الرواية القصيرة كجنس أدبي؛ تدخل تحت عباءة الموضة الجديدة في مجال الكتابة أو منطقة التأليف، وهي كتابة هجينة بالمفهوم الإيجابي؛ كونها تتعاضد في لحمة تجمع بين تكنيكي الرواية والقصة؛ حيث تأخذ من الأعمال الروائية الوصف دون الإغراق في ذكر التفاصيل الزائدة، والإسهاب المخل بعمليتي النظام والبناء الفني، ومن القصة، الإيحاءات والدلالات والتشكيلات الرمزية والتكثيف اللغوي والاختزال، كما ذهب إلى ذلك جمع من النقاد، والملمح الجوهري الذي يكتسي طابعها، في أنها تستجيب لمعطيات الحاضر، إذ تتماشى مع نبض إيقاعات العصر المتسارعة، وهي إحدى المفارقات التي شكلت انزياحا عن السرد المعتاد في ظل المشهد الثقافي، وقد أفلح الروائي العراقي هيثم بهنام بردى في معانقة هذا النوع من السرد في رواية « أَحْ» التي تقع في 75 صفحة من القطع المتوسط، صادرة عن الآن ناشرون وموزعون في عمان/ الأردن، 2019.
الحاضر كموعد مع الذاكرة التاريخية:
أول سؤال يخامر أذهاننا: ما الشيء الداعي إلى توظيف الذاكرة التاريخية من قبل الروائي؟ وما علاقتها تجاه الآخر المختلف؟ وهل للذاكرة التاريخية القدرة على استيعاب تجربة الإنسان باعتباره كائنا زمنيا؟ وإذا كان التاريخ عبارة عن حبكة سردية بتعبير الفيلسوف الأمريكي هايدن وايت، وجوهر السرد هو الزمن، فكيف يتسنى للكينونة أن تعيد بناء تجربتها الزمانية؟ من هذا المنطلق، اشتغل الروائي العراقي هيثم بهنام بردى على الذاكرة كعملية استرجاعية يحاكم بها الحاضر، باستعادة اللحظة التاريخية للمكان كنتيجة حتمية، إذ تمثلت في استدعاء التجارب والأحداث والشواهد الحيوية، التي صنعت الفارق والخصوصية والاستثناء عبر التاريخ الضارب بجذوره في القدم؛ بغرض التأثير في الأفعال المستقبلية التي ساهم في إشعال شرارتها الاحتلال الأمريكي للعراق.
وفي هذا الإطار، نشير إلى حديثه عن أعظم الإنجازات الحضارية التي شيدتها بلاد ما بين النهرين أو العراق القديم، وبطبيعة الحال، فإن أبرز سماتها، اكتشاف الكتابة السومرية، فكانت بوابة التطور والتقدم الحضاري، وعرفت في ما بعد بالخط المسماري، وملحمة جلجامش التي تعد خير دليل على تسيد إنسان العراق القديم، وشريعة حمورابي، حيث تشير إلى أول شريعة عرفها التاريخ، وهي وثيقة قانونية بشهادة المختصين، فضلا عن ذلك، أنها تحظى بجلال وشموخ في متحف اللوفر في باريس، وأحيقار الحكيم الأول، وأنخيدوانا الشاعرة الأولى وغيرهم ممن ساهموا في تطور البشرية بنقلها من دوائر الجهل والعماء إلى دوائر المعرفة والعلم، وفي هذا الفضاء كما ذهب أحد النقاد «يقف الجلاد والضحية وجها لوجه، الجلاد متسلّحاً بآلة الموت والدمار، والضحية بتاريخها ووسيلتها للتعبير عن الغضب بالطفولة، ويستعيد الراوي الأزمنة السحيقة للميزوبوتاميا (حضارة وادي الرافدين ).. فالإنسان حينما يتعرّض للخطر يستعيد التاريخ والماضي، من قبيل فهم التاريخ واللحظة كوسيلة للمقاومة».
في إطار ربط جسور التواصل؛ لعبت رمزية الطفولة دورا حاسما في تحليل مجريات الواقع داخل العمل السردي أو النص الإبداعي، حيث اتخذها الروائي كتقنية فنية تعكس الرفض والاحتجاج والغضب، وعدم الرضا عن الواقع المعيش.
وتبعا لذلك، فإن الجمالية السردية الموسعة لرؤية النص؛ تتجلى في رمزية الطفولة كتقنية فنية مندرجة في حقل التجريب المتعلق بطريقة الكتابة والحكي شكلا ومضمونا، انطلاقا من اللحمة التي تجمع بين الذاتية والغيرية، فالأولى منضوية في الراوي والطفل الرضيع والثانية في الجندي الأمريكي، والأمر يتعلق بمشهدية هذا الأخير، عبر وضعية المونولوج المباشر في تقديم الشخصية، وهي تستلم كتاب صموئيل نوح كريمر الموسوم بـ»من ألواح سومر» بحيث تساوت فيه مساحة النص وسرعة الحدث، أي نرصد ذلك في التطابق الحاصل بين زمن القصة وزمن الحكاية، يقول الراوي «سألته بغتة: ما هي سومر؟ زم شفتيه وانطبعت على عينيه أمارات الحيرة، وهمس: لا أعرف. قلت بلهجة آمرة: تصفح الكتاب «لهذا، فالمتن الحكائي أو المادة المسرودة في سياقها العام تنبثق من التفاعل الديناميكي بين عالم النص وعالم القارئ، أي تلك العلاقة الجدلية الحميمية التي تجمع بين الرجل الأمريكي والكتاب، عبر علاقة حوارية خلاقة منتجة على الرغم من بعد المسافة الزمنية. فتصير القراءة كلحظة حاسمة تشكل بؤرتها قدرة السرد في صياغة تجربة القارئ، من خلال تحرره من الأحكام المسبقة أو البديهيات المغلوطة تجاه الآخر؛ حين ينجلي المخفي وتتكشف حجب المستور والمتوارى، وتتلخص المسألة عند الراوي أو الكاتب بهنام بردى في تسامي القيم داخل الذات المتحررة من أصفاد الأنوية الدونية، وعندئذ كما أشار الروائي يمكن أن نغير العالم بفعل الكتابة ونسعى إلى إنشاء اليوتوبيا، من هنا، فإن كل عالم سردي هو عالم الطابع الزمني للتجربة الإنسانية بالمفهوم الريكوري.
والمفارقة الكبيرة، أن الكتاب بما يحويه من مضامين مشرقة، كان لها انعكاس إيجابي على شخصية الجندي الأمريكي، أي في علاقته مع الوجود ليكشف عن مضمرات التاريخ المسكوت عنها، والصفحات البيضاء التي لم يذكرها بنو جلدته التي يقيم فيها الوعي الإنساني الزائف، وفي ضوء ما سبق، نستشف التغيير الهائل الذي اجتاح الرجل الأمريكي الذي كان في ما سبق حاملا لآليات الدمار والخراب والموت للمدن والسهوب والبراري، وبصورة رسمية، أدرك المستنقع الذي يجب أن يخرج منه اليوم، فعلى مستوى الممارسة تراءت له الحقيقة متجلية أمام عينه، يقول السارد «وقف ينظر إليّ بعمق ثم هتف: يجب أن أذهب. لم يصدر مني أي تعليق. شكرا لك يا صديقي.. ثم رمى مكتبتي بنظرة ودّ. وشكرا لهذا القبس الذي أنار طريقي.. واستدار ناظرا لخريطة العراق، وقال: وشكرا للأرض المباركة.. ومن خلف كتفي، ابتسم بوجه الرضيع وهمس: شكرا يا أصدق إنسان».
الطفولة والمضامين الإنسانية:
في إطار ربط جسور التواصل؛ لعبت رمزية الطفولة دورا حاسما في تحليل مجريات الواقع داخل العمل السردي أو النص الإبداعي، حيث اتخذها الروائي كتقنية فنية تعكس الرفض والاحتجاج والغضب، وعدم الرضا عن الواقع المعيش، ويبرز هذا بجلاء، في مفردة «أَحْ» هي لفظة ينطقها ويطلقها الأطفال الرضع في العراق من جراء حالات الغضب، تصاحبها تلويحة الأصابع المقبوضة اللدنة، بهدف الضرب أو الصفع، وفي غالب الأحيان ما تكون دفاعا عن النفس، وفي المعاجم العربية تشير إلى حكاية صوت المتوجع من الغيظ أو الغم أو السَّاعل، نستحضر في هذا الشأن المقطع السردي المدلل على ذلك «وتصادى في فضاء المكتبة صوت. أح.. صافعة، صادمة، زاجرة، ملتاعة، موجعة، ساخطة، محتجة…». فلفظة «أح» ضمن سياق المعمار الروائي؛ ملفوظ لغوي مفجر للآلام والأوجاع والأسقام والفواجع الساكنة في شرايين وأوردة الكينونة، ومن جهة أخرى، إشارة إلى المقاومة والتحدي والإصرار الموجه للوعي، ونلحظ ذلك في إلحاح الراوي على الجندي الأمريكي في تصفح الكتاب، لأن «الهم الأنطولوجي هو التعامل مع الأشياء والحقائق بوصفها مشاريع وإمكانات وليست برامج وخرائط « بتعبير محمد شوقي الزين.
ومفاد الفكرة إبراز المعضلات الشائكة والأوهام الزائفة في صيغه الجنيالوجية، وتتبدى، إذن، في إعادة بناء وتشكيل العالم، من خلال رفع الحجب والكثافة والسواد الذي يخيم على الذات أو الحياة الإنسانية، في ضوء الرؤية والتخليص والتحرير، إذ تعكسها الحقيقة الدالة على الصراعات والحروب، والقصديات المتعالية الطاحنة للقيم الإنسانية في أبهى صورها، بهذا المعنى، تبدت الحقيقة للجندي الأمريكي التي صفدتها الخوذة طيلة السنوات الغابرة، والزمن الذي كان يعيشه بكل تناقضاته، والمكان الذي استوطنه ردحا من الزمن، فكانت الطفولة التي أبت أن تغادره برّانيا وجوانيّا؛ بمثابة الوهج والإشراقة أو الأم الحنونة، حيث عملت على اقتناص اللحظة الهاربة منه، بأن أحيت فيه المشاعر الإنسانية النبيلة، وعلى امتداد صفحات الرواية نقف على هذه الحالة السيكولوجية؛ عندما عاد إلى منضدة الكتابة، وخط بقلمه بعض السطور، مبينا فيها عنوان إقامته ورقم هاتفه، ثم انحنى على الطفل وحمله بين حناياه، تاركا وراءه فسحة الأمل في أن يتجدد به اللقاء مستقبلا، يقول السارد عبر هذا البوح الطافح بالرسائل المعبرة ذات المعاني الجليلة والنفيسة» رفع الطفل المجهول إلى وجهه وطبع على جبينه قبلة حارة، كان الطفل هادئا وعيناه تبحثان بلجاجة عن كنه اللحظة المقبلة، غب هذا الصمت والسكون. مدّ كفه، مددت كفي، تصافحنا بود حقيقي، همس: أطلب منك الصفح.. عن كل الأذى والدمار الذي ألحقناه بكم. شدّ على يديّ بمودة وحرارة، وأعطى وجهه للفجر الوشيك».
ويبدو واضحا، من المقطع السردي، أن الطفولة تقتات على موائد بساتين الحب والسلام والتصالح مع الذات والآخر، ويتمظهر هذا في المكان الذي تجري فيه الوقائع والأحداث والمعاني التي تتحدد من خلالها أبعاد الشخصيات الروائية، وندرك أهمية هذه المعاني السامية؛ انطلاقا من إزالة الرواسب العالقة في اللاوعي أو اللاشعور، وتعبر هذه الممارسة في نبذ القيم المنحطة في تجلياتها البارزة.
كاتب من الجزائر