ليس خافياً ما تقدمه دار المرايا للثقافة والفنون في مصر من إصدارات جادة، إذ استطاعت هذه الدار، في الأعوام القليلة الأخيرة، تعريف القارئ بأسماء محلية جديدة وغنية في عالم الكتابة حول مصر بالذات. ولعل ما ميّز نصوص هؤلاء الكتّاب أنها جاءت بمقاربات ومعالجات جديدة على مستوى التاريخ الثقافي والاجتماعي في هذا البلد. وأذكر هنا كمثال، مجموعة من الكتب التي تناولت تاريخ الأقباط في القاهرة والصعيد في القرون الثلاثة الماضية. وهذا ما وفّر لنا فرصة مهمة للاطلاع على تاريخ آخر خارج الحساسيات الطائفية، أو مواقف المظلومية أو الأكثرية التي تردّدها أحيانا السرديات الصلبة. والمهم في هذه المقاربات، أنها انطلقت من التاريخ الشخصي أو المايكرو (التركيز على شخص معين) كما فعل مجدي جرجس في كتابه المهم «المعلم إبراهيم الجوهري.. سيرة مصرية من القرن الثامن عشر» الذي أعاد من خلاله تقميش سيرة أحد أعيان الأقباط (الجوهري/ 1735-1795) ودوره في مؤسسات القاهرة الإدارية، وكيف ساهم هذا الدور لاحقا في تحول بطل سيرته إلى أحد قديسي الأقباط في القرون اللاحقة.
وفي السياق ذاته المهتم بهذا التاريخ، نعثر على تاريخ شخصية قبطية أخرى قريبة من زمن المعلم إبراهيم، وهي شخصية منقريوس بن إبراهيم وزير أمير الصعيد همام بن يوسف زعيم قبيلة هوارة. وهي القبيلة التي مدّت نفوذها على صعيد مصر في القرن الثامن عشر، وأصبح لها نفوذ يوازي نفوذ المماليك في القاهرة.
سيعاد اكتشاف هذه الشخصية من خلال الباحث والمؤرخ في تاريخ صعيد مصر أمير الصراف، في كتابه الصادر عن المرايا بعنوان «منقريوس بن إبراهيم.. وزير ومباشر الشيخ همام الهواري أمير الصعيد». وفي هذا الكتاب، نرى الصراف يتقاطع مع جهود مجدي جرجس السابقة على صعيد قراءة تاريخ الأقباط في القرن الثامن عشر، من خلال سير شخصيات معينة، مع ذلك بدت مهمة الصراف صعبة في بعض المحطات. فالمعلم إبراهيم الجوهري لم يُنس، بل سنعثر على وجود له في تاريخ الجبرتي، وأيضا في السير الشفوية والقصص المتداولة عنه إلى يومنا هذا. في حين سيلاحظ الصراف أنّ شخصية منقريوس لم تحظ بأي ذكر مفصل، أو مقتضب في المراجع الرئيسية التي تؤرخ لهذه الحقبة كالجبرتي، أو حتى المراجع المتصلة بتاريخ المسيحيين الأقباط. ولعل هذا الغياب، شكّل محفزا للبحث وراء المرويات الشفوية التي ما تزال تحتفظ ببعض القصص، ومن خلالها سيلتقط خيط سيرة كتبها أحد المؤرخين الأقباط في بدايات القرن العشرين، بطلب من أحد أحفاد منقريوس (تكلا سيداروس) ما فتح أمامه الباب للملمة صورة الجد الأكبر من ناحية، وأيضا تتبع آثار أولاده وأحفاده، وكيفية تأقلمهم مع التطورات السياسية التي حدثت لاحقا في مصر. يشكّل الاطلاع على وثائق الحفيد فرصة لقراءة علاقة عائلة قبطية بالتحولات الاجتماعية والحداثة التي أخذ يعيشها الصعيد، وبالأخص بعد القرن التاسع عشر، وكيف كانت هذه العائلة تعيد ترتيب أوراقها وموقعها لتتلاءم مع الظروف الجديدة.
امبراطورية همام الهواري
في سياق قراءتها لتاريخ الصعيد في مصر، لاحظت المؤرخة زينب أبو المجد في كتابها «امبراطوريات متخيلة» أنّ الإشكالية التي بقي يعاني منها معظم من كتب حول مصر تتمثل في التركيز على القاهرة وأهلها، في حين شكلت صورة نمطية عن الآخر (الصعيدي) بوصفه أقرب إلى المتمرد (قطاع الطريق) وفق ما يظهر أحيانا في المسلسلات والأفلام السينمائية، ولذلك حاولت أبو المجد بدلا عن ذلك الاستعانة بتصورات بعض المؤرخين الأوروبيين الإيجابية حول عصابات قطاع الطرق، على اعتبار أنّ أفعالهم كانت من قبيل الحركات الاجتماعية ذات الطابع التقدمي، وأول هذه الأحداث تتمثّل في تمكن شيخ قبيلة الهوارة من تشكيل ما تدعوه بـ»جمهورية همام» التي غدا في ظلها نفوذ العثمانيين وحراس قلعة القاهرة أن يكون معدوما. وقد ظهر الهوارة في البداية (القرن الثامن عشر) بوصفهم تجارا وحائزين للأراضي الزراعية، ثم أصبحوا القبيلة الأقوى والأغنى في الصعيد، ما مكنهم من التحول من نخبة اقتصادية إلى نخبة سياسية حاكمة. وفي ظل هذا التوسّع في الدور والنفوذ، سيظهر الوزير منقريوس إبراهيم القبطي، إذ يرى المؤلف الصراف، أنّ ولادة جمهورية همام كانت تتطلب تأسيس جهاز بيروقراطي يشرف على إدارة الأمور المالية واليومية، وتاريخيا كان الأقباط في القاهرة قد لعبوا دورا منذ الفتح الإسلامي على صعيد الإشراف على الأمور الإدارية والمالية. وهو دور يبدو أنه استمر في فترة العثمانيين، ولن يخرج الأمير همام عن هذه القاعدة، فقد استعان كذلك بخبرات قبطية في هذا المجال، ما ساهم في بروز دور منقريوس، الذي أخذ ينوب عن الأمير في التفاوض مع القاهرة.
هذه المعرفة بأمور الإدارة والحسابات والتأريخ اليومي للتفاصيل، ستجعل من منقريوس أحد المقربين من الأمير. ومن القراءات الطريفة هنا، ما يقدمه المؤلف الصراف في سياق تفسيره لنجاح الأقباط في علم الحسابات، الذي مكّنهم من لعب أدوار في الأجهزة البيروقراطية العثمانية والهمامية، إذ يرى أنّ نظام التعليم داخل الكنائس في القرى التي يوجد فيها أقباط، كان يولي لدروس الحساب تركيزا كبيرا، ويبدو أنّ هذا التركيز جرى من خلال محاولة الأقباط الحفاظ على استمرار دورهم في الأجهزة الإدارية، دون التدخل في السياسة (حتى نهاية القرن التاسع عشر) أو بمعنى آخر، كان الأقباط يرون في علم الحسابات مدخلا للرقي الاجتماعي.
الملاحظ أيضا في هذا السياق أنّ انشغال الأقباط بالحسابات وتسجيل اليوميات، سيدفع بعضهم إلى تدوين معلومات حول بعض الوفيات والمواليد. وهذا ما عثر عليه المؤلف في مدونات لأسر قبطية، دونت مواليدها ووفياتها، وبعض الحوادث المهمة في نهاية الكتاب المقدس (الإنجيل). ولعل أسلوب الكتابة وتدوين بعض التفاصيل شبيه بما دونه التاجر الحلبي الكاثوليكي نعوم بخاش (القرن التاسع عشر) الذي ترك لنا أربعة دفاتر دوّن فيها تفاصيل عن مدفوعات طلاب المدرسة التي أسّسها، وفي أسفل الصفحة دوّن معلومات غير مرتبة عن طلابه وأحداث من زواج وخطبة ووفيات.
سلالة منقريوس والحداثة
بقي منقريوس يخدم الأمير همام الهواري حتى وفاته، ومع انهيار دولة الهواريين لاحقا، سيحاول أفراد العائلة التأقلم مع الظروف الجديدة (عودة المماليك، قدوم الفرنسيين، دولة محمد علي). ومن خلال الاعتماد على وثائق عائلة تكلا سيداروس (أحفاد منقريوس) سيتمكن المؤلف من تتبع مسار عائلة على مدى قرنين تقريبا. في هذه السيرة سنتمكن من التعرف على واقع الأقباط مع التحولات السياسية والاجتماعية التي أخذت تعيشها مصر. فمع نهاية الهواريين، استقر جرجس منقريوس في حارة السقايين في مصر المحروسة، والتحق بديوان فك الزمام (المسح العقاري وتقدير الضرائب) في مصر. ولما ظهر الألفي بك الشهير باسم الألفي الكبير (أمير مملوكي) اختار أن يكون كاتبا له وسافر معه إلى الصعيد. وعندما دخل الفرنسيون مصر، اتّخذ قرارا بعدم التعاون معهم للحفاظ على عائلته، وأيضا لأنّ مصالحه ظلت مرتبطة بالمماليك. وهنا نرى استمرار الابن في لعب دور الأب مع الأمير همام، وبعد وفاته استمر ابنه ميخائيل أيضا في إدارة مصلحة المساحة التي توارثتها العائلة. وبعدها أسند الديوان لابنه سيداروس، لكن واقع الأقباط في هذه الفترة لم يكن على يرام مع الخديوي إسماعيل، ولذلك سنراه وكيلا للحكومة الألمانية في الأقصر. ويبدو أنّ هذا التحول (وكلاء قنصليات) قد لجأ إليه أثرياء الأقباط والمسلمين لحماية أموالهم. لكن الخديوي سيطلب منه ترك هذا المكان ليشغل وظيفة ناظر قلم الدعوى في مديرية قنا (الصعيد) حتى وفاته. بعده سيأتي ابنه تكلا مراقبا لجمع الضرائب في قنا، لكن العائلة ستتجه في القرن التاسع عشر إلى أداء أدوار أخرى خارج أطر الأجهزة الإدارية، ويعود ذلك لأسباب عدة منها ظهور كوادر من الموظفين الأكفاء في ظل التحديث، حلّوا محل المسيحيين الأقباط، وأيضا لإدراك أفراد العائلة التحولات الاقتصادية في عصرهم، فنجدهم يستقيلون من وظائفهم الحكومية ويقبلون على التجارة والزراعة، ما ساهم في نمو ما ورثوه عن أجدادهم.
ويُلاحظ أيضا في القرن التاسع عشر، غياب عبارة (المعلم) التي كانت تسبق أعيان الأقباط العاملين في الإدارة، وحلول لقب (أفندي). كما نرى أنّ أحد أحفاد العائلة في بدايات القرن العشرين، يسي أندراوس، عاد ليعمل وكيلا لقنصليات أجنبية في الأقصر، ما يعني أنّ الأجيال المتأخرة من العائلة أخذت تتبع سياسة جديدة مغايرة لسياسة الأجداد على صعيد المشاركة في الحياة العامة. وهذا ما سنراه مع كامل بك تكلا الذي تنازل عن توكيل قنصلية إيطاليا في عام 1923، ورشّح نفسه لعضوية أول مجلس نيابي لمصر عن دائرة نجع سنة 1924، وفاز بكرسي النيابة بالتزكية العامة. وهكذا نرى كيف أنّ القرن التاسع عشر كان يفتح الباب أمام عائلة قبطية لتلعب دورا أوسع في الحياة العامة وتاريخ البلاد حتى الخمسينيات من القرن العشرين.
كاتب سوري
الاستاذ الرببعو .. في علمي أنك تسكن تركيا ..
.
الحمد لله .. انت بخير إذا ..