للمعنى مَسكَنان: 1ـ فهناك المعنى القابع في الأفق، وهو بمثابة قيمة يجب أن تبقى في الأفق وإلا لا تعود قيمة، لا جمالية ولا أخلاقية ولا كل ما شابه من رِفْعةٍ وسمو. المعنى القابع في الأفق قد يكون عالم الـ»ما ينبغي أن يكون».. عالم المنارة الذي يُذَكِّر دوماً بضرورة عدم الرضوخ للأمر الواقع وسطوته؛ لصالحِ عالمٍ أفضل وأكثر عدلاً وجمالاً وخيراً، لا ينفكُّ يُولَد من جديد كلما جرى القبض عليه أو أُدْرِك… هو الحُلم الذي إذا ما نَفَدَ؛ ينتهي الإنسان كإنسان، ليبقى فقط الجزء الحيواني البيولوجيّ منه. وهو السؤال الفلسفي الكبير القلِق اللاهث دوماً، الذي لا يركن.. لا يهدأ.. لا يطمئن.. لا يتيقَّن.. لا يسلّم.. وإذا ما فعل؛ يموت، وبموت السؤال يموت الإنسان ويموت المعنى/معناه.
2ـ وهناك المعنى الساكن على الأرض، في الواقع الحي الملموس، في زمان ومكان محددَيْن.. في النبض.. في اللحم والدم والحياة اليومية، هو التجلّي لما يفكّر فيه الإنسان. وهو كذلك كل ما ينبع منه فكر الإنسان وتصوراته ومفاهيمه. هو ـ إذن ـ المنبع والمصب دفعة واحدة. فالرياضيات المجرّدة (مثلاً) أصلها ملموس متعيِّن..أصلها أشياء في الحياة المَعيشة، فُكِّرَ فيها بالعقل، وصُيِّرت وجُرِّدَت، ثم عادت إلى عالمها الملموس في أشكال مختلفة: أدوات ووسائط، بنايات وعمارات، آلات، وسائل نقل، وسائل اتصال، فالتقنية هي «شيء» رحل إلى عالم التجريد العقلي الرياضي، وهي كذلك «رياضيات» تشيَّأت.
إن الأفكار التي ليس لها مسكن، هي تلك التي تظل تحوم وتحوم في فضاءات العدم حتى تموت، فهي لا يمكنها أن تتحقق في الواقع، إما لأنها مقموعة بفعل استبداد ما (مثلاً)، أو لأنها مجرد تصورات ميتافيزيقية ليس لها «معنى» من شأنه أن يسكن في عالم الفيزيقا، أو غير ذلك مما يمنع التعيُّن.
في ضوء «المعنى ومَسكنيْه» الذي حاولنا آنفاً تعريفه، بشكل أو بآخر، من وجهة نظرنا، ربما يمكننا تعريف المتحف في كونه ذلك المعنى: 1ـ «الذي كان»، ثم 2 ـ «الذي صار» فأما «الذي كان»، فهو أصل المتحف وبنيته الحيوية، أي الحركة أو الحياة أو التاريخ أو المرحلة أو الحقبة أو العصر، الذي طالما مورِسَ ـ خارجه ـ في معنى ما، في زمان ما وفي مكان ما.. في نبض ما، قبل أن يجري توقيف هذه الحركة وتثبيتها وتكثيفها، وتجميد الحياة التي طالما «كانت» وتحنيطها، لـ»تصيرَ» زمناً متوقفاً معروضاً في واجهاتٍ ورفوف وخزائن ومخطوطات ووثائق. هكذا، ليس للمتحف ـ وفق ما هو عليه الآن، ووفق ما يتجلّى لزائريه ـ معنى حيّاً، بل معنى «كان حيّاً»، قبل أن «يصير» محض زمن متوقف، محنَّط، مُنتهٍ، ومختَصَرٍ ربما في لحظة/ات، أو في أشياء محددة قد تختزل حقبة.. عصراً.. ثقافة.. تاريخاً.. أثَراً.. روحَ عصر.. نفسَ شخصية ماضية وروحها الفردية.. طريقة تفكير منصرمة.. إيماءات وعقائد وأساطير فُسِّر بها المحيط.
أما معنى المتحف «الذي صار»، فهو «المنبثق» من ذاك «الذي كان» نبضاً خارجه، وقد صار له الآن معنى آخر، مختلف عن معناه الحي الذي طالما كان عائشاً خارجه.
في المعنى الأصلي، يكون المتحف بلا فاعلية. أما «الآن» «تصير» للمتحف فاعلية، من حيث هو يخلق معناه الخاص، فيعيد الحياة إلى الذي طالما كان ومات. إنه معنى تأملّي تفكّريّ يعيد قراءة المعنى «الذي كان» بالنسبة إلى زائر المتحف، بالنسبة إلى باحث فيه، إلى عالِم، إلى أديب، إلى فنَّان، بالإضافة إلى تلك المتعة الهائلة التي قد يحققها للزائر عموماً.
إن المتحف الذي طالما كان حيادياً سلبياً غير فاعل ومجرد «عارض» لأثَرِ لحظةٍ ميتةٍ، قد صار فاعلاً إيجابياً محرِّضاً حاثّاً دافعاً وموَّلِّداً من جديد لحياة منبعثة من موت لطالما اعتُبِر موتاً مطلقاً لا حياة من بعده.
واستطراداً في معنى المتحف الذي «يصير»؛ أودّ ـ ههنا ـ تناول معنى متحف «ثقافات العالم» في وسط مدينة كولونيا أو كولن غرب ألمانيا، بوصفه نموذجاً. فعلى جري شغفي في زيارة المتاحف؛ زرتُ، قبل أيام، للمرة الثانية المتحف المذكور، لكن في هذه المرة، رحتُ «ألاحظ» ردود أفعال الزائرين الآخرين: تقاسيم وجوههم أمام معروضات المتحف.. أحاديثهم المتبادلة حول ما يرَونَه.. اندهاشاتهم عند رؤية المدهش، فضول الأطفال في أسئلتهم المطروحة على مرافقيهم من الكبار، تأملاتهم المطوَّلة أمام طقس جنائزيّ ما.. أو وجه أسطوري ما.. أو لوحة ما.. أو قطعة ما من الحُلى أو الثياب.. أو منحوتة ما.
يمكن اعتبار المتحف المذكور جامعاً للمعنى الإنساني، موحِّداً إياه، ومُكرِّساً ثقافة السلام والمحبة والتسامح والاحترام لثقافات الشعوب كافة، مُذكِّراً بأن جوهر الإنسانية واحد، رغم اختلاف الثقافات، لاعباً دورا مهماً في التقارب والتقريب. وقد كان تعريف القائمين عليه، لكل قسم من أقسامه، تعريفاً غاية في الرقي يحتفي بالديمقراطية القائمة أساساً على التنوع. ويمكن القول إنه متحف يواجه العنصرية والعالم الاستعماري بعقل وبحسٍّ نقديَّيْن، وبأخلاق إنسانية رفيعة. يبهرك المتحف منذ الوهلة الأولى، فأنت لا تنفك تلتقي ثقافة تلو الأخرى منذ لحظة دخولك، حيث يطالعك في الردهة بيت مدهش جمالياً وفنياً، جرى نقله من جزيرة سولاوسي في إندونيسيا! إن هذا المعنى «الذي صار» للمتحف، يمنح للأشياء القديمة معنى جديداً مختلفاً، بحيث يقف الزائر أمام «رهبتها» وعلى وجهه ربما نوع من الخشوع والجلال، وقد تعتوره رغبة الهروب من الواقع، لعيش النبض الماضي وتحسُّسه، خاصة مع وجود تلك الموسيقى التي من شأنها أن تلعب دوراً قوياً في تعزيز ذلك الجلال. في المتحف، وقد «صار» له معنى آخر، غير ذاك «الأصلي»؛ يصير ما كان مملاً ربما، مرهقاً، متعباً بالنسبة إلى أولئك الذين طالما عايشوه في حقبة ما، كالعادات اليومية في الطعام والشراب؛ تصير له قيمة كبرى، بالنسبة إلى أولئك الزائرين الآنيين الذين يصبحون قادرين على تفهُّم ما قد كان من الصعب جداً تفهمه في وقت النبض المنصرم. وحتى ما قد لا يؤمن به هذا الزائر أو ذاك من عقائد أو تفسيرات وما شابه، ربما تصير مقبولة لديه بوصفه زائراً يخرج ـ على الأقل في لحظات الزيارة ـ من مركزية الذات والتمحور حولها؛ ليتفكَّرَ في إجابات الآخرين الخاصة حول الكون.. العالم.. الحياة.. وكل شيء.
كاتبة سورية
مقال رائع ياسيدة عُلا…مدخله حصيف وختامه تطبيق لذلك المدخل والتعريف.نعم وضوح المدخل وربطه بالمختتم أساس نجاح المقال للكاتب المحترف.شكرًا أخت علا على جهدك الثقافيّ الجميل واللطيف.