قبل زهاء مئة عام ألح آي. أي. ريتشاردز في غير موضع من كتابه «مبادئ النقد الأدبي» على الوظيفة المزدوجة للغة القصيدة، فقد كان يرى للغة وظيفة متفقا عليها، وهي الدلالات المعجمية للمفردات، وأخرى فردية تكون فيها الكلمات منبهات نفسية، تتعلق بتجربة القارئ، وارتباط كل مفردة بتجربة شخصية له. وهذه الوظيفة هي التي تسبب الاختلاف في الفهم بين القراء، لتصبح القصيدة الواحدة قصائد كثيرة بعدد القراء الذين قرأوها.
ومع أهمية هذا التمييز ومنطقيته فإن ريتشاردز أهمل وظيفة ثالثة، هي ذلك المعنى الكلي الذي تتركه القصيدة في نفس القارئ بعد الفراغ من قراءتها، وهو جواب السؤال (لماذا كتب الشاعر هذه القصيدة؟)، وهو ما سنسميه في هذه المقاربة؛ المقصد فوق النصي، لأنه معنى لا يوجد في أجزاء النص وفواصله، بل يبنى بطريقة تراكمية في زاوية من وعي القارئ، إلى جانب المعنى العام للنص. إن من يقرأ قصيدة أبي فراس الحمداني (أراك عصي الدمع) مثلا، من غير أن يعرف الظروف التي قيلت فيها سيراها قصيدة غزل وفروسية، ولكن كيف جعلها الشاعر رسالة عتب مشفرة إلى سيف الدولة، فكان لها مقصد فوق نصي موجَّه لشخص بعينه، بينما كان امرؤ القيس في معلقته يبني مقصدا فوق نصي عام، يمكن أن يصل للقارئ من غير أن يكون عارفا بتاريخ القصيدة وظروف نظمها.
تساعدنا معطيات الدرس التداولي على المزيد من إيضاح فكرة البحث، فأي فعل قولي له دلالات تداولية محكومة بالسياق الذي قيل فيه، والمقصود بالسياق هنا ظروف القول من زمان ومكان وحالة نفسية، وطبيعة العلاقة بين المتكلم والمخاطب وثقافتهما ومناسبة اجتماعهما وغير هذا. ولأن الشعر العربي نشأ شفاهيا غنائيا، فقد كانت الرسائل المتضمنة في النص الشعري متطابقة إلى حد كبير مع مرامي الشاعر وغاياته، ولكن مع انتشار الكتابة وتعقد الحياة، وازدهار الحواضر، وظهور أنماط جديدة من الأدب، اختلف الأمر، فكلما كان النص الأدبي يقطع خطوة في مسيرة التطور يقطع ما يماثلها في الابتعاد عن الارتباط المباشر بالمقصد النهائي للأديب، وظهرت في النقد الأدبي القديم، تعابير مثل المعنى في قلب الشاعر، ومصطلحات حاولت التعبير عن هذا التباعد ومنها، بيت القصيد، المعنى القريب والمعنى البعيد، الإضمار، حتى وضع عبد القاهر الجرجاني مصطلح معنى المعنى.
إن نصوصا مثل المقامات لا ترمي إلى تعليم الصبيان غريب المفردات وأوجه البلاغة النادرة، كما رأى بعض من درسها، بل ترسم صورا لمظاهر اجتماعية بطريقة لاذعة السخرية، من غير أن يدعي كاتبها أنه معني بهذا. وحين كتب التوحيدي «مثالب الوزيرين» كانت رسالته خارج النص، وهي إنه هو وحده من يستحق كرسي الوزارة.
في أدب الحداثة وما بعدها ازداد الأمر تعقيدا، فلم يعد من السهل الاتفاق على الرسالة التي تنطوي عليها قصيدة، أو قصة أو رواية، ولم يعد المؤلف موجودا داخل النص، بل تنوب عنه أصوات يخلقها هو، ولا يمكننا الجزم بأن صوتا منها يتطابق مع رؤية الكاتب أو الشاعر، لكننا دائما نستطيع استنتاج دلالة تقريبية، بعد الانتهاء من القراءة، حين نسأل لماذا كتب الكاتب هذا النص؟ فكلما نتقدم بالزمن يبتعد النص عن الكاتب، ليتجه باتجاه الغموض والرمز والإشارات والعلامات، كلها إشكالات تعدد احتمالات التأويل، فيغدو الأمر عصيا على المتلقي. إن العلاقة بين السياق والنص إشكالية، تبادلية، فالنص تولّد في سياق محدد، لكنه يمكن أيضا أن يؤثر في السياق ويحدث فيه تغييرا، وذلك ما عرف في التداولية بالأفعال الكلامية.
ولأن المقصد فوق النصي يتعلق كثيرا بالسياق، يمكن الكشف عنه أحيانا بدلالات نصية تدفع المتلقي للبحث عن السياق الذي أنتج فيه النص. وفي أحيان أخرى لا يمكن التنبه عن ذلك المقصد، لأن النص بُني بطريقة لا تلفت إلى دلالات غير ظاهرة، وهنا لابد من معرفة السياق ابتداء، وفي كلتا الحالتين سنسمي المنهج الكاشف عن المقصد فوق النصي (المنهج السيانصي)، الجامع بين السياق والنص، لأنه يعتمد تحليل الاثنين معا للكشف عن البعد الكامن وراء النص. من حيث النصوص القديمة ووضوح القصد، فقد نشأ الشعر العربي شفاهيا، نتيجة للظروف البيئية والاجتماعية، وتفرض الشفاهية – المباشرة والتقريرية، لأن الشاعر يخاطب المستمعين بطريقة مباشرة، فمن غير الممكن أن يقول قولا يلزم التأويل والتفكر، وهذا لا يتعارض مع توظيف الشاعر الجاهلي المجاز لبناء الصور، لأن الصور التي توظفها الشفاهية ليست مما يحتاج إلى تأويل. إن قراءة لمعلقة أمرئ القيس وفحص ما فيها من تشبيهات واستعارات، ستوصل إلى أن الشاعر يعتمد على ما يختزنه الوعي الجمعي من الصيغ الشفاهية، المتمثلة بصيغ لغوية معدة سلفا قائمة في ذاكرة الشاعر والمتلقي على حد سواء، جرت المحافظة عليها عبر الزمن. وهذا ما يتكفل بإقامة الاتصال بينهما الأمر الذي يؤدي إلى إيضاح القصد.
يتنبه ابن مسكويه إلى واحدة من أهم سمات الكتابة، التي أفضت إلى تغير ثقافي هائل في العصر العباسي حين قال، إن «البلاغة التي تكون بالقلم تكون على روية وفكرة وزمان متسع للانتقاد والتخير، والضرب والإلحاق وإجالة الروية لإبدال الكلمة بالكلمة».
يتيح منجز البحث التداولي آفاقا كبيرة لفهم المقاصد، لأن التداولية لا تدرس اللغة بوصفها مجموعة من القوالب والبنى التركيبية فحسب، بل تدرسها بوصفها كلاما، وخطابا، وإدراكا، وشعورا، ورموزا وإشارات، وأثرا وأفعالا، وسلوكا، فهي في أبسط تعريفاتها دراسة اللغة في الاستعمال. ويتبدى قصد المتكلم وينكشف لمحلل الخطاب، بفعل القول الصادر منه (المتكلم)، فهو كاشف عما يدور في ذهنه وما يختلج في نفسه، فالسمة البارزة في الشعر الجاهلي هي تمازج الفعلين معا، الفعل الإنجازي والفعل التأثري، لاحتوائهما على مقاصد محددة بعيدا عن فكرة الادعاء فلا تناقض بين المقاصد الحقيقية وكذب الإخبار. ويستلهم الشاعر من دفائن ذاكرته الفكرية والمعرفية ومقاصده الذهنية ودوافعه النفسية، صوره الوصفية، وهذا يلتقي مع فهم التداوليين للقصد، إذ إنه يبنى على أن معرفة الدلالة تعد من قبيل المحال، إن لم ترجع إلى ما ينويه المتكلمون من مقاصد معقدة موجهة نحو مستمعيهم. فالشاعر، تداوليا، لا يريد أن يكون شاذا في القول والتوصيل، لكونه يريد لنصه الانتشار، وكلما كان يتحدث في إطار التداولية الشعرية يكسب جمهورا أوفى، لكون النص وسيلة إعلام الشاعر والقبيلة للإعلان عن فنه، فضلا عن رغبته في إيجاد تراكيب صوريه تبهر السامع مع تداوليتها اللفظية ودلالاتها العامة في رصد القواسم المشتركة بين الشعراء، ولا ننسى أن المنهج التأويلي وقف عند مقصدية المؤلف ومقصدية النص، فنحن إذن، أقرب إلى رصد التداولية، ليس بمفهومها اللغوي إنما الشعري تحديدا. وعلى الرغم من أن الكتابة دخلت بوصفها طريقة للتنظيم الرسمي للدولة، في القرن الأول للهجرة، فإنها لم تصبح وسيطا أدبيا إلا بعد مئتي عام، فقد ظل مفهوم المشافهة الوسيلة الوحيدة الموثوقة لتلقي النصوص الأدبية، سواء أكانت نثرا أم شعرا، بل إن من النقاد والرواة من كان يستهجن الكتابة، وقد يكون المثال الصارخ هنا ما قاله ابن سلام في خطبة كتابه «ولا يؤخذ عن صحافي ولا يروى عنه».
غير أن الكتابة حين أصبحت هي النواة المركزية لما فيها من عمق يساعد على استئناف التفكير والتأمل في العمل الإبداعي، بما ينطوي عليه من مضامين، وما يؤسسه من ممارسات قرائية خاصة، أحدثت هزة ثقافية كبرى، غيرت شكل الأدب وصياغاته، وخلق المجتمع الكتابي أشكالا جديدة من الوعي والتأمل والتفكر والضبط. فالنمط الحضاري أنتج ثقافة خاصة في عمقها، لذا تم تجاوز الحدود التقليدية عبر تأسيس نظرية تأملية تعاند كل نزوع نسقي إلى نقد يؤسس لعلاقات جديدة، وكذلك نمط التلقي، وقد سبق أن افترضنا أن الشقة بين النص الأدبي ومقاصد الكاتب، تتسع كلما غلبت الكتابية على الشفاهية، وهذا ما حدث فعلا في العصر العباسي، كما سيتبين في هذه الفقرة من البحث. إن «الكتابة تخلق ما سماه بعض الباحثين لغة طليقة من السياق»، فالقارئ لقصيدة مكتوبة يتلقاها منفصلة عن السياق الذي قيلت فيه، وهكذا تكون قد فقدت الكثير من عناصر الشفاهية السياقية، الكاشفة لمقاصد الشاعر، وهكذا أيضا أصبحت تلك المقاصد (فوق نصية) لأن النص لا يكشف عنها.
يتنبه ابن مسكويه إلى واحدة من أهم سمات الكتابة، التي أفضت إلى تغير ثقافي هائل في العصر العباسي حين قال، إن «البلاغة التي تكون بالقلم تكون على روية وفكرة وزمان متسع للانتقاد والتخير، والضرب والإلحاق وإجالة الروية لإبدال الكلمة بالكلمة». وهو يتحدث هنا عن حال الكاتب، لكن بالإمكان النظر إلى الفكرة من جانب القارئ، فهو سيتلقى النص بأسلوب مختلف عن التلقي الشفهي، فلديه الفسحة للتوقف والتفكر والتأمل والعودة إلى الخلف، ومحاولة تخمين السياق لمعرفة المقاصد فوق النصية. تمثل إحساس المجتمع بالتشفير، الذي شرع بأخذ طريقه إلى النص الأدبي، وهكذا، كلما تتعقد النصـــوص تكون بحاجة إلى مصطلحات تبحث عن معان أعمق من السابق.
٭ ناقدة وأكاديمية من العراق
سلمت الانامل طرح جميل جداً استاذتي الفاضلة
التفاته قيمة وجديرة دكتورتنا القديرة .. فعلا فالنص بحاجه الى قراءة ووقفة تأملية للكشف عن رسالته المشفرة وهذا يحتاج إلى مابعد القراءة تلقي مفكك دورها القارئ المحنك.