تونس- “القدس العربي”: قال المفكر الفرنسي فرانسوا بورغا إن هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر (عملية طوفان الأقصى) أو ما سماه “ثورة أسرى غزة ضد سجانيهم” يشبه إلى حد كبير ما قامت به جبهة التحرير الوطني الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي.
وأضاف، في حوار خاص مع “القدس العربي”، “منذ وصولها إلى السلطة في العام 2006، جربت حماس كافة أنواع الاستراتيجيات، بما في ذلك الاستراتيجيات الأكثر تصالحية تجاه إسرائيل. لكن إسرائيل لم ترد على هذه المقترحات إلا بحصار لا هوادة فيه واعتداءات عسكرية متعددة (جوا، وبالمدفعية الثقيلة والقناصين)، غير متناسبة تماما مع قدرة الأسلحة الفلسطينية”.
منذ وصولها إلى السلطة، جربت حماس استراتيجيات أكثر تصالحية تجاه إسرائيل التي ردت بحصار واعتداءات متكررة على قطاع غزة
وتابع بورغا: “لقد نظم الإسرائيليون هذا الحصار على قطاع غزة، ولكن بتواطؤ مزدوج من أوروبا التي دعمت – رغم ذلك – تنظيم الانتخابات (البرلمانية عام 2006) والسلطة الفلسطينية. وفي هذا السياق، قررت حماس اللعب بورقة احتجاز الرهائن في 7 أكتوبر 2023. ومن الواضح أن هذا كان أحد الإمكانيات الوحيدة المتبقية لها لإحياء المقاومة، في الوقت الذي قام فيه الغرب وأغلبية شركائه العرب بدفنها بكل بساطة.
وعلق على قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي بتبرير هجومها على غزة، بالقول: “لقد أرادت إسرائيل دائمًا إخفاء العنف الأصلي لاستعمار فلسطين تحت التبرير المضلل المتمثل في الرد على “العنف الفلسطيني”. فجرائم الحرب واسعة النطاق (لإسرائيل) ليست جديدة فقد بدأت في عام 1948. كما أن أعمال العنف التي وقعت في 7 أكتوبر 2023، والتي أعتبرها دائمًا “ثورة لأسرى غزة ضد سجانيهم”، هي مشابهة لما قامت به جبهة التحرير الوطني الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي لوضع حد لوجوده”.
لقد أرادت إسرائيل دوما إخفاء العنف الأصلي لاستعمار فلسطين تحت التبرير المضلل المتمثل في الرد على “العنف الفلسطيني”
وأضاف “ومن المهم بشكل خاص أن نرى أن الحكومات – مثل حكومات جنوب أفريقيا وإيرلندا – التي تدعم اليوم إنشاء دولة فلسطينية، عانت هي نفسها من أشكال الاستعمار. بينما يبدو أن فرنسا تظهر تضامنها مع الأساليب التي استخدمتها هي نفسها إلى حد كبير لاحتلال الجزائر”.
الفلسطينيون ليسوا إخوة للأوروبيين
ويرى مراقبون أن حرب غزة كشف “زيف” الديمقراطية الغربية التي تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها، لكنها تدعم – في المقابل – دولة الاحتلال الإسرائيلي التي ترتكب “مجازر جماعية” ضد الفلسطينيين.
وعلق بورغا على ذلك بقوله: “دعونا نتذكر أولاً شيئًا أساسيًا واحدًا وهو أنه – باستثناء الحوثيين اليمنيين – فإن موقف الدول الغربية ليس أسوأ من موقف 90 في المئة من القادة العرب. إلا أن الفلسطينيين ليسوا إخوة للغربيين لغويا ولا ثقافيًا ولا جيراناً للأوروبيين كما هو حالهم بالنسبة للمصريين بشكل خاص”.
وأضاف: “ولكن كل هؤلاء القادة العرب والغربيين لديهم نفس الافتقار المطلق للإنسانية، ونفس النفاق، وبالطبع نفس الرفض لهذه القيم – سواء سُميت “غربية” أو “إسلامية” – والقادمة من بلاد “مقدسات الإسلام” ومن “عاصمة القيم العربية” المصرية، أو من باريس (التي تعلن نفسها “مخترعة حقوق الإنسان”)، كما يروجون لأنفسهم. ويشترك هؤلاء الزعماء في موقف يمكن وصفه بالخضوع المحض والبسيط لتوازن القوى في تلك اللحظة – أي لقانون الأقوى – الذي يعتقدون أنه يحمي مصالحهم على المدى القصير للغاية، وهم لا يهتمون بانتهاك أبسط القيم الإنسانية”.
وحول قمع الشرطة للمظاهرات المؤيدة لفلسطين في الجامعات الغربية، قال بورغا: “إن الحظر المفروض على أي تعبير عن التضامن مع الفلسطينيين، أو فيما يتعلق باحترام القانون الدولي، هو في واقع الأمر موقف يمثل أسوأ ما يفعله الغربيون، وأغلب الزعماء العرب، من الجزائر إلى القاهرة، الذين يحظرون أي مناسبة عامة تُدين إسرائيل. ورغم هذه الرقابة، نُظمت مظاهرات (مؤيدة فلسطين) في بعض الدول العربية، وخاصة في المغرب”.
الحظر المفروض على أي تعبير عن التضامن مع الفلسطينيين يمثل أسوأ ما يفعله الغربيون، وأغلب الزعماء العرب
وأضاف: “أنا شخصياً لدي تجربة في هذا المجال لأنني – مثل العديد من المواطنين الآخرين في بلدي – تم استدعائي للتو من قبل الشرطة لمواجهة تهمة “التحريض على الإرهاب”.
وتابع بورغا: “في أوروبا والولايات المتحدة، ما زال الشباب (بما في ذلك أتباع الديانة اليهودية) وكذلك أقلية من الطبقة السياسية (في فرنسا، حزب فرنسا الأبية) يحتفظون بالمبادئ النبيلة من خلال معارضة واضحة – ليس فقط للسياسة الإسرائيلية – ولكن أيضًا لتواطؤ حكوماتهم مع حكومة نتنياهو. وهذه إشارة مهمة للغاية وإيجابية للغاية إذا اعتبرنا أن هؤلاء الأكاديميين الشباب الأمريكيين أو الأوروبيين هم قادة الغد”.
في الدول الغربية ما زال الشباب يحتفظون بمبادئ نبيلة عبر معارضة تواطؤ حكوماتهم مع إسرائيل وهذه إشارة مهمة للغاية إذا اعتبرنا أن هؤلاء هم قادة الغد
يمين أوروبا ويسارها متفقان على معاداة المسلمين
وحول تأثير حرب غزة على اكتساح اليمين المتطرف الانتخابات البرلمانية الأوروبية، قال بورغا: “لا أعتقد أن حرب غزة كانت عاملاً في فوز اليمين المتطرف. أما فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية، فقد تمكنا من تفسير التحول في القوى السياسية الفرنسية الرئيسية (اليسار واليمين). فتحت ذريعة رفض ما يسمى بالحكومة “الإسلامية”، قام اليسار، منذ فوز حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، بسحب جزء كبير من دعمه (المتواضع) للفلسطينيين”.
وفسر ذلك بقوله: “هذا موقف منافق بشكل خاص لأن ما يسمى برغبة اليسار في “الدفاع عن العلمانية” لا يتم التعبير عنها بأي شكل من الأشكال فيما يتعلق بإسرائيل، حيث فرضت الأصولية الدينية الأكثر قسوة والأكثر وضوحًا نفسها كما لم يحدث من قبل، إلى حد جعل الكتاب المقدس “سجلاً عقارياً” إقليمياً يحل محل القانون الدولي”.
وأضاف: “وفيما يتعلق باليمين، ففي نهاية الحرب العالمية الثانية وفي سياق إنهاء الاستعمار، تخلى ببطء عن عدوه اليهودي “التقليدي” للتركيز على العدو العربي ثم المسلم على وجه الخصوص، وعلى نطاق أوسع عبر جيل “أحفاد المستعمَرين” بأكمله. المستعمَرون يبقون مستعمَرين مهما كان دينهم”.
وفسّر بورغا الخلاف الأساسي بين اليمين واليسار الأوروبي بقوله: “لأكثر من قرن، كان الخط الفاصل بين اليسار واليمين يركز بشكل أساسي – بالإضافة إلى خلافاتهما في الأمور الدينية – على توزيع الثروة. وأظهرت حرب غزة أن هذا الخط، الذي تحول مساره بشكل كبير لصالح اليمين، يفصل بين موقفين متعارضين اليوم بشأن أحفاد المستعمَرين”.
وأضاف: “إن اليمين المتطرف واليمين وقطاعات كاملة من اليسار لا تدعم إسرائيل كدولة يهودية، بل كدولة “معادية للمسلمين”. إنهم يدعمونها كدولة تفعل في غزة – تجاه العرب والمسلمين في المنطقة – ما يندمون عليه من ناحية لعدم قيامهم به بشكل أكثر عنفًا في سياق حروب تصفية الاستعمار، ومن ناحية أخرى، لمواجهة الظهور المتزايد لهؤلاء المسلمين في أوروبا”.
وأشار بورغا إلى أن “الكثيرين كانوا يأملون أن تساعد الدول العربية في استخدام نفوذها للحد من هذا الانجراف العنصري الأوروبي. ومن المؤسف أن حملة الإسلاموفوبيا لم تتم إدانتها قط، بل ولم تتم مواجهتها قط من جانب زعماء الشرق الأوسط أو المغرب العربي. بل على العكس من ذلك، فقد تم استغلالها بشكل صريح، كما تم تشجيعها بنشاط من قبل عدد معين منهم”.
وأضاف “وقد ثبت ذلك (من خلال الإجراءات القانونية) أن الإماراتيين دفعوا ملايين الدولارات لشركة اتصالات سويسرية لتشويه سمعة قطر من جهة، بل وسمعة النخب الأوروبية المسلمة التي تعتبر تابعة أو قريبة من الإخوان المسلمين، أي في الواقع أولئك الذين شكلوا العمود الفقري للمجتمع المدني الإسلامي في أوروبا”.
وتابع بورغا بالقول: “لقد أثرى الصحافيون الفرنسيون “العظماء” أنفسهم من خلال الكتابة – بتمويل من الإماراتيين – منشورات ضد مسؤولية قطر المزعومة فيما يتعلق بتنمية “الأصولية” أو “الانفصالية” للمسلمين في فرنسا. كما أن زعماء مصر وبعض دول الخليج شجعوا فرنسا علناً، منذ خمس سنوات، على “محاربة” – ليس الإرهاب أو التطرف بل “الإسلام السياسي” – أي محاربة التيار السياسي الذي يشكل المكون الأساسي لخصومهم”.
من المؤسف أن حملة الإسلاموفوبيا لم تتم مواجهتها قط من جانب الزعماء العرب، بل على العكس تم تشجيعها بشكل كبير من قبل بعضهم
كما أشار إلى أن “تونس أظهرت في عهد قيس سعيد أن العنصرية المناهضة للمهاجرين – في سياق سياسي وثقافي مختلف تماما – لم تقتصر على العقول الغربية. وهذا لا ينتقص بطبيعة الحال من المسؤولية الكبيرة للأنظمة، والتي تتناسب مع قدرتها الحالية على الهيمنة”.
واستدرك بورغا بالقول: “لكن هذا يمنع تقديم تفسير “ثقافي” لهذا العنف العنصري المنتشر حسب الانتماء الديني ضد أي متظاهر في العالم العربي والإسلامي، وكذلك في أوروبا والولايات المتحدة”.
وأضاف: “إن المسؤولية عن مشاكل العالم لا تقع على عاتق الغربيين حصراً، بل تقع على عاتق “المهيمنين” أياً كانت ثقافتهم أو دينهم الذين يدوسون قيمهم بمجرد أن يتعارض احترامهم مع حماية مصالحهم المادية المباشرة”.
حماس لم تخفِ طابعها الإسلامي
وفسر بورغا محاولة البعض إضفاء “طابع ديني” على حرب غزة بقوله: “لم تخفِ حماس أبدا طابعها الإسلامي منذ أن أعلنته في اسمها (حركة المقاومة الإسلامية)، ومن ناحية أخرى، حافظت إسرائيل منذ إنشائها لفترة طويلة على واجهة “صحيحة سياسياً” تسلط الضوء على الارتباط المفترض بعلمانية مؤسساتها وصرامة ديمقراطيتها. كما استُخدم على نطاق واسع وبقدر كبير من الفعالية “إسلامية” حماس والمرجعيات الدينية التي استخدمها قادتها دائما لتشويه سمعتها بين الغربيين”.
وأضاف: “ومنذ وصول المستوطنين المتطرفين إلى حكومة نتنياهو، تحطم هذا الطلاء أو الغلاف من “العلمانية” والعالمية، وأصبحت المرجعيات الإسرائيلية دينية وعنصرية بشكل واضح. في الواقع، تحدث نتنياهو عن مكانة إسرائيل باعتبارها “شعب النور” الذي، حسب قوله، لن يحارب الفلسطينيين، بل “شعب الظلام” (مستعينا بنص من التوراة)”.
منذ وصول المستوطنين المتطرفين إلى حكومة نتنياهو، تحطم غلاف “العلمانية” وأصبحت المرجعيات الإسرائيلية دينية وعنصرية بشكل واضح
ولخص بورغا رؤيته لحل الصراع المستمر منذ عقود بين الفلسطينيين والإسرائيليين بقوله: “ليس هناك اليوم سوى بابين للخروج من الأزمة الفلسطينية. الأول، والذي نأمل أن يتم تطبيقه ذات يوم، هو من نموذج “جنوب أفريقيا”، الذي يتضمن بناء “أمة قوس قزح” ضمن دولة واحدة أو دولتين، ستتمكن كما فعل مانديلا من التوفيق بين رؤيتين: الإسرائيلية والفلسطينية. والثانية من نوع “روديسيا” (زيمبابوي حاليا) أو “الجزائر”، حيث تضطر إحدى الطائفتين إلى مغادرة المنطقة المتنازع عليها”.
وأضاف: “وفي الوقت الحالي، من الواضح أن الإسرائيليين، الذين هاجسهم الوحيد هو الاستعمار، يبذلون كل ما في وسعهم لمنع إمكانية التوصل إلى حل الدولة الواحدة أو حتى الدولتين، الذي يسمح لطرفي الصراع بالتعايش. إنهم يعتمدون أكثر من أي وقت مضى على قوة أسلحتهم وحدها، أو بالأحرى على قوة الأسلحة التي تغمرهم بها الولايات المتحدة، والتي بدونها لن يكونوا قادرين على مقاومة الضغط العسكري لخصومهم الإقليميين (إيران وتركيا وروسيا والعالم العربي). لذلك من المعقول الاعتقاد بأن عقود وربما سنوات الدولة اليهودية أصبحت معدودة اليوم”.
سنوات الدولة اليهودية باتت معدودة
وختم بورغا بقوله: “لكن يجب ألا ننسى أن هذا الوحش الجريح (إسرائيل) يمتلك أسلحة ذرية، ومن الصعب للغاية التنبؤ بسرعة وطبيعة الخطوات التي ستسمح للشرق الأوسط بإيجاد السلام الذي يسعى إليه منذ فترة طويلة”.
نعم أيها المفكر الفرنسي لقد صدقت فيما ذهبت إليه عن الثورة الجزائرية التي صارت منذانتصارها على المحتل عبارة عن مقبس لإنارة طريق الشعوب التواقة للحرية والإنعتاق من عبودية البشر. والحق أحق أن يتبع ..