المعالجة السينمائية في فيلم «انفصال» للإيراني أصغر فرهادي

يعد المخرج أصغر فرهادي من أهم المخرجين في السينما الإيرانية التي تمكنت من تحقيق حضور واضح، لاسيما في المهرجانات الدولية. ولعل هذا جاء نتيجة الرؤية الإخراجية التي اتسمت بالتنوع والعمق، كما يمكن القول إن حضور المخرج الراحل عباس كياروستامي كان من أهم عوامل انتشار هذه السينما، أو توجيه الأنظار إليها، وتحديداً بعد فيلمه الأشهر «طعم الكرز» 1997 الذي تمكن من خلاله من اجتراح بصمة إخراجية جعلته في مصاف المخرجين العالميين، علاوة على تمكين فعل التلقي العالمي لهذه السينما، التي عبرت عن ثقافة بلد لطالما اتسم في المتخيل الثقافي للآخر بالانغلاق والمحافظة، وهذا – ربما – ما جعل هذه البناءات السينمائية مصدر ترحيب، لقدرتها على إماطة اللثام عن حساسية هذا المجتمع، كما تمكين بعض مقولاته الثقافية، إذ ربما يعد هذا النهج أحد أهم مصادر الاهتمام الغربي الذي دائما ما يرحب بالنتاجات الفنية أو الثقافية للمجتمعات التي تنطوي على شيء من الانغلاق، كما الذاكرة التاريخية القائمة على نوع من الصدام والمواجهة مع الغرب، ومن هنا يمكن تفهم قيمة الخطاب السينمائي، وأثره الثقافي.

الفلسفة الإخراجية

بالعودة إلى المخرج أصغر فرهادي، نشير إلى أنه ينحو في أفلامه نحو تكوين خطاب سينمائي يُعنى بالنظم الثقافية، التي غالباً ما تنطوي عليها أغلب المجتمعات، غير أن قدرة هذا المخرج تتأتى من قدرته على تفعيل قيم التلقي على مستوى الولوج إلى الحساسية الثقافية، التي تنتج عن منظومة مشهدية تعتمد شيئاً من التوازن بين الحوار، والحدث الحكائي، غير أن الأهم تحقيق أثر على المتلقي تبعاً لحساسية الإنسان، وخصوصيته الثقافية في سياق مجتمعي متوتر، وحساس، ومحاصر كما في فيلمه بعنوان «انفصال» A separation إنتاج 2011. فثمة في الفيلم قدرات تجمع بين الكتابة والإخراج، في فيلم يُعنى ظاهريا بقضية انفصال بين زوجين، وأثر ذلك على ابنتهما المراهقة.
يُقرأ الفيلم عبر توجهه إلى تداعيات هذا الفعل، ولكنه حقيقة يتقصد سياقات قيم ثقافية محددة، فقيمة هذا الفيلم التاريخية تكمن في تميزه، بل يمكن أن نعده نقطة تحول في مسيرة هذا المخرج، بداعي الاستحسان الذي ناله الفيلم من النقاد، كما حصوله على عدد من الجوائز العالمية، وبناء عليه يمكن أن نعده فيلماً مركزياً في تاريخ السينما الإيرانية. يمكن النظر إلى الشخصيات التي تبدو أقرب إلى تكوينها الواقعي، أو جديرة بتصوير النزعة الواقعية، غير أنها نزعة لا تكتسب قيمتها من قيم التطابق الصلد مع الواقع فحسب، إنما أيضاً من القدرة على استثمار النظم الحكائية في الفيلم، ومن ثم تحميلها شيئا من الجدل عبر تأكيد رخاوة الشخصيات على المستوى الشعوري، وتقلقلها، فيلجأ المخرج إلى التركيز على ما يكمن فيها من صراع، ولا سيما على مستوى الداخل العميق للذات التي ربما لا تُعرف حقيقتها، أو أنها تلجأ إلى تحييد بعض قيمها. فالفيلم ينطوي على مستويين: الأول نموذج ظاهر يمتص وعي المشاهد ضمن مشهدية مباشرة قد تكون مألوفة ومكرورة، ونعني حالة الانفصال، ولكن إذا أمعنا النظر فسنجد أن خلف هذه النسقية نظاما أو نسقا آخر يحتاج إلى اكتناه معمق، ما يشكل النموذج الثاني المضمر الذي غالباً ما يمكث في الهامش، ويتعلق بقيمة الاختبار القيمي، والتنازع المجتمعي.

تداعيات الانفصال

ضمن عائلة تتكون من زوج وزوجه وابنتهما المراهقة، بالإضافة إلى والد الزوج الذي يعاني من مرض الزهايمر يطرأ قرار الزوجة بالرغبة في الهجرة، غير أن زوجها يقاوم هذا، فتضطر الزوجة إلى ترك المنزل، وتطالب بالانفصال، فيبقى الرجل مع ابنته ووالده المصاب بالزهايمر، ما يتطلب وجود مساعدة كي يتمكن الزوج من العناية بوالده، فترشح له زوجته «سيمين» امرأة اسمها «راضية» عن طريق معارفها. تتعرض الخادمة التي تحضر إلى منزل نادر – مع ابنتها الصغيرة – لعدة مواقف، حيث تضطر لأن تنظف الرجل العجوز بعد أن يبلل نفسه، وفي يوم يخرج العجوز من المنزل فتضطر إلى اللحاق به، وإعادته للبيت، وفي يوم تبرز معضلة أو حدث يقود إلى توتر الأحداث، حيث يعود الأب «نادر» الذي يؤدي دوره الممثل «بيمان المعادي» وابنته «تيرمة» فيجد والده مربوطاً في السرير الذي سقط عنه، وتعرض إلى بعض الأذى.. يشتد غضب «نادر» على الخادمة بالتوازي مع فقدان بعض المال، فيطلب منها الخروج بعد أن يتهمها بالتقصير والسرقة، ولكن «راضية» ترفض الاتهام، ولاسيما سرقة المال الذي استخدمته الزوجة «سيمين» دون أن تخبر زوجها من أجل الفيزا والهجرة.
تطالب الخادمة «راضية» بأجرها، كما ترفض الخروج من المنزل، مع تأكيد أنها ليست سارقة، فيقوم «نادر» بدفعها خارج الباب، ومن ثم تتأزم الأحداث في ما بعد، ولاسيما حين نعلم بأنها أسقطت الطفل الذي كانت حاملاً به لتتحول القضية إلى المحكمة.

هكذا تمتزج قيم متعددة في الصيغة السردية المشهدية التي تقود المشاهد إلى خطاب ما يبدو جلياً حول قيمة الانفصال، وتداعياته، وأثره، ولكنها من جهة أخرى تريد أن تختبر قضايا أخرى تتعلق بمضمر لا يقتصر على الذاتي، إنما يطال البعد الجمعي ضمن هندسة بناء متعدد للفضاء البصري الدلالي القائم على موقع الكاميرا، التي تؤطر الحكاية بما في ذلك مجمل الشخصيات، ومن ذلك شخصية القاضي، وغيره.

وهناك نرى توجه الفعل المشهدي للإخراج حين تعبرنا مشهديات تلك المحاكم، وهذا الصراع بين عائلتين: الأولى تنتمي للطبقة البورجوازية أو المتوسطة، والعائلة الأخرى تنتمي للطبقة الفقيرة، وبين ثنايا هذا الصراع نرى كيف أن ثمة إفادات تتخذ فلا نعلم أيا من الطرفين قد يكون صادقاً، خاصة حول سبب إجهاض الطفل، فهل كان «نادر» يعلم بهذا الحمل؟ وهل المرأة الخادمة متيقنة من أن سبب الإجهاض يعود إلى عملية الدفع؟ ولاسيما أنها تخاف من زوجها العصبي الذي يعاني من ضائقة مالية، مع وجود الكثير من الدائنين يطالبونه، فتظهر هذه المشكلة كي يستغلها زوج الخادمة من أجل الحصول على التعويض أو (الدية) التي تعد حلا لمشاكله المادية، ولكن زوج الخادمة يعتمد خطاباً متصلاً بالعدالة، واتهام الجميع بمحاولة الالتفاف على عدالة قضيته لكونه رجلاً بسيطاً، بيد أن المتهم «نادر» يرفض دفع الدية كونه – من وجهة نظره- غير مذنب، وبأنه يتعرض للاستغلال، ومع ذلك، تسعى زوجته – التي تقف مع زوجها على الرغم من قرار الانفصال- إلى الدفع نحو التراضي أو الصلح عبر دفع الدية للتخلص من تهديدات زوج المرأة الخادمة، الذي يقوم بتصرفات متهورة كملاحقة الابنة للمدرسة، وتهديد بعض الشهود، بل إنه يتهم الشهود بالنفاق، بالإضافة إلى القاضي، بوصفهم ينتمون إلى طبقة أو فئة بعينها، وهكذا ينتهي الموقف عبر موافقة ،«الزوج نادر» على دفع الدية، لكن الخادمة في آخر لحظة تعترف بأنها قد صُدمت من قبل سيارة حين اضطرت للخروج للبحث عن الرجل العجوز (والد نادر). على الرغم من مألوفية المستوى الحكائي، غير أن ثمة قيماً ينبغي التنبه إليها في ثنايا هذا الخطاب، وتحدد بثلاثة مستويات: الأول يتعلق باختيار المشاهد في فضاءات مدينة طهران: المحكمة، والمنزل، والشوارع، وفيها نلمح شيئاً من بيان قيم الإرهاق في النفوس والوجوه، فالمحاكم مكتظة كالعادة، غير أن التقييم الأخلاقي للذات يشكل محوراً من محاور الفيلم الذي ينتمي إلى مستويين قيمي ذاتي، والآخر اجتماعي يتبنى نموذج الصراع الطبقي المجتمعي، وبهذا تكتمل المستويات الثلاثة.

القرارات والاختيار

يضطر «نادر» المتهم بقتل الجنين إلى أن يكذب حول مدى معرفته بحمل المرأة، إذ تشكل هذه الثيمة معضلة قيمية، خاصة حين تواجهه ابنته بضرورة أن يقول دائماً الحقيقة، ما يعني حساسية المبدأ الأخلاقي، وتراجع قيم المثالية، فالأب يضطر للكذب لأنه لا يريد أن يترك والده وابنته في حال دخل السجن، وفي مواجهة هذا الصراع ثمة صراع آخر مواز يمور داخل المرأة (الخادمة)، فهي ترفض الدية، وتعاني من صراع داخلي خوفا من الخطيئة أو الحصول على مال حرام يستجلب العقاب في الدنيا والآخرة، فتضطر أن تعترف ـ أخيراً- بأنها تعرضت لصدمة سيارة قبل يوم من طردها من المنزل، وبعد ذلك توقف إحساسها بحركة الطفل، ولهذا ذهبت إلى الطبيب، وتحديداً حين تركت والد نادر العجوز وحيداً. أضف إلى ما سبق خوفها من غضب زوجها العصبي الذي لا يعلم بأنها كانت تعمل لدى هذه العائلة في ظل غياب زوجة الرجل. يمكن تعليل سخط زوج الخادمة على الجميع من منطلق اجتماعي طبقي، فالعدالة ـ من وجهة نظره – غير موجودة تبعاً لوجود هذه التقييم، فثمة تحيز مجتمعي طبقي، فمضمون الفيلم يبقى قائماً على متابعة الصراع الخارجي بين العائلتين ضمن حساسية الطبقة، كما صيغ موقع المرأة وعلاقتها مع الرجل، حيث تبدو في وضع ضبابي، إذ يمكن المقارنة بين تمثيلن للمرأة: زوجة نادر المتعلمة والمستقلة، التي ترغب بتغيير واقعها والهجرة، مع قدرتها على البحث عن حلول، مقابل الخادمة الضعيفة والمستسلمة لزوجها، وهذا يأتي بالتوازي مع اكتناه قيم التدين، كما العادات والتقاليد، ومدى ما يكمن من تفاصيل صغيرة تحكم حضورها على مستوى الثقافة، وبذلك فإننا مهمومون بمدى تحقق السؤال الأخلاقي الذي يسكن الشخصيات التي تظهر مأزومة نتيجة شيء لا يصرح به في الفيلم، ولكننا يمكن أن نستشعره حيث يتحدد بسياقات ثقافية، فالصراع في كل ذات يبدو أكبر مما يحتمل، وكل نموذج يكمن في عدد من الشخصيات: نادر وصراعه للاعتراف بالحقيقة، علاوة على الخادمة واعترافها بأنها تعرضت لصدمة سيارة، ومن ثم رغبة زوجة نادر «سيمين» بالهجرة في مواجهة البقاء مع عائلتها، وأخيراً زوج الخادمة، ومحاولة استغلال الموقف على حساب الموقف القيمي.
هكذا تمتزج قيم متعددة في الصيغة السردية المشهدية التي تقود المشاهد إلى خطاب ما يبدو جلياً حول قيمة الانفصال، وتداعياته، وأثره، ولكنها من جهة أخرى تريد أن تختبر قضايا أخرى تتعلق بمضمر لا يقتصر على الذاتي، إنما يطال البعد الجمعي ضمن هندسة بناء متعدد للفضاء البصري الدلالي القائم على موقع الكاميرا، التي تؤطر الحكاية بما في ذلك مجمل الشخصيات، ومن ذلك شخصية القاضي، وغيره.
هكذا نرى شيئاً من الكآبة الرمادية ضمن المستوى الهامشي لوقائع الفيلم الذي يتمكن من خلق نموذج شعوري للمشاهد الذي يعيد تركيب كل شيء، فيشعر بمدى هشاشة ما تنطوي عليه حياتنا، ومن ذلك أننا معرضون دائما لاختبارات غير متوقعة، ومن ذلك القيمة لمعنى البقاء أو الخروج من البلد، أو قيم الاختيار بين الأب أو الأم، الذي يُحال إلى الطفلة التي يمكن أن تحتمل دلالة رمزية بما تعنيه من مستقبل يبدو غامضاً؛ فيؤطر هذا التكوين في المشهد الأخير من الفيلم في المحكمة، حين يسأل القاضي الطفلة: ماذا قررت؟ بمعنى أن تبقى مع والدها أو أمها؟ فتجيب الطفلة بأنها قررت لكنها.. لا تجيب.. فيكرر القاضي غير مرة.. ولكنها لا تجيب… لينتهي الفيلم بمشهد الوالدين يجلسان في الممر يفصل بينهما باب، وحاجز زجاجي..

كاتب أردني فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول وجدان الغريبي:

    شاهدت الفيلم ووجدته عاديا تماما ويتحدث عن مشكلة عائلية مستعصية على الحل

اشترك في قائمتنا البريدية