في فتحِه المبهر لنوافذ الزمن على بعضها، بعد فتح نافذةِ الحاضر على ماضي أوّلِ ثورة للعبيد يقوم بها السوريون قبل سبارتاكوس، على الرومان في صقلية عام 136 قبل الميلاد، وفتح نافذة ماضي هذه الثورة على حاضر الثورة السورية، في روايته السابقة «ملك اللصوص»؛ ينجح الروائي السوري الفلسطيني تيسير خلف مرةً أخرى في التقاط لحظة تاريخية تمرّ بها الأرض في دورانها حول شمسها ونفسها في ذات الوقت. لا لتُخرج المسيح من فلسطين السورية كي يكون رباً مُخَلِّصاً للبشرية من آثامها وعذاباتها فحسب؛ وإنما من الأندلس، كي يُعيد مثالَ مأساة قهر وإجبار الموريسكيين في إسبانيا على اعتناق ديانة الآخر، بعد سقوط غرناطة، وذبحهم على أيدي محاكم تفتيش القاهر إن لم يرضخوا لهذا، وتهجيرهم هرباً إن اختاروا الحياة وعدم الرضوخ، عن بيوتهم ومرابع طفولتهم إلى المنفى الأشد قسوةً عليهم في ظل تقوقع المنفى على نفسه، وفعله الأمر نفسه على أصحاب الدين المغاير.
ويكونَ كذلك مثال مأساة السوريين الذين تَجبُر الطوائفُ المتطرّفةُ، مسلميهم ومسيحييهم ويزيدييهم على الهجرة تحت حدّ الذبح، في تشابكٍ مخزٍ للمصالح الدنيئة، سواء خضعوا أم لم يخضعوا، في أبشع مآسي التطهير الديني العرقي التي يشهدها الحاضر. ويكونَ إضافةً إلى كل هذا، المثالَ الأنصعَ عن خزي العالم أمام مأساة الفلسطينيين، في غزّة الآن، بمعاناتهم من الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي يجري على أيدي الصهيونية الإسرائيلية المدعومة من صهاينة وفاشيي العالم بكامل أسلحتهم وأموالهم. وفي النهاية ليكونَ الصوفي «القابلَ قلبُه كلَّ صورة» من صور الديانات وخيارات الحب، وفق كونية محيي الدين بن عربي.
ومرةً أخرى، في خضم فنّ الرواية التاريخية التي لا تُعَدّ تاريخية أكثر منها روايةَ حاضرٍ عندما تجول في قلب القارئ، وتصولُ بأحداث حياته، وتتفاعل مع نبض متعته إلى درجة التلاعب بجينات تفكيره ودفعه إلى تغيير مساراته؛ يقود خلف شراعَ التشويق بين أمواج الفلسفات التي يحملها الإنسان عن وجوده وصراعاته مع الآخر، في روايته الجديدة التي وضعها تحت عنوان «المسيح الأندلسي». وأضاف لها مع جريان هذا التشويق عناصر جديدةً إلى أسلوبه في فن الرواية التاريخية الكاشفة، تعمل على إثراء الرواية وتعميق رؤيويتها أكثر، وبالأخص في مداخلاته المتشابكة، وإن تشابهت مع مداخلاته السابقة لعناصر الثقافة بخاصة.
تشابكاتُ التألُّق الروائي:
في إثراء روايته وتعميقها بالمتداخلات التي تشكلها كأصل لها من دون إقحام، يقوم خلف، على سبيل المثال، بصنع التداخل مع رواية دون كيشوت لسيرفانتس وكشف أصولها الأندلسية، وغايات وضع هذه الأصول التي تخدم الرواية من جهة مفهوم الفن الروائي بين التأريخ وتألّق الرواية بالخيال، ومن جهة معانيها في تبيان مصير اللجوء إلى طريق التهجير، ضمن تبادل الثقافات في الرواية، وضمن تشكيل بنية روايته ومنظومة سردها.
وهذا في الكتب الأربعة التي تكسر روتين سرد الراوي عيسى عن نفسه، ويرسلها والد عيسى إلى أبيه الشيخ المكيحل، كجزء من مهمته في توفير معلومات ما يحمي قومه المهدَّدين بالتهجير، حيث يروي الابن «ألونسو دي لونا، أبو عيسى محمّد بن أحمد الحبيس البَيَاسِيّ» أن:
«ميغيل دي ثيربانتس، وهو أديب ذاع صيته في عموم إشبانية بعد أن طبع بالمطبعة الحجرية قصة العبقري الفارس دون كيخوطه دي لا مانشا، نقل حكايته عن أندلسيٍّ أسماه سيّد هاميت بن إنجيلي. وقال إن سيّد هاميت هذا هو نفسه الشيخ أحمد البَيَاسِيّ المعروف عند الإشبان باسم ميغيل دي لونا صاحب قصّة الملك رودريغو./ وشرح لنا دُون رودريغو كيف قلب ثيربانتس اسم أحمد إلى هاميت (…) في تلك الأُمسيّة ضحكنا كثيراً من طرائق قلب الأسماء العربية إلى القَشْتِالِيَّة».
كما يقوم خلف كذلك بالتداخل مع فلسفات «الفرق الناجية» وعنصريّتها، وتعدّدها المثير لشكّ عيسى في مفهوم امتلاك الحقيقة، حيث: «أعادني مخطوط الفَرْق بين الفِرَق، إلى سؤال اليقين من جديد، ما الذي يجعل صاحب النِّحْلَة، أو الفكرة، أو الفلسفة متيقّناً من أنه يمتلك الحقيقة كلّها؟ ودفعني ذلك للبحث عن كُتُب الفلاسفة المسلمين، فعثرتُ على نسخةٍ من مخطوط ابن رشد تهافت التهافت في ردّه على مخطوط الغزالي تهافت الفلاسفة».
مثلما يقوم أيضاً بالتعميق السيكولوجي لعلاقة الابن بأبٍ هاربٍ لا يعرف سبباً لهربه، والمعالجة الفنية العالية للمِثْليّة بروح التسامح والأسى في مأساة حبّ الراهب «لازارو» المثليّ لعيسى من طرف واحدٍ يقوده إلى الانتحار. كذلك إزاحة هذه المثلية في تشابكٍ متماسكٍ مثير للإعجاب بقدر إثارته للتساؤل إن كان حباً أو شعوراً بالذنب، إلى إحياء «أليعازر» من قبل عيسى في داخله، بتقمّص شخصيته، لكشف شخصية من قام بتعذيب أمّه التي تشكل المسيح الأول للرواية، وقتْلِها.
وهذا ضمن عمل خلف على مدّ ثيمة روايته المتمحورة على الأسماء إلى مشابكات أسماء البشر والأماكن وكشف ملابساتها القصدية لتزوير التاريخ من الحكام، أو الطبيعية بحكم الحلول، أو الروائية بحكم التخفِّي لتحقيق الغايات، وتأكيده على ذلك في إبقائها على صيغتها القشتالية، مع وضع قائمة بالأسماء التي «كانت وأصبحت» في نهاية الرواية للتوضيح. ومثلما يفعل أساساً في تعميق علاقة الحبّ الرئيسية التي تشبك الرواية بين عيسى الأندلسي وفيروزة التركية، ومداخلتها بمشاعر غيرته من علاقتها بطالب زواجٍ منها، بغيرة عطيل شكسبير التي أوصلته إلى قتل زوجته ديدمونة، مع كشف أصل الحكاية، حيث:
«حين حدّثني البدر بن الحَكَم عن قصّة الرايس المورسكي ابن عطاء الله الذي قتل زوجته النصرانية ديسدمونا، وضجَّ بها أهل البُنْدُقِيَّة لسنوات طويلة، لم أكن أصدّق أن رجلاً عاقلاً رزيناً يمكن أن يعبث بعقله واشٍ حقودٌ، فيُقدِم على قتل مَنْ يحبّ، إلّا إذا كان أحمقَ بحقّ.. أمّا الآن، فقد بدأتُ أفهم تماماً معنى أن تشبَّ نار الغَيْرة في الصدر، فتصنعَ غِلَالَةً تغطّي العقل، وتحجُب عنه نعمة المنطق».
وذلك مع تداخل علاقة الحبّ هذه بمغامراتٍ وصدفٍ واحتمالاتٍ مفتوحةٍ على مصائرَ تتقرّر وتتجسّدُ عوالمَ لحظةَ اختيار الممتحَن بها، مع إيحائها بقَدَريةٍ لا تخلو من تحدّي الجبرية، ويختم بها خلف الرواية فاتحاً إياها على بدايتها التي أشرَعها بمفاتيح التشويق على لسان بطل وسارد روايته عيسى:
«الآن، وقد عبرتْ بي السنون إلى الكهولة، أقولها وأنا على يقينٍ: لم تكن حياتي الماضية كلّها، إلاَّ سلسلةً متشابكةً من المصادفات، لست متيقناً حتى اللحظة إن كانت مصادفات حمقاء، أم من تدبير عقلٍ حاذق ينظر إليَّ باسماً من خلف سُدُم السموات البعيدة. كان يمكنني أن أعيش حياتي كلها كرجل إشباني كاثوليكي صالحٍ، بلسان قشتالي، يدعى خيسوس غونثالث، لولا بضع كلمات أوصت أمي، وهي تودِّع الحياة، بأن يخبرني خالي بابلو باييخو بها حين يرى أنني بتُّ أهلاً لذلك. تلك الكلمات هي: أنت عربي مسلم، واسمك عيسى بن محمد».
وفي النهاية التي تشكل حلّ الصراع داخل خيسوس/ عيسى، يقوم خلف بمداخلة صراعات الفرق والطوائف بمختلف أشكالها وصراعاتها، ومختلف سياقاتها في مجرى الرواية، وينهيها بصوفية محي الدين بن عربي، التي تمسح عيسى بزيت التسامح في وجوده وسط التراتيل وصور الأيقونات ومواكب الشموع التي تذكره بتاريخ طفولته المسيحي.
وتدفعه للتصالح معه، رغم ما عَرَف من محاكمة أمه وقتلها في قبو تعذيب محاكم التفتيش، حيث: «كيف لمَنْ هو مثلي أن يشعر في تلك اللحظات؛ كان كلّ ما في المكان يُشعرني بالكمال.. لقد غدتْ نفسي هيولى لصور المعتقدات كلّها، كما قال شيخي الأكبر ابن عربي»، وحيث: «بدا لي اليقين نقيضاً لفكرة الطريق القويم، لفكرة الفرقة الناجية، لفكرة أهل الحقّ وأهل الباطل، لفكرة أهل الجنّة وأهل النار. اليقين سرٌّ تُدركه القلوب لا العقول.. اليقين هو أن يصبح قلبكَ قابلاً كلّ صورة كما يقول شيخي الأكبر».
تشابكات التهجير المتبادَل:
وفي هذه النهاية التي توحي بسريان الأسرار في جسد كائنات الكون، وتعيد إلى ذهنه شغل خلف على الواقعية السحرية في مشهد خطف مفتاح البرج من قبل الجرذ، وصراع عيسى معه على المفتاح؛ يمكن للقارئ هجس قصدية تشكيل خلف لبنية روايته بثلاثةٍ وثلاثين فصلاً، إذ يشكِّل الرقم 33 العمر المرجَّح للمسيح، كما يُنظر إلى أنه في علم الأعداد غالباً رقم صوفيٌّ له تأثيرات روحية عميقة، بدلالات دينية للملاك رقم 33، وتعبيرات عن المسؤولية والحكمة والقوة.
في التشويق الذي يستخدم فيه التقصي البوليسي، يعمّق خلف الصراعات ناقلاً إياها برشاقة من طابع فردي يتمثل في بحث بطل الرواية عيسى عن قاتل أمّه دُون خيرونيمو راميريز للانتقام منه، إلى مأساة شعبٍ تم وضعه أمام خيارات مستحيلةٍ لا يَعرِف حلوها من مرِّها، في المرحلة التاريخية الملتقطة. وعبر هذا التعميق يمرّرُ خلف النزاع بين الأندلسيين من خلال حيرة بطل الرواية وسط الجهتين، إما في وجوب البقاء نتيجة مراسيم طاغية مدريد فيليب بن كارلوس المورِّطة لهم في حرب معه لاستئصالهم من الأندلس كما رأى الشيخ الأكيحل، أو في وجوب الهجرة إلى بلاد المسلمين بغض النظر عن تنكيلها أيضاً بهم، وقيامها بذات فعل تهجير الآخر المغاير بدينه لها، كما رأى الشيخ الأشقر من أن الغاية من المراسيم الاعتداء على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم.
وفي هذا التمرير يداخل خلف الماضي بالحاضر داخل القارئ، من خلال صهر وتلاقح الأحداث والمفاهيم والاكتشافات، بما يتخطى مفهوم الإسقاط التاريخي والالتزام الذين جرى علكهما في أعمال الستينات والسبعينات من القرن الماضي، فاتحاً آفاق الرواية التاريخية بمفاهيم ما بعد الحداثة، على التشابك الصاهر المولّد لشرارات الإحساس العميق بالمآسي، وعلى الأمل في ما تمنحنا إياه الحياة ويستحق أن يُعاش.
تيسير خلف: «المسيح الأندلسي»
منشورات المتوسط، ميلانو
360 صفحة.