الرباط ـ «القدس العربي»: حقق مسلسل «الناس لملاح» الذي تقدّمه القناة التلفزيونية الثانية في المغرب، نسبة مشاهدة عالية بلغت عند بث حلقاته الأولى تسعة ملايين مشاهدة. وأثار جدلاً واسعًا داخل الأوساط الثقافية والإعلامية المغربية، بالنظر لأهمية الموضوعات التي يطرحها، إذ يتناول قضايا حساسة مثل التعايش والتسامح بين مختلف مكونات المجتمع المغربي، ويبرز مدينة الصويرة أنموذجًا تاريخيا للتنوع الثقافي والديني الذي يشكل مصدر غنى، ولا يمثل عائقا أمام التواصل والاندماج بين مختلف الفئات السكانية.
المسلسل الذي أبدع قصته وصاغ حواراته الفنان والإعلامي أحمد بوعروة وأخرجته الفنانة جميلة بنعيسى البرجي، يتكون من 15 حلقة، مدة كل واحدة منها 52 دقيقة، ويشهد مشاركة عدد من نجوم التمثيل المغاربة، وتتمحور فكرته الأساسية حول إمكانية التعايش السلمي بين شخصيات ذات خلفيات دينية وثقافية مختلفة، مما يسهم في تعزيز الحوار حول هذه القيم. ويؤكد هذا العمل الفني على ضرورة الفهم المتبادل، إذ يساهم في تعزيز الوعي بالهوية الوطنية، ويمثل جسرًا ثقافيًا يربط بين الأجيال، وينتصر لمبدأ التسامح والاحترام المتبادل في مجتمع يتّسم بالتنوع.
الجدل يحفز على التفكير والتفاعل
الفنان أحمد بوعروة، كاتب سيناريو «الناس لملاح» وصف الجدل الذي أثاره المسلسل بأنه يعكس ظاهرة إيجابية، حيث تعتبر النقاشات المتنوعة مؤشرًا على أهمية الموضوعات التي يتناولها. وقال: «الفن الذي يثير النقاش يُعتبر دائمًا ناجحًا، لأنه يُحفز على التفكير والتفاعل بين الجمهور.»
وأكد بوعروة أن المسلسل يركز على «التعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع المغربي»، مشيرًا إلى أن القصة تعرض تعايش شخصيات من خلفيات دينية وثقافية مختلفة، موضحًا كيف يمكن للمجتمع أن يتغلب على الانقسامات المحتملة. كما أنه ردّ على الانتقادات التي وُجّهت للمسلسل بسبب جرأته بالقول: «الجرأة في الطرح ضرورية للتطرق إلى قضايا حساسة قد يتم تجاهلها. يجب على الفن أن يكون مرآة تعكس التحديات التي يواجهها المجتمع.»
وعبّر عن تفاؤله بشأن مستقبل المسلسل، قائلًا: «بناءً على النجاح الذي حققته الحلقات الأولى، أعتقد أن القصة ستستمر في إثارة النقاش وتعميق فهم المشاهدين لقيم التعايش والتسامح». كما أبرز الرسالة الأساسية التي يسعى المسلسل إلى إيصالها، وهي أن التعايش والتسامح هما أساس أي مجتمع قوي ومتماسك، حيث يُعتبر التنوع مصدر غنى وقوة.
وأشار بوعروة إلى أن العمل يسعى إلى تعليم الشباب المغربي أهمية الاحترام المتبادل، حيث قال: «أود أن يعرف الشباب أن التعايش ليس مجرد مبدأ نظري، بل جزء من تاريخهم وثقافتهم».
ولفت أحمد بوعروة إلى أن «الناس لملاح» ليس مجرد مسلسل اجتماعي، بل هو عمل درامي يعكس عمق العلاقات الإنسانية والمجتمعية. تتجسد في شخصياته جوانب من الإرث الثقافي والديني، مما يضفي على الحكاية بعدًا فلسفيًا وتاريخيًا. من خلال «إبراهيم» وأبنائه، إلى «حبيبة» ورسالتها الاجتماعية، يُعيد المسلسل إحياء «ثيمات» إنسانية شاملة تتجاوز الزمان والمكان، ليقدم رؤية درامية مؤثرة حول قضايا التعايش والإرث والغيرة والتضامن الاجتماعي.
ووُجّهتْ إلى المسلسل انتقادات عبر منصات التواصل الاجتماعي، بسبب مشاركة مواطنة مغربية يهودية اسمها إيفا قادوش. غير أن السيناريست أحمد بوعروة أبدى اعتراضه على هذا الهجوم، مبديا استعداده لاتخاذ إجراءات قانونية ضد أي تحريض أو هجوم على فريق العمل أو شخصياته، وفق ما ذكر في تصريح صحفي؛ معلنا: «أرفض الصهيونية، لكنني مع دعم كل مغربي، سواء كان مسلمًا أو يهوديًا أو مسيحيًا، لأننا جميعًا نعيش تحت مظلة الوطن الواحد.» من جهتها، عبّرت إيفا قادوش عن افتخارها الكبير بهويتها المغربية، مشيرة إلى أنها لن تسمح لأي شخص بالتشكيك في مغربيتها وفي حبها لوطنها.
تفاعلات درامية متعددة الأبعاد
ويقدّم مسلسل «الناس لملاح» تفاعلات درامية غنية ومتعددة الأبعاد بين الشخصيات، حيث تجسد كل شخصية أبعادًا ثقافية واجتماعية تتقاطع مع ثيمات مألوفة في الأدب والتاريخ، مما يضفي على العمل عمقًا كبيرًا. فشخصية «إبراهيم» وعلاقته بأولاده تقاطع مع شخصية «الملك لير». إنه رجل أعمال، يبدو أنه يسعى إلى توزيع إرثه بين أبنائه في حياته، مشيرًا إلى تشابه ملحوظ مع شخصية «الملك لير» في المسرحية الشهيرة لشكسبير. مثل «الملك لير»، يأمل «إبراهيم» في توزيع إرثه كطريقة لضمان مستقبل عائلته، لكنه يواجه معضلات عائلية معقدة، فعوض ضمان وحدة العائلة، يجد نفسه أمام نزاعات وصراعات داخلية.
وعلاقة إبراهيم بأبنائه تتسم بالحب والتردد، حيث يبرز تباين بين الرغبة في حماية العائلة وبين الشعور بالقلق من انقسامها بعد رحيله. مثلما دفع «الملك لير» ثمن ثقته ببناته، يواجه «إبراهيم» احتمالات انهيار عائلته إذا لم يتمكن من فهم دوافع أبنائه الحقيقية. هذه العلاقة تكشف عن قلق «إبراهيم» وتردده بين الرغبة في ضمان وحدة عائلته والتخوف من الانقسامات الكامنة.
أما شخصية «يوسف» الابن الأصغر «لإبراهيم» فتتمتع بصفات تجعله محط حسد من إخوته. في هذا السياق، يتقاطع دوره مع قصة النبي «يوسف» حيث يسعى إخوته إلى الإطاحة به بسبب الغيرة والكيد. هذا التشابه يضفي على شخصية «يوسف» بعدًا رمزيًا، حيث يعكس مساره تجربة مشابهة لتجربة التعامل مع مكائد الإخوة وسعيهم لإقصاء أخيهم.
«يوسف» يمثل البراءة والطموح، ويتطلع إلى إرضاء والده وبناء مستقبله، مما يجعله ضحية سهلة لحسد إخوته وخططهم. هذا الصراع يظهر التوتر العائلي من زاوية معقدة، حيث يتشابك الحب مع الحسد، ويصبح كل فرد من أفراد العائلة محاصرًا بين الواجبات العائلية والرغبات الشخصية.
في حين أن شخصية «حبيبة» أخت «إبراهيم» فتشغل مهمة رئيسة جمعية اجتماعية، وتتشابه مع شخصية «عائشة الشنا» في كونها تدعم الأمهات العازبات، وتعد شخصية محورية تجمع بين البعد العاطفي والاجتماعي. في دورها كرئيسة للجمعية، تجسد شخصية حبيبة تأثير الشخصية الحقيقية «عائشة الشنا» حيث تمثل المرأة التي كرست حياتها للدفاع عن قضايا اجتماعية حساسة وإيجاد حلول للفئات المهمشة.
وبالتالي، فـ»حبيبة» ليست مجرد ناشطة اجتماعية؛ فهي تجسد دور الحاضنة التي تمد يد العون للأشخاص الذين لا يملكون من يدافع عنهم. هذه الصفة تجعلها مصدر احترام وتقدير، لكنها تضعها أيضًا في مواجهة تحديات اجتماعية، إذ تجد نفسها أحيانًا ضحية للانتقادات والتحفظات المجتمعية، تمامًا كما واجهت «عائشة الشنا» في حياتها.
وبخصوص رده على انتقادات رواد مواقع التواصل الاجتماعية بعد الاستعانة بمواطنة مغربية يهودية في مسلسله «الناس لملاح» قال أحمد بوعروة: «المسلسل يجسد قيم التعايش والتسامح التي يتميز بها المجتمع المغربي، ويجمع بين المسلمين واليهود والمسيحيين، الأمازيغ والعرب، في روح من الوحدة والمحبة».
ويرى الإعلامي والسيناريست أحمد بوعروة أنه في عصر تتسارع فيه وتيرة التغيير والتقدم، يفترض أن نكون أكثر وعيا بأهمية التعايش والاحترام المتبادل بين جميع أفراد المجتمع، بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية أو العرقية. ويلاحظ أنه، مع ذلك، ما تزال بعض الأصوات العنصرية تروج لمفاهيم التحريض والكراهية، وتستهدف الفنانين والمثقفين الذين يلتزمون بمبادئ التعايش والوحدة الوطنية.
ويؤكد أن العنصرية ليست مجرد موقف شخصي، بل هي جريمة اجتماعية تسهم في تقويض قيم التسامح والانفتاح، مضيفا أن «الذين يروجون للأفكار العنصرية يحاولون نشر الانقسام والتفرقة في صفوف المجتمع، وهم بذلك يسعون لخلق بيئة غير صحية تؤدي إلى العزلة والتمييز، ويسلبون المجتمعات الغنية بتنوعها الكثير من فرص التقدم والنمو».
ويلفت الانتباه إلى أن المتهجمين على مسلسل «الناس لملاح» يتجاهلون «التاريخ الغني الذي يجمعنا، والذي يظهر أن التعددية الثقافية هي سبب من أسباب قوة المجتمعات» ثم يستدرك بالقول «إن الانغلاق على الذات والترويج للأفكار العنصرية لا يؤذي إلا عندما يستهدف بعض الأشخاص فنانا أو مثقفًا، لأنهم يدعمون قيم التعايش، فإنهم ليسوا فقط يهاجمون هذا الفرد بل هم يهاجمون قيم المجتمع نفسه».
وبحسب تعبير الفنان بوعروة «إن الفنانين والمثقفين هم نوافذ تتواصل من خلالها الأفكار والآراء، ووجودهم هو ضرورة لتعزيز الحوار وإثراء الثقافة. إنهم يسهمون في بناء جسور بين المجتمعات، ويعملون على نشر الوعي وتعزيز الفهم المتبادل. ومن المؤسف أن نرى أن هناك من يعتبر الاختلاف والتعايش عيبا، ويسعى إلى زعزعة الاستقرار الاجتماعي وتدمير النسيج المجتمعي».
ويعتقد السيناريست نفسه أن «التحدي الذي نواجهه اليوم ليس فقط مواجهة العنصرية، بل هو أيضا مواجهة أولئك الذين يروجون لها ويجعلون منها وسيلة لخلق الفتنة. ومن ثم، علينا جميعًا أن نكون متضامنين ضد هذه الممارسات، وأن ندعم الفنانين والمثقفين الذين يساهمون في بناء مجتمع يتسع للجميع بعدالة وتكافؤ».
المغرب غني بتراثه وتنوعه الثقافي
وبعدما شدد على أن «التضامن مع أولئك الذين يتبنون قيم التعايش يجب أن يكون جزءًا من واجبنا جميعا» دعا أحمد بوعرة إلى الوقوف ضد كل أشكال التحريض والكراهية، وفي المقابل العمل على تشجيع الحوار البناء والتفاهم، باعتبار أن التعايش ليس خيارا، بل ضرورة، ومن واجبنا جميعا أن نحميه وندافع عنه. وختم تصريحه بالقول «لنظهر للعالم أن المغرب بتراثه الغني وتنوعه الثقافي، هو نموذج يحتذى به في التعايش والوحدة. ولنقف معا في مواجهة العنصرية، ولنعبر عن دعمنا للمثقفين والفنانين الذين يدافعون عن قيمنا الحقيقية».
والجدير بالذكر أن مسلسل «الناس لملاح» يشهد مشاركة طاقم متنوع من نجوم التمثيل، وهم: ربيع القاطي، هدى صدقى، عبد الحق بلمجاهد، إيفا قادوش، محسن مالزي، سارة فارس، آمال الثمار، المصطفى خليلي، عبد المجيد سعد الله، جميلة مصلوح، مصطفى هنيني، سميرة هشيكة، إدريس رمسيس، نرجس عاميري، الصديق مكوار، عبد الواحد الموادين، زياد إدريسي، أمين بوعروة، حسن هموش، فاطمة الزهراء بنشقرون، خديجة عدلي، الزوبير عميمي، علي أبوعلي، محمد بنان، مصطفى حقيق، فاطمة حركات، سامي سعد الله، نريمان سداد، سارة العدلاني، رضوان الإبراهيمي، علاء الدين الحواص، أيوب لحنيش، نجوى الفيدي، محمد الزيات، سيجان بن شقرون، سهام أزطوطي، فاطمة أكلاز.
أما مدير التصوير فهو إبراهيم أزبار، وأغنية الجنيريك من كلمات احمد بوعروة وألحان رضوان الديري وأداء فاطمة الزهراء العروسي.
ان اختيار عنوان المسلسل ومكان التصوير واسماء ابطاله… كلها عناصر لها دلالتها ومغزاها في الدفاع عن قيم التعايش والتسامح داخل المجتمع المتنوع في اعراقه ولغاته ومعتقداته وميولاته وطموحاته ومستقبله . فللفن رسالة بصرف النظر عن مراميها و عن من وراءها.