القاهرة ـ «القدس العربي»: لكلٍ طقوسه، سواء في حالات الوحدة أو الصخب، ولا تختلف حالة عُرس بشخوصها وجوّها الاحتفالي عن موكب جنائزي لرفيق أو عزيز، هذه المظاهر الممتدة من إرث الحضارة المصرية القديمة وحتى الآن، هو ما يتماس مع المقدس الذي تحوّل إلى فعل من أفعال الحياة، فلا يُفرّق المصري بين الحياة والموت، فالرحلة واحدة وإن تباين الطقس، مجسداً مرحلة من مراحل الحياة.
عن هذه الرحلة وتفاصيلها يأتي المعرض الاستعادي للفنان محمد عبد المنعم، والمقام مؤخراً في غاليري (ضي) في القاهرة. يُذكر أن الفنان من مواليد عام 1965، وتخرج في كلية الفنون الجميلة قسم التصوير، جامعة المنيا 1988.
المرأة
تمثل المرأة محور لوحات محمد عبد المنعم، مروراً بتحولاته وخبراته التقنية، سواء امرأة تقف في النافذة، دون التورط في شكل وتكوين كلاسيكي معهود، فهو يمتلك رؤية وتفاصيل مغايرة، حتى إن كانت اللوحة مُستمدة من شكل أو تكوين كلاسيكي، ولكنه قادر على تحويل ذلك إلى تكوين خاص به ـ عين الفنان ـ لتتحول بعد ذلك هذه المرأة الساكنة، والمصباح الذي يتدلى من السقف وكأنه مشنقة، إلى كائن خرافي أو أسطوري، وكأنها انتوت من خلال نظرتها إلى المُتلقي إلى حالة من الفعل الدائم والسيطرة المطلقة، وهو ما يبدو في جميع اللوحات، حتى إن كانت وحيدة في شارع مظلم، أو مُستلقية، تاركة خلفها بنايات قرية يبدو من خلالها تراث وقيم تحاول تحديه والانفلات منه في الوقت نفسه. وفي مقارنة ما بين (نوت) إلهة السماء عند المصري القديم، والمرأة اليوم، التي تبدو زاحفة على الأرض تتجلى مفارقة اللحظة الحاضرة. جسد المرأة يتخذ تكوينات غرائبية، ليبدو الرجل وكأنه ظل لها، أو خارج من هذا الجسد، فحالة الخصوبة الدائمة ودلالتها هي أساس هذا الكون، ولا يمتلك الجميع ـ جميع المخلوقات، بل والجمادات ـ سوى الدوران في فلكه.
ما فوق الوقائعي
يجنح عبد المنعم في لوحاته إلى تبني عوالم فوق وقائعية، وقد يبدو من بعيد تأثره بالفنان حامد ندا (1924 ـ 1990) أحد رواد السريالية المصرية، ورغم أن الفنان نفسه ينفي ذلك في أحد حواراته السابقة (مجلة «روزاليوسف» 14/11/2008 ) معللاً ذلك بأنه لم يلتق بالفنان حامد ندا، إلا أن رسالته للماجستير ـ حصل عليها عام 1995 ــ والمعنونة بـ»القيم الإبداعية في التصوير عند حامد ندا» تنفي ما نفاه عبد المنعم. وبغض النظر عن مقابلة الفنان أو إعداد رسالة أكاديمية عنه، فاللوحات وحدها هي الفيصل، وهي في الأغلب تحمل تأثيراً ولو غير مباشر، ولكنه موجود.
التكوين
من خلال أسلوب الفنان ورؤيته التي يستشعر بها العالم وينقله إلى اللوحة، نجد سمات متميزة ومختلفة عن مجرد تمثيل الوقائعي إلى ما فوقه، فهو على سبيل المثال لا يلتزم بتكوين الجسد الإنساني، فالنِسَب مبالغ فيها ـ عن قصد بالطبع ـ كذلك بعض الكائنات الأخرى كالحصان والسمكة، إلا أن ذلك لا ينفي الالتزام التام بنِسَب بعض الخلفيات في اللوحة، أو بعض العناصر المعروفة تماماً لعين المتلقي.. كمدخل منزل، أو باب بيت وشبابيكه، وكذا مآذن الجوامع ـ في القرى خاصة ـ إضافة لأعمدة الإنارة في الشوارع المتربة، أو مقارنة لئيمة بين دلتا نهر النيل في خلفية اللوحة، مرسوم فوق جدار أو باب أحد البيوت، و(دلتا فينوس) ـ حسب تعبير أناييس نن ـ الواضح تماماً للمرأة التي تحتل مقدمة اللوحة.
ومن هنا تأتي المفارقة بين حالة الشخصيات وأماكنها، فالأمر أشبه بعلاقات هذه الشخصيات وتصرفاتها، وفق حالتها النفسية، أو ما تتصوره عن نفسها وعن الآخرين، وهو ما يفسح المجال تماماً لكل ما هو فوق وقائعي في سلاسة وعقلانية محسوبة، دون التورط في اختلاق حالة هشة من الإدهاش اللحظي، كما في العديد من الأعمال التي تتوسل بالسريالية كأسلوب أجوف، دون روح أو وعي.
الحركة واللون
رغم التسطيح المقصود في اللوحات، إلا أن هناك حالة من الحركة الدائمة، بداية من عناصر اللوحة وتوزيعها، أو تكوين الأجساد والأشكال التي تخاصم الخطوط الحادة، فالخطوط منحنية ومتداخلة، ما يوحي بالحركة، حتى لو كانت في حالة سكون، وهي حالات قليلة تختبر عين المتلقي.
أما معظم ألوان اللوحات فتنتمي إلى الألوان الترابية، وهي الأكثر شبهاً بألوان المعابد الفرعونية ورسومات جدارياتها، إضافة إلى تسطيح الأشكال فوق سطح اللوحة، حتى مع تعدد مستوياتها، من حيث العلاقة بين مقدمتها وخلفيتها، إلا أن الشكل في النهاية ينتمي إلى الرسوم الجدارية، الذي يمكن أن تراه الآن ـ بدرجة أو بأخرى ــ فوق جدران المنازل في الريف والقرى، سواء في شمال مصر أو جنوبها ـ الجنوب بالأخص، فالفنان من مواليد محافظة سوهاج جنوب مصر ـ ويبدو ذلك كطقس احتفالي، مثل الاحتفاء بعودة حُجاج بيت الله الحرام، وتسجيل لقطات من الرحلة فوق جدران بيت مَن اختاره الله لهذه الزيارة، وهو ما يوضح إلى أي مدى استطاع المصري تطويع كل ظاهرة دينية ـ مهما كانت حداثتها ـ إلى طقس وفق حضارته التي ربما نسيها، إلا أن لاوعيه لم يزل يحتفظ بها دون أن يشعر.