الزواج تبدى أطول من الحياة نفسها). وتدخل الساردة في مقارنة بين زواجها الممل وحياة قطتها التي (ستعود عنبر – القطة – وفي بطنها، صغار يستلون عصير الحياة من جسمها… وتصبح قطة متهدلة هرمة… هل أنقذها، وبذلك أفرض عليها الحل فرضا كما فرُض علي؟ هل أدعها للطبيعة فيحل بها ما حل بي؟).

التمرد

وترجع عفاف سبب فشلها إلى هذا الزوج الذي بعد (سنتين.. عرفوا أنهم أخطأوا ـ بتزويجها منه). إذ أن ذلك الزواج لم يكن إلا عقابا لها فـ(تزوجت وتعذبت وحملت وفقدت استمراري في بيئة تعتبر النسل أهم مبرر من مبررات وجود المرأة) وبالتالي (خضت الواقع ودخلت عالم الزوجة الواقعية، عرفت أني لن أختار واقعي) وتنتظر (المعجزة وأتطلق وأبدأ حياتي من جديد) وتصل الأزمة بين الزوجين حيث (تمر الأسابيع دون أن يخاطب الواحد منا الآخر… كل منا في عالمه) ليصبح الاستمرار في الزواج هو نوع من الغربة داخل غربة أكبر، وهو الابتعاد عن الوطن، رغم أن هذا البلد محتل، ويكون الحنين إلى الوطن رغم احتلاله جارحا: (لا أذكر أيام الاحتلال الأولى، والناس رحيل وخوف وجوع وندب متواصل وأقول.. هكذا بلد تحبل وتلد لكني في الأمسيات وحين تنفتح الشاشة الصغيرة على صوتها وتقول: اللي في بلاده حبايب أبكي).
إحساس عفاف بانعدام البديل يحد من عزمها إلى الانعتاق من الاغتراب مع الزوج والاغتراب في البلد الذي هاجرت إليه معه، هكذا تسلم بوضعها في لحظات ضعف قائلة (عدت إلى بيتي… وقلت إن هذا المكان هو الذي اختارته لي الدنيا، وإني لا أملك سواه مكانا يحتويني أو يؤذيني.. وإن الحقيقة ما يلي: ألا مكان للمرأة إلا بيتها). ثم تستطرد: (هذه إحدى الحقائق لبقائي في هذا البيت. أما الحقائق الأخرى فعديدة).
مثل هذا الحديث كان كفيلا بإعادة حساباتها (يكفيني من هذا الحديث بشجون واقعية وغير واقعية، واقعية لأني أعرف أن الطلاق لن يأتي بالحل، وغير واقعية لأنه يراودني في المنام والأحلام ودعاء الصباح). وحتى عندما تلتقي برجل صدفة وأحبته بسرعة فإنها لم تكن لتبتعد بأحلامها بعيدا عن الواقع تقول: (ما كنت أرغب في شيء أكثر من التمعن والتأمل، وقلت له: إني متزوجة وإني غير سعيدة، وقال: إنه متزوج وغير سعيد). هذه اللحظة المنفلتة من حياتها التعسية تعيدها بعد الانطلاق إلى نقطة الصفر، إذ تفكر (سنبدأ من جديد، لكني فوجئت… ما كان يعرف أين الخسارة، ثم اكتشفت لأني امرأة أنا الخاسرة).

قد تبدو الرواية دون موضوع محدد، وقد يعتقد أنها سهلة الكتابة، لكن جمال الحكي وتماسكه، وقوة السرد وتشعبه تبقى أهم المقومات التي تجعل القارئ يعود مجددا إلى قراءة النص بنهم متواصل.

غربة الوطن

تمثل فلسطين داخل الرواية الخلفية الهامشية للفلسطيني الذي يعيش الاغتراب في وطن اختار الهجرة إليه. وبالتالي تصبح «مذكرات امرأة غير واقعية» رواية للاغتراب واللا جدوى من الانتظار لوطن فقد هويته. ويتقلص في الذاكرة ليصبح ذكرى، والواقع يرغم المرء على تقبل حالته (كان الناس أقل هما، لا احتلال ولا اعتقالات وسجون، كانت فلسطين، يافا، وحيفا وأحلام انتصار وعبد الناصر يزف الخبر، كانت الأيام أفضل أو ربما اعتقدنا أنها أفضل). إن أقصى درجات الاغتراب هو عدم الإحساس بالجرح، بحيث يصبح القبول بالواقع هو نوع من الاستسلام المدمر، لتصبح فلسطين مرتبطة في الذاكرة بماض غير قابل للاسترجاع، وأن على المرء أن يفكر كثيرا قبل أن يستوعب حجم الخسارة. هذا ما استعادته ذاكرة عفاف وهي تعود إلى المكان/ البيت، والأب، والأم والشجرة الدار وتخفي وراءها أخطاءها الصغيرة: (كانت كلمة فلسطين تتردد كثيرا، وكان أبي يفقد أعصابه ويبدأ بتوجيه اللوم لآخرين لا أعرفهم). وكأن الأمر مرتبط بصحوة. وتبحث الساردة في ثنايا الذاكرة التي لا تسعفها بالذكريات الكفيلة لتحليل الأحداث بقدر ما تسعفها بوجود داء محفور بعمق في اللاوعي (لا أدري كيف توصلت إلى معرفة أن فلسطين هي بلدي؟ وأن فلسطين ضاعت وأننا نمر بمأتم كبير).
إن الوطن والاغتراب عنه أو فيه لم يكن مقصودا لذاته، وإنما هو مجرد انعكاس لاغتراب داخل الذات، وشرخ تعاني منه شخصية الساردة/ عفاف، التي لا تضع يدها على الخلل الذي في داخلها، إلا بعد أن فقدت الجدران التي كانت تسندها والتي عملت على تحطيمها باعتبارها جدرانا لسجن الأب/ الزوج/ العائل المادي.
وفي جلسة (مهادنة) مع صديقة تحدثها عن الشعوب التي ثارت وحملت السلاح وناضلت حتى الاستقلال؛ فيتنام وكوبا والهند والسند واليمن السعيد، فتسألها (ومتى يجيء دور عفاف، قالت: عفاف جزء من ثورة المرأة الفلسطينية، والثورة الفلسطينية هي جزء من الثورة العالمية). هذا التوالد الدلالي يقود الساردة إلى الوصول إلى حقيقة (وفي ختام الجلسة، وصلنا إلى أمرين، الأول هو أن الثورة ثورة المرأة، لا بد منها حتى تتحقق الثورة الشاملة، والثاني هو أن على الثوريين أن يقوموا بتثوير المرأة). لكن الأمر لا يثير فيها إلا السخرية: (كيف يثوّرون المرأة؟ يقولون لها: ثوري، ثوري؟). هذا التفريغ الساخر للقضية يعكس سطحية امرأة اختارت لنفسها حياة بين جدران، دون تعليم ولا دخل مستقل، وبالتالي يصبح الاغتراب الذاتي جزءاً من قضية الوطن، إن لم يكن القضية بعينها، وأن استقلال الذات هو سبيل إلى استقلال الوطن (إني في النهاية اعترفت أن المسألة بسيطة لكنها مسدودة بقشة.. وعدت أتذكر اسمي عفاف وأني أنزل في غرفة في فندق… وأشرب بيرة وأني على الطريق إلى الثورة، لكن الجسر مغلق).
تصر سحر على السير بنا قدما في متاهات سردية ممتعة من خلال «مذكرات امرأة غير واقعية» ذلك أنها تظهر قدرة كبير ة على السير في الزمن الحاضر ثم العودة به إلى الماضي، في أزمنة دون ترتيب، لكنها تبقي القارئ ممسكا بخط السير إلى الأمام في سرد أحادي الجانب لكنه متشعب المسارات.
قد تبدو الرواية دون موضوع محدد، وقد يعتقد أنها سهلة الكتابة، لكن جمال الحكي وتماسكه، وقوة السرد وتشعبه تبقى أهم المقومات التي تجعل القارئ يعود مجددا إلى قراءة النص بنهم متواصل.

ناقدة من المغرب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فضيلة الوزاني التهامي:

    المشرفون على القدس العربي الغراء، كل الشكر والتقدير على جميل الاهتمام،مودتي وامتناني

اشترك في قائمتنا البريدية