المغرب والجزائر وسلاح التاريخ الاستعماري

حجم الخط
51

في إطار الصراع بين الدول، عادة ما يقوم البعض منها باستعمال الرواية التاريخية، أي قراءة وتأويل أحداث معينة للتهجم على الآخر والتبخيس منه، خاصة في الدول التي تصنف ضمن العالم الثالث بسبب وجود صراعات مصدرها غالبا مسألة الحدود. وهي بهذا، تسقط في خدمة وترديد الرواية الاستعمارية وتكون الدولة الكولونيالية هي الرابح في آخر المطاف. وهذا ما يحدث بشكل لافت مؤخرا بين المغرب والجزائر، وتستفيد منه سياسيا وثقافيا القوى الاستعمارية خاصة إسبانيا وفرنسا.

المنطق التاريخي والوطني لا يتطلب فقط التخلي عن استعمال الرواية التاريخية الكولونيالية كسلاح ضد بعضنا بعضا، بل التخلص منها أكاديميا والتعامل معها بانتقائية

ويتابع الرأي العام المغربي والجزائري ومعه العربي والدولي، الأزمة القائمة بين الرباط والجزائر العاصمة، حيث لا تتردد أطراف إعلامية وسياسية في التكهن بوقوع حرب بين البلدين، وصدرت مقالات وتحقيقات في هذا الشأن، ونذكر كتاب «السيناريوهات السوداء للجيش الفرنسي» من تأليف الباحثة الفرنسية ألكسندرا سافيانا، الصادر خلال مايو/أيار الماضي، وتتحدث فيه عن التحديات التي ستواجه فرنسا مستقبلا ومنها، اندلاع حرب بين المغرب والجزائر صيف 2025، وتؤكد حصولها على المعطيات والتحاليل من مصادر فرنسية رسمية.
والواقع أن الأزمة قائمة وشائكة للغاية، غير أن تطورها إلى حرب مفتوحة مستبعد، لاسيما وأن الهدف الرئيسي من خوض الحرب غير واضح بشكل جلي، بمعنى لماذا سيتحاربان؟ وتناولنا في هذا الركن في أكثر من مناسبة الأسباب التي تجعل الحرب مستبعدة جدا، بما في ذلك ملف دعم الجزائر للبوليساريو ضد المغرب عسكريا، لأن ملفا لم يتسبب في الحرب طيلة خمسة عقود بين البلدين لماذا سيتسبب فيها الآن. وفي أسوأ الأحوال، وإن وقعت الحرب لن تتعدى تبادلا محدودا للنار، على غرار ما يجري بين الهند وباكستان بين الحين والآخر. لكن هذا لم يمنع وقوع حرب إعلامية بين البلدين منذ أكثر من سنوات، يتم فيها توظيف السياسة والتاريخ للهجوم والهجوم المضاد. والمفارقة الخطيرة أن كل صوت عاقل من الجهتين يدعو للحوار يصنف من هذا الطرف أو ذاك بالعدو، أو الطابور الخامس. تستمع للجزائري، فيقدم لائحة من المطالب العدائية ضد المغرب، وتستمع للمغربي فيقدم لائحة مماثلة ومشابهة. نعم، توجد حرب أزمة شائكة بين البلدين، وتتميز بأزمة ثقة عميقة بدأت تجعل من المغربي العدو الرئيسي في المخيال الجزائري، وتجعل من الجزائري العدو الرئيسي في المخيال المغربي، وهذا سيحمل انعكاسات خطيرة على مستقبل ونوعية العلاقات بين الشعبين وإن تصالح النظامان. والمثير أنه بعد حرب الرمال بين البلدين سنة 1963 انتشرت دعوات التصالح والحوار، بينما الآن لا توجد حرب عسكرية، لكن الحملات الإعلامية بلغت مستوى مقلقا. ومن الأخطاء التي تسود بشكل لافت في هذه الحرب الإعلامية، يردد الجزائريون رواية تدعي ظهور المغرب الحالي بعد استقلاله سنة 1956، وأنه قبل هذا التاريخ لم يكن سوى كيانات أو إمارات متناحرة. ويبقى الغرض من هذه الرواية هو تبرير دعم جبهة البوليساريو في نزاع الصحراء، ثم التوجس من طرح المغرب مستقبلا ما يسمى الصحراء الشرقية. وهذه الرواية تجعلهم يرتكبون أخطاء غير مفهومة مثل، الاصطفاف مع إسبانيا ضد المغرب سنة 2002 في أزمة جزيرة ثورة، تحت ذريعة لا للمس بين الحدود التي خلفها الاستعمار، بينما هذه الجزيرة ما زالت تحت الاستعمار. وبدورهم، يروج المغاربة رواية مفادها أن الجزائر كيان جديد لا تاريخ له، بل هو صنيعة الاستعمار الفرنسي بعدما كان ملحقا بالإمبراطورية العثمانية. نعم، تنهل كل دولة عبر مثقفيها وإعلامييها وسياسييها من هذه الروايات التاريخية، التي لا تمت للتأريخ الحقيقي بأي علاقة، بقدر ما أنها روايات ذات أهداف سياسية محضة تقف وراءها القوى الاستعمارية السابقة وأساسا إسبانيا في حالة المغرب، وفرنسا في حالة الجزائر، ويتبناها البلدان المغاربيان من دون حكمة ومن دون وعي. والتساؤل: لماذا تعتبر الروايتان من صنيعة الاستعمار وترميان إلى أهداف خفية؟ في حالة المغرب، تعتبر رواية ظهور المغرب ككيان بعد حصوله على الاستقلال سنة 1956 من إنتاج الفكر الاستعماري الإسباني، إذ ما زالت إسبانيا تستعمر سبتة ومليلية وعدد من الجزر في المتوسط، وعندما يروج التاريخ الرسمي الإسباني لنشأة المغرب بعد 1956، فهو يبرر ملكية إسبانيا لهذه الأراضي التي ما زالت تحت الاستعمار لمواجهة أي مطالب مغربية مستقبلا لاستعادة السيادة عليها. وعادة ما يكون جواب الإسباني عندما يطرح المغرب استعادة السيادة على المدينتين المحتلتين «سبتة ومليلية جزء من إسبانيا قبل ظهور المغرب». وكانت إسبانيا تروج للخطاب نفسه عند طرح ملف الصحراء. في حالة الجزائر، أنتج التاريخ الفرنسي الرسمي الرواية المشار إليها، لكي يبرر في المرحلة الأولى تصنيفه للجزائر كإقليم فرنسي ما وراء البحار والحق بالاحتفاظ بها، وبعد استقلال هذا البلد المغاربي تستمر هذه الرواية لتجنب المحاسبة التاريخية للجرائم التي ارتكبتها فرنسا في حق الشعب الجزائري، وهي جرائم امتدت إلى باقي الشعوب مثل، المغرب والسنغال وساحل العاج ضمن أخرى.
المتعارف عليه في الجامعة المغربية والجزائرية هو سعي بعض المؤرخين من البلدين لبناء رواية تاريخية لا تتأثر كثيرا بالتاريخ الفرنسي والإسباني، رغم قلة المراجع والمصادر التاريخية العربية والأمازيغية بحكم أن الفرنسيين والإسبان اهتموا بتأريخ أحداث شمال إفريقيا منذ قرون عديدة، سواء في الحقبة الرومانية أو بعد النهضة الأوروبية، ولا يمكن كتابة تاريخ شمال افريقيا، من دون الاعتماد على مراجع ومصادر الدول الأوروبية. وتوجد تجارب محمودة في هذا الشأن رغم محدوديتها، لأن الكتابة التاريخية في العالم العربي لا ترقى بعد لتجارب آسيوية وفي أمريكا اللاتينية، خاصة التي تعيد كتابة تاريخ المنطقة بعيدا عن التأريخ الغربي وعن الرقابة الحكومية، لأن رؤية الآخر للتاريخ تختلف عن رؤية صاحب الأرض، في قراءة تأويل الأحداث التاريخية. ويكفي أن التاريخ الفرنسي في غالبيته يعتبر أن استعمار فرنسا لمناطق في افريقيا وآسيا جاء بهدف نشر الحضارة الغربية، ويكفي أن فرنسا ادعت أنها وريثة روما لتحديث شمال افريقيا، ووصل الأمر بالرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي إلى محاولة استصدار قرار من البرلمان يعتبر التشكيك في هذه الرواية الرسمية جريمة أكاديمية. وأمام فشل فرض هذه الرواية، يعمل مؤرخون فرنسيون يؤمنون بتفوق الحضارة الغربية، على ترويج روايات تاريخية تصب في تبرير جرائم فرنسا والغرب بشكل عام، وتجد هذه الروايات صدى سياسيا وثقافيا لها في أوساط افريقية ومغاربية تشكل بالنسبة لها الذخيرة لخوض حرب في ما بينها، مثل حالة المغرب والجزائر في الوقت الراهن.
إن المنطق التاريخي والوطني لا يتطلب فقط التخلي عن استعمال الرواية التاريخية الكولونيالية كسلاح ضد بعضنا بعضا، بل التخلص منها أكاديميا والتعامل معها بانتقائية، أي قبول المعطيات الموضوعية رغم قساوة جزء منها ورفض التأويلات المغرضة، من أجل بناء رواية تاريخية وطنية ومحلية لا تخدم الشوفينية الوطنية، بل تخدم الوطن وتخدم الحوار مع الآخر بكل شجاعة بما في ذلك معالجة القضايا الشائكة مثل إشكالية التاريخ المشترك وما يرتبط به.
كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول غزاوي:

    …/…تتمة 1/1
    مجرد تساؤل.
    من يدفع للحرب بين البلدين !!!؟؟؟
    الكاتب أصاب عندما استبعد الحرب بين البلدي استنادا لسياسة ضبط النفس للنظامين، لكنها تجاهل أنه لو يُراد لها أن تكون لخدمة أجندة خارجية ما، فستكون، كما كانت الحرب بين العراق وإيران.
    في مقال نشرته “القدس العربي” يوم:21/03/2024، تحت عنوان:” ليس دفاعًا عن خديجة بن قنة ولكن! ماذا عن صرخة «أبو زيد» للمغاربة والجزائريين؟”، جاء فيه على لسان المفكر المغربي أبو زيد الإدريسي، أحد حكماء الأمّة ما نصه:
    “يُراد إشعال حرب خرقاء حمقاء بين المغرب والجزائر… وراءها إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا” انتهى الاقتباس
    المغرب حليف مخلص لثلاثتهم، ويعتمد عليهم في اقتصاده وأمنه، ولو يرون أن مصلحتهم تقتضي الحرب بين البلدين فمن السهل أن يُغِرروا بالمغرب أو يدفعونه دفعا لعمل افتزازي يكسر ضبط النفس للجزائر.
    والمقال استشهد بـ “اقتناع” البلدين بروايتي فرنسا واسبانيا لإشعال حرب إعلامية بينهما.
    أتمنى ختاما من الساسة في البلدين لبناء واقع يحترم الشرعية والقانون الدوليين.

1 2 3 4

اشترك في قائمتنا البريدية