لندن ـ «القدس العربي»: خلال أشهر طويلة من المفاوضات غير المباشرة والمتقطّعة، لم يدّخر رئيس الوزراء الإسرائيلي وسيلة لإفشال جولات المفاوضات بشأن هدنة أو «وقف إطلاق نار» في غزة.
وخلال كل ذلك الوقت، وعلى الرغم من جهود الوسيطين القطري والمصري من أجل وقف فوري للحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل على غزة، مضى الجانب الأمريكي بعيدا في إعطاء مزيد من الفرص لرئيس حكومة أقصى اليمين الإسرائيلية، وزاد هذا مع اقتراب استحقاق الانتخابات الأمريكية، الحدث المؤسس للمرحلة الجديدة التي ستحدّد وجهات ومواقف مختلف الأطراف في الصراع الدامي في فلسطين، و«الجبهات المساندة».
وكانت آخر الفرص القابلة للتمديد قد منحت السفاح الموصوم نتنياهو مزيدا من الوقت لإنجاز مهمته التي وضعها نصب عينيه: الإجهاز على قطاع غزة بالقتل والتدمير والتهجير وتقنين المساعدات والتجويع البطيء، وتقطيع الأوصال وإبقاء مليوني فلسطيني في وضع تهجير مستدام وتحت النّار.
وحصل ذلك بوقاحة منقطعة النظير في الأمم المتحدة التي دعا مندوب إسرائيل الدائم فيها إلى إغلاق مقرها في نيويورك ومحوه عن وجه الأرض.
الانقلاب على العرض الأصلي
وآخر الانقلابات الأمريكية هو على كل ما عرضته في 2 تموز/ يوليو، وعلى عرض رئيسها جو بايدن – وهو أساس الاتفاق – في 31 ايار/مايو، وعلى نداءات الوسطاء والدول الداعمة في بيانات رئاسية، وبطبيعة الحال على قرار مجلس الأمن رقم 2735 في 11 حزيران/يونيو، الذي دعمته واشنطن، وتنقلب عليه اليوم مع نتنياهو.
وإذا كان هذا هو موقف حركة «حماس» الحرفي اليوم، فإن كل الوقائع ومحدثات الأمور تقول إن حقيقة «حماس» هذه هي حقيقة ما يحصل، بمعزل عن حسابات الحركة الإقليمية، وبمعزل عن صدمة اغتيال الشهيد اسماعيل هنية.
فقد أبدت الحركة مرونة كاملة حملت الطرف الأمريكي على الاعتراف بذلك أو التلميح به في مناسبات نادرة، من دون أن تتخلى عن لازمتها عند كل عرض: «الكرة في ملعب حماس».
وتحميل حركة «حماس» وزر استمرار الحرب على الشعب الفلسطيني، تدحضه كل مجريات التفاوض السابق والحالي، بعلم وقناعة كبيرة لدى معظم ذوي المحتجزين المدنيين والعسكريين لدى «حماس» وبتصريح واضح من المعارضة (اليمينية) في إسرائيل، وبتصريحات الوسطاء ولا سيما بعد اغتيال هنية، وقبله، وبحقيقة أكثر وضوحا عبّر عنها مندوب فلسطين في الأمم المتحدة رياض منصور الذي طالب مجلس الأمن بوقف الحرب فورا باتفاق ومن دون اتفاق، بعدما انقلبت واشنطن على اتفاقها الأصلي.
وحسب «حماس» أضاف نتنياهو شروطا جديدة للتفاوض عليها وعلى العرض الأمريكي الإسرائيلي، وهي عدم الانسحاب من معبر رفح، وعدم الانسحاب من محور فيلادلفيا، وعدم الانسحاب من محور نتساريم، وتفتيش النازحين العائدين إلى بيوتهم من الجنوب إلى الشمال، وتغيير المتفق عليه في تبادل الأسرى، وربط المساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار بالموافقة على الشروط السابقة.
وكذلك عدم الالتزام بالاستمرار في التفاوض بشروط المرحلة الأولى (وقف كامل وشامل لإطلاق النار والانسحاب للحدود) إلى حين الاتفاق على شروط المرحلة الثانية، والطلب من الأمريكيين أن يمنحوه تعهدا خطيا يمكّنه من استئناف الحرب إذا قرّر ذلك.
وأخذ المطلب الإسرائيلي بالبقاء في محوري نتساريم (الذي يقسم القطاع) وفيلادلفيا (الحدودي بين غزة ومصر) حيزا كبيرا من التسريبات الإعلامية على الرغم من أهمية كل النقاط الأخرى.
صناعة الأوهام
ومع ظهور المعارضة المصرية لبقاء الاحتلال الإسرائيلي على محور فيلادلفيا، أشاع الجانبان الأمريكي والإسرائيلي خلال الساعات القليلة الماضية أجواء تفاؤلية بالتوصل لحلّ لهذه المعضلة مع الوسيط المصري، فظهر ذلك في تأكيد المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي «تحقيق تقدم» وإعرابه عن اقتناع واشنطن بأن نتنياهو وافق على المقترح الأخير، «رغم إصراره على إبقاء قوات إسرائيلية عند الشريط الحدودي بين القطاع ومصر».
ونقل الإعلام الرسمي الإسرائيلي (هيئة البث الرسمية) عمن وصفه بمسؤول إسرائيلي رفيع أنه «تم جسر الهوة بين إسرائيل ومصر حول مسألة محور فيلادلفيا».
وقال هذا المصدر «الرفيع»: «تم خلال المحادثات تسليم مصر خرائط انتشار قوات جيش الدفاع (جيش الاحتلال) في قطاع غزة في المرحلة الأولى من صفقة الرهائن، خصوصاً على طول المحور بمحاذاة محور فيلادلفيا».
وعادة ما يدلي رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه ـ أو مكتبه – بتصريحات من دون ذكر اسمه وتنسب إلى مصدر رفيع.
وأشار المسؤول الإسرائيلي هذا ـ حسب هيئة البث – إلى أنه تم إحراز تقدم مع المصريين، و«من المتوقع أن يسلموا الخرائط الإسرائيلية لـ«حماس» غدا (السبت) من أجل الحصول على ردّ الحركة».
وأكدت هذا الأمر الحركة في بيان أمس (السبت) وأعلنت إرسال وفد منها بقيادة خليل الحية إلى القاهرة تلبية لدعوة من الوسيطين المصري والقطري «للاستماع لنتائج المفاوضات التي جرت في القاهرة».
وحسب الهيئة الإسرائيلية فإنه من المنتظر أن تعقد جولة مفاوضات جديدة في القاهرة الأحد (24 اب/أغسطس) بمشاركة رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بيل بيرنز، ورئيس وزراء قطر الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، ومسؤولين كبار من إسرائيل ومصر.
وسارع الرئيس الأمريكي جو بايدن بموازاة هذه التسريبات من طرف واحد، إلى الاتصال بالوسطاء، فأجرى محادثتين مع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
وحسب الديوان الأميري في قطر فإن أمير قطر بحث خلال الاتصال مع بايدن «جهود الوساطة المشتركة لإنهاء الحرب على القطاع».
أما الرئاسة المصرية فقالت إن الرئيسين (بايدن والسيسي) أكدا «أهمية التزام الأطراف المعنية بتذليل العقبات وإبداء المرونة لإتمام الاتفاق».
والمقترح المعني بالتفاوض لم يقدّمه الوسطاء في جولة الدوحة يومي 15 و16 آب/أغسطس الجاري، بل أعلنوا أن واشنطن تقدّمه بصفته «مقترح اتفاق جديدا لتقليص الفجوات بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وإسرائيل».
فهو مقترح أمريكي، وقبول نتنياهو به بحسب الجانب الأمريكي، مشكوك فيه أيضاً لأن رئيس حكومة أقصى اليمين لا يريد أصلا التوصل إلى أي اتفاق، حسب شريحة واسعة من المحللين والمراقبين الإسرائيليين.
ولخّص ذلك بوضوح إيهود أولمرت رئيس حكومة إسرائيل السابق (الذي شنّ حرب تموز 2006) في مقالته التي نشرتها صحيفة «هآرتس» المناهضة للحرب.
قال أولمرت «لا يريد نتنياهو عودة المخطوفين. ليست هناك احتمالية للتوصل إلى تفاهمات في المفاوضات الجارية في الفترة الأخيرة، والتي يتوقع استمرارها الأسبوع المقبل، وربما في الأسابيع التالية. من المرجح استمرار المفاوضات بدون تقييد زمني، أو انفجارها في مرحلة ما، وتنتهي بجولة أخرى من العمليات العسكرية في الجنوب، وربما في الشمال أيضاً».
الرجل الذي كان قبل أشهر قليلة منبوذا من كثير من الإسرائيليين الغاضبين، وينتظر المحاكمة فور انتهاء الحرب، عزّز من مواقعه في استطلاعات الرأي متبنيا خطاب التطرف الغالب في المجتمع الإسرائيلي، ونجح في قيادة حكومة ما بعد بيني غانتس المنسحب مع وزيريه في «معسكر الدولة» من الحكومة في حزيران/يونيو الماضي، وفي إدارة المشاحنات داخل حكومته بعقلية الذي يتشبّث بالسلطة، وفي الصراع المستمر مع المؤسسات الأمنية التي تحذر من سياساته التوريطية في الضفة، وفي غزة، وفي ملف المفاوضات.
الصوت الفلسطيني الغائب
أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فتظهر صور المؤتمر الوطني الديمقراطي في شيكاغو حيث الجالية الفلسطينية وازنة، تجاهلا للصوت الأمريكي الفلسطيني، مع ما يعني ذلك من عدم اكتراث بوزن الحملة المناهضة لحرب الإبادة الإسرائيلية في الولايات المتحدة، وداخل صفوف وقواعد الحزب الديمقراطي.
والتركيز على هزيمة دونالد ترامب بات أولوية أمريكية تتكيف معها السياسة الخارجية بشكل كامل، والمقترح الأمريكي في المفاوضات يأتي ضمن هذه الحسابات، بعدما فشلت الولايات المتحدة في الإقصاء التدريجي لنتنياهو، الذي لوّح به زعيم الغالبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ شاك شومر مخاطباً المجلس في آذار/مارس الماضي ليقول إن حكومة نتنياهو «لم تعد تناسب احتياجات إسرائيل» وليدعو إلى انتخابات جديدة.
وشومر، وهو من أكبر مؤيدي إسرائيل في الولايات المتحدة، وأرفع مسؤول أمريكي يهودي منتخب، استمر على موقفه الغاضب من سياسات نتنياهو.
لكن الاستياء الأمريكي من نتنياهو الذي سرّبته الإدارة خلال الأشهر الماضية لم يعد أيضا أولوية، وتخطاه الزمن على أعتاب الانتخابات الرئاسية الأمريكية، التي تمثل هذا العام، إحدى اللحظات الأكثر أهمية في تاريخ الولايات المتحدة، وربما في العالم.
وقفت الولايات المتحدة بقوة في وجه التهديدات الإيرانية بعد اغتيال هنية والقيادي في «حزب الله» فؤاد شكر، وكانت واضحة في استعدادها لتأمين مظلة حماية عسكرية منفردة وبالشراكة مع دول في الإقليم وأوروبا، إذا تطورت الحرب إلى ما لا يحمد عقباه.
وبالتأكيد إن الولايات المتحدة لا تريد توسّع الحرب في المنطقة، لكنها تطبّع مع حرب نتنياهو الاستنزافية، بقدر من الخسائر البشرية أقل من قبل، وتتغاضى عن جريمة أكبر تتمثل في إبقاء مليوني فلسطيني مهجّرين داخل قطاعهم المحاصر، يجوعون ويعرون ويمرضون ويموتون إن لم يكن من القنابل أمريكية الصنع، فمن استخفاف العالم بمصيرهم وهم داخل معسكر اعتقال كبير أضيفت عليه كل مؤثّرات الرعب، والدمار، والبربرية والوحشية.
فأيّ مفاوضات تفضي إلى استمرار الوضع على ما هو عليه مع الإفراج عمن تبقى من محتجزين ورهائن وأسرى أحياء لدى «حماس» بعدما قتلت القنابل عددا منهم، سيشكل مكسبا صغيرا لإدارة بايدن يمكن لها أن تتسلح به في انتخاباتها.
وهذه اللحظة بالذات في الولايات المتحدة الأمريكية، هي التي تطلبها من «حماس» ومن غيرها.
حرب الإبادة مستمرة
والمطلوب من «حماس» صعب لدرجة يجعل نتنياهو مطمئنا لعدم التوصل إلى اتفاق، ويضع «حماس» في موقف حرج، وعلى مفترق قرارات لا يبدو حتى الآن أن الحركة مستعدة لتقديم تنازلات كبيرة فيها، بعد المرونة التي أبدتها في المرحلة السابقة بما يخص مرحلية وقف إطلاق النار.
وخلال أشهر طويلة، نجحت حركة التضامن مع فلسطين في إدانة مدوية للحرب الإباديّة الإسرائيلية، وفي دفع العديد من الحكومات إلى تبني خيار السلام القائم على الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني أو بجزء منها، لكنها فشلت في وقف الحرب نفسها.
وخلف هذا الفشل يقف جبل كبير من انحياز صارخ في الولايات المتحدة الأمريكية، وعدد متناقص من الحكومات الأوروبية، إلى إسرائيل، وسط شبه لا مبالاة روسية بوقفها، ومصلحة روسية وصينية مباشرة في استنزاف الأمريكيين في الشرق الأوسط.
والقرارات الصعبة عند «حماس» هي قرارات صعبة أيضا على الشعب الفلسطيني، وصعوبة هذه القرارات عند «حماس» غير المنفصلة عن واقع الشعب الفلسطيني، وخصوصا في قطاع غزة، تزيدها تعقيداً مواقف الشعوب العربية غير المؤثرة فيما يحدث، على عكس حركة التضامن العالمية.
ففي لبنان، يخوض «حزب الله» حربا باسم «المحور» بدعم شريحة واسعة من اللبنانيين، ومعارضة شريحة واسعة أخرى في انقسام لبناني معروف، والمحور يقاتل من اليمن، والعراق وسوريا في أحيان أخرى، وحسابات إيرانية فيما يخص إدارة الصراع.
وحركة «حماس» التي فقدت زعيمها في طهران كانت تتوقّع من دون شك أو تأمل بردّ إيراني يعيد خلط الأوراق، ولا يجعل الاغتيال مكسبا سياسيا لإسرائيل ونتنياهو. لكن حربا كبيرة تشعل الإقليم هي حرب غير محسوبة النتائج وغير واضحة في ظل غموض يحيط بالراعي الأكبر لإسرائيل، الولايات المتحدة المنشغلة إدارتها بحملتها الانتخابية المحمومة، ولا ترغب بتقديم هدايا لحملة دونالد ترامب، الذي لا تنسى طهران كذلك هي الأخرى أنه ألغى الاتفاق النووي معها، واغتال قاسم سليماني قبل أن ينهي ولايته.
وهذا المسار كله، يجعل التعقيدات التي تحيط بملف التفاوض لإنهاء الحرب أو تهدئة في غزة، تعكس استعصاء في كل جولة من التفاوض، ومحكومة بجدار كبير من احتمالات الفشل.