المغربي بوشتى الحياني: رحلة اللون والشكل بحثا عن المعنى

وأنا أتقاسم مع الفنان المغربي بوشتى الحياني، غبطة احتفائه بُمضِيِّ خمسين سنة على انطلاقة تجربته التشكيلية، كان من الطبيعي أن تستوقفني بعض تفاصيل هذا المسار المثقل بالهبات، كي أتساءل في حدود الممكن، عن عمق تلك العلاقة الآسِرة التي تصل الفنان عادة بألوانه، وعلى امتداد هذا العمر الطويل، حيث يبدو منغمرا تماما في معايشة أشياء العالم، وهي تحظى بتلويناتها بإيعاز من تلك الكيمياء الغامضة، التي تعكف الطبيعة المغناج على إعدادها في أروقتها اللامتناهية، ومختبراتها المنفتحة على كل محتمل من محتملات اللون، حاضرا كان أو غائبا.
تساؤل، لن يتردد مطلقا في الإيقاع بنا بين مضايق متاهة، يتعذر على التأويل المتسرع الاهتداء إلى عتبات مداخلها أو مخارجها. إنها حياة انصهار روح الفنان في بوتقة اللون، كي يكون دليله إلى الشكل، بوصفه سكنا يغريه بالإقامة فيه، وبوصفه ملاذا تحتمي بدفئه أرواح المعنى. وهو اختيار وجودي، انقادت له ذات الفنان تلقائيا منذ طفولة الرؤية، بحكم طبيعته الجينية المنذورة لمحاورة المرئيات المزهوة بفتنة تجلياتها. اختيار مسكون برعشة، كشفه العاشق عن المسالك والدروب المفضية إلى ما أمكن من حقائقها الجاهزة والمؤجلة في آن. ذلك أن الاستجابة إلى نداء اللون، هي في حد ذاتها استجابة استثنائية لنداء بحث من طينة أخرى، وبصِيَغ مغايرة لسيمياء ذلك المتواري خلف دوامات المرئي، الخبير بتشْظِية وزوبعة الأجسام والأشكال، كي تظل متَكَتِّمة ولو إلى حين، على حقائق وجودها. وإذا كان عنف اليومي يعصف بضوء الرؤية البسيطة والمشتركة، ويصيبها في نهاية المطاف بعمى اللون، فإن الفنان المجبول على القبض على الخيط الفاصل بين العناصر، يمتلك ما يكفي من القدرة على ردع عنف هذا العمى، كي يظل متحكما في مجال الرؤية، التي هي بامتياز مجال احتفاء الألوان بحضورها، أو بالأحرى، مجال إعلان العناصر عن هوياتها، بما هي لون مُهَوْدَجٌ بدلالته التي يستمد منها العنصر/الشيء، قابليته المادية والرمزية على الحضور، سواء أمام لغة العين أو لغة الكلام.


فمن هذا المنطلق تحديدا، يمكن الحديث بالنسبة للفنان بوشتى الحياني عن تجربة وجودية، هي بالقوة وبالفعل، تجربة البحث عن معنى ممكن، ومؤهل لتبرير المعيش والمتخيل، عبر قناة اللون. أي ذلك المعنى الحاضر في المادة، قدر حضوره هناك، محتجبا خلف ما تبثه المادة ذاتها من خُلَّبِ البريق. وهو الحيز الذي تتراجع فيه لغة الكلام، مفسحة المجال لِلُغة اللون المُعْتد بأشكاله وأبعاده. ذلك أن الأمر يتعلق دائما بتوظيف منطق آخر، لاجتراح دلالة الوجود، علما بأن اللون هنا في تجربة الفنان بوشتى الحياني، يغادر مؤقتا أشكاله المألوفة، بحثا عن أشكال مغايرة، يتوسل بها فرصةَ قول فضَّةِ ما لم تقله بعد فضةُ الحجر أو ماؤُه، وفرصة َ قولِ صفرةِ ما لم تقله صفرةُ التِّبْر أو ترابه.
غير أن أهم ما تتميز به هذه التجربة، ورغم امتدادها الطويل والفاعل في الزمن، هو تشبُّعها بحالة متطرفة من القلق الناتجة عن فقدان ما يكفي من اليقين، الذي يمكن أن يسعفها في تبَنِّي شكل ثابت ومحدد من أشكال اللون. وذلك هو السر في تعدد القطائع التي تطبع مسارات الفنان، حيث تكاد كل مرحلة تستقل بخصوصيتها عن سالفتها، كي نجد أنفسنا أمام بدايات متجددة، هي بدايات اللايقين بامتياز.
بدايات بحث آخر عن أسئلة أخرى، قد تقود اليد إلى اكتشاف المزيد من لغات الكون. من إيقاعاته، ومن حركيته التي لا يقر لتيهها قرار. أيضا، التأمل الممكن في هذه المسارات، يكشف عن حضور هاجس ذلك الخيط الذي يصل حقيقة الكائن بحقائق الوجود. إنه الخيط المعرفي المتسائل على طريقته، عن طبيعة الدلالات المتخفية في تضاعيف الأشكال والألوان. علما بأن الخوض في إشكاليات «المعرفيِّ» المتعلق بالمجال التشكيلي، يختلف عنه في المجالات المحايثة ذات الصلة بالخطاب الفكري والجمالي، بالنظر للتباين الجذري القائم بينهما. ذلك أن الصيغة التي يدلي بها منطوق لغة الكلام، منفصلة تماما عن الصيغة التي يدلي بها صمت اللون والشكل، رغم ما يُوَحِّد بينهما من تفاعل مشترك في فضاءات المعيش. أيضا، ثمة مسافة شاسعة تفصل بين القوانين الناظمة لبنية المنطوق اللغوي، وتلك الناظمة للغة اللون والشكل. فإذا كان مرد اشتغال الأولى، يعود إلى سلطة الأعراف التعبيرية، بما تقتضيه من ضبط صارم، ومعقلن للبنيات المعجمية والتركيبة، والأسلوبية، فإن اشتغال اللغة التشكيلية، يستند أساسا إلى سلطة الممارسة الفردية المتحررة من رقابة العرف والمعيار. وهو ما يلقي ظلاله على ظاهرة التباين المطلق، الملاحظ لدى التجارب التشكيلية، حيث تجنح كل تجربة إلى الاشتغال بطريقتها الخاصة على الطبقات اللونية، وكذلك على هندسة الأشكال، بحثا عن الصيغة الملائمة لبث رسالتها الفكرية والجمالية. الشيء الذي يؤدي إلى تعقيد آلية استنباط مكونات خطابها الجمالي، خاصة في بعده المعرفي، كما هو الشأن بالنسبة للفنان بوشتى الحياني.
وتأكيدنا على البعد المعرفي، نابع من اقتناعنا الراسخ بحق الفنان التشكيلي في بث رسائل فكرية ومعرفية، عبر ما تبدعه ذائقته الفنية من أشكال. بمعنى أن الفنان هو أولا وقبل كل شيء، ذاتٌ تفكر، انطلاقا من خصوصيته التعبيرية، التي تجد في الأشكال والألوان أداتها الفعلية، والملائمة لممارسة فعل التفكير. ما يدعونا للقول، بأن العمل الفني يستمد أهميته أساسا من تلك الخلفية الفكرية، الكامنة في ما يبدو من حيث الظاهر محض أشكال و تلوينات. والملاحظ في تجربة الفنان بوشتى الحياني، هيمنة السؤال المعرفي على مكونات اللوحة. وبالتالي، فإن أعماله لا تبدو معْنِيّةً كثيرا بإمتاع العين ومؤانستها من منطلق الإبهار الجمالي، المتماهي مع ميولات الذوق العام، بقدر ما هي معنية بتوريط المهتم في فك شيفرة الرسالة المضمرة طيَّ الألوان والأشكال. ومن المؤكد أن هاجس فك شيفرة الرسالة، ناتج عن غموض اللوحة، وعن التباس الترميزات المشعة منها. والملاحظ أن المهتم بعمق هذه التجربة، سيكون مطالبا بمقاربة الظاهرة، من خلال تقَصِّيه لما تحفل به من ترميزات جمالية، مع التأكيد على أن الأمر هنا لا يتعلق بتكريس مقولة المضمون، التي تحتل مركز الصدارة في المقاربات التقليدية، بقدر ما يتعلق بمتعة مواكبة الفنان في رحلة بحثه الرمزي عن هوية الكائن. من ذلك مثلا، هذا الجسد العاري من كل تلْبِيسٍ دلالي مسبق، والماثل أمامك غالبا في وضعية جانبية، توحي بحرصه على تلافيه لفضول نظراتك المثبتة عليه.
الجسد العاري حتى من عريه، والذي يبدو هو أيضا متسائلا عن دلالة وجوده داخل اللوحة وخارجها. الجسد الذي يخلخل وجومنا بما تزَوٌبَع حوله من أوْرِدة إلكترونية، حادة ومتوترة، تصل جوهر كيانه بجوهر الأجرام الخفية ربما. ثم الكائن ذاته، وقد غادر بِنْيته الجسدية تماما، كي يأخذ شكل دوائر مستغرقة في حواراتها الضاجة مع مثلثات، هي أيضا متسائلة عن دلالات هندستها. وبَعْضُ ذلك أو كلُّه، يحدث داخل تقْتِيرٍ لوني، بالكاد يتنفس صُفْرة الطين. أي تلك الصفرة الي تذكرنا بأول التكوين، وبنهاياته أحيانا، حيث ما من بقعة تسمح للكرنفال باستعراض شهب ألوانه وأضوائه. وخارج هذا وذاك، يستمر الفنان بوشتى الحياني، مستغرقا في مسيرة بحثه عن معناه، داخل دائرة الشكل، وخارجها أيضا.
*شاعر و كاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية