ما الذي يجبر الولايات المتحدة الأمريكية ومعها دول العالم الحر على الضغط على إسرائيل لوقف الحرب والقبول بصفقة تبادل مع حماس تعتبر فيها إسرائيل خاسرة عسكريا وسياسيا واستراتيجيا؟
وما الذي جعل إسرائيل تفقد كل الأوراق السياسية والعسكرية والاستراتيجية في حربها ضد المقاومة، ولم يعد لها إلا ورقة يتيمة يعرف الجميع أنها ليست موضوعة على طاولة التنفيذ، هي ورقة العملية العسكرية في رفح؟
لفهم هذه التحولات، لا بد من العودة إلى القواعد التي بنيت عليها الاستراتيجية الدولية في إدارة الصراع العربي الإسرائيلي، والتي كانت تقوم على ثلاثة مفاهيم أساسية: «الأمن» و«الطوق» و«المعاش اليومي».
التركيب الذي كان يصوغ هذه المفاهيم، أن لإسرائيل «الأمن» وأن ضمانة ذلك «تطويق» المقاومة بسلطة فلسطينية تحلم بدولة فلسطينية مستقلة في الظاهر، وتحمي إسرائيل من المقاومة في الجوهر، وذلك مقابل تأمين «معاش يومي» للفلسطينيين. ولأن الأمن قضية محورية حيوية، فإن الطوق اتخذ نوعين، الأول محلي، تشكله السلطة الفلسطينية، والثاني إقليمي، تشكله دول الجوار، وتحديدا للدول العربية التي تربطها بإسرائيل معاهدة سلام (الأردن ومصر).
أحدثت حماس ثقبا كبيرا في هذه الاستراتيجيا في اللحظة التي انسحبت فيها إسرائيل من قطاع غزة (2005) ونظمت انتخابات تشريعية تصدرت فيها حماس المشهد (2006) وامتلكت بموجبها السلطة في القطاع.
هذان الحدثان المهمان فرضا إحداث تحيينات مهمة في الاستراتيجية الدولية، أبقت على العنصرين الأولين السابقين، وأضافت إليها عنصرا رابعا، هو مفهوم «الحصار» وعدلت قليلا من المفهوم الثالث «المعاش اليومي» للفلسطينيين، فأصبح التركيب الاستراتيجي، أن وظيفة «الطوق» المزدوج هو حصار سلطة حماس، اقتصاديا وسياسيا، ومنعها من تحويل القطاع إلى منصة لانطلاق العمل العسكري، والتأثير على «المعاش اليومي» لقطاع غزة بقصد تثوير الجمهور ضد المقاومة، حتى يكون مدخل فشلها العام من بوابة التدبير الحكومي.
بعد حوالي عشرين سنة (تحديدا ثماني عشرة سنة) خاضت إسرائيل حروبا متباينة على غزة (2008-2009، 2012، 2014، 2021، 2022، 2023، 2024) وتبين أن التحيين الذي أحدث في الاستراتيجيا الجديدة لم يفلح، بسبب دخول متغيرات جديدة على المعادلة، تم ربطها بالدور الإيراني، ومحور المقاومة، والتنسيق الإقليمي الاستراتيجي بين مكوناته.
تأرجحت الاستراتيجية الأمريكية في التعاطي مع الدور الإيراني بين خيارين، الإدماج (باراك أوباما) والحصار (دونالد ترامب) وفشلت الإدارة الأمريكية الحالية في تبني أي خيار، بما في ذلك الدمج الحذر بين الخيارين الاثنين، بينما احتفظت إسرائيل في علاقتها بالدور الإيراني، بخيار واحد هو «المواجهة» وتأثرت العلاقات الأمريكية الإسرائيلية كثيرا بسبب الخلاف في التعاطي مع الدور الإيراني في المنطقة.
أضافت الإدارة الأمريكية في عهد دونالد ترامب ثلاثة عناصر جديدة للاستراتيجية السابقة عبر صفقة القرن، الأول هو تحويل مفهوم «المعاش» إلى مفهوم «الرفاه» والثاني، وهو تعزيز مفهوم «التطبيع» بإدماج عدد كبير من الدول العربية في هذا المسار، والثالث، وهو تذويب القضية الفلسطينية، في مسمى «الاندماج الإقليمي».
التركيب الذي صاغت به المقاومة استراتيجيتها، ينطلق من مبدأ الحق في المقاومة، والقدرة على إيلام العدو، وعدم جعل الكلفة الإنسانية حائلا دون الاستمرار في الحسم الاستراتيجي
الكثيرون يركزون في تفسير التطورات التي تعرفها الحرب على غزة على التأثيرات التي أحدثتها، والسيناريوهات التي رسمتها، سواء في المنطقة القريبة أو البعيدة، فيدخلون إلى المعادلة تأثيرات الجمهور الغاضب في البيئات السياسية للدول الداعمة لإسرائيل (الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا، فرنسا، إسبانيا، ألمانيا) وبعضهم يسلط الضوء على تحولات مواقف عدد من الدول في آسيا أو أمريكا اللاتينية، فيما البعض الآخر، يركز بوصلته على التناقض الذي حدث في مفهوم الأمن القومي بالنسبة إلى دول عربية كانت محورية في أداء وظيفة «الطوق» فصارت مصر والأردن، مضطرة بفعل الحرب الجارية على غزة إلى إحداث تعديل في عقيدتها الأمنية، بعد أن كان التهجير إلى سيناء والأردن أحد خيارات إسرائيل والدول الداعمة لها في بداية الحرب.
والبعض الآخر، ساير العقيدة الاستراتيجية الغربية الجديدة، فصار يسلط الدور على الدور الإيراني، وكأن هذا الدور هو الذي قلب المعادلة رأسا على عقب.
والواقع، أن العنصر الفعال الذي عطل مفاعيل الاستراتيجية الإسرائيلية والأمريكية في المنطقة، هي المعادلة التي أنتجتها فصائل المقاومة الفلسطينية، والتي تقوم على أسبقية «المقاومة» على «المعاش» وتقديم حق الشعب على «ألم الشعب».
التركيب الذي صاغت به المقاومة استراتيجيتها، ينطلق من مبدأ الحق في المقاومة، والقدرة على إيلام العدو، وعدم جعل الكلفة الإنسانية حائلا دون الاستمرار في الحسم الاستراتيجي، والرهان على الزمن وطول النفس، والانغراس في الجمهور، والثقة في احتضانه للمقاومة.
العناصر الكبرى للمشهد، تبين فعالية هذه الاستراتيجية، فالمعاناة الإنسانية، ومسلسل التجويع، حرك المجتمع الإنساني الدولي، وأربك توازنات البيئات السياسية للدول الداعمة لإسرائيل وأحدث إرباكا غير مسبوق في منظومة الدعم الدولي للسياسة الصهيونية، وأعطى المبرر لدول «الطوق» لتعطيل جزء من وظيفتها السابقة. والمقاومة العسكرية الفلسطينية بتكتيكها المراهن على هندسة المعركة الطويلة الأمد، مع تأمين الثغرات والاختراقات التي يمكن أن يدخل منها العدو الإسرائيلي، لم تترك لإسرائيل أي فرصة لإقناع جمهورها ونخبها بتحقيقها لأي هدف من أهداف الحرب، والطريقة التي أدارت بها الفصائل الفلسطينية ورقة الأسرى والمحتجزين، ساعدت في تفجير الداخل الإسرائيلي والتأثير على الجبهة الداخلية، والجواب الإسرائيلي على ذلك، والذي تحول إلى سياسة إبادة جماعية، ساهم في عزل إسرائيل دوليا، وإدانتها أخلاقيا وحقوقيا، في انتظار الإدانة الجنائية.
الاستراتيجية التي انتهجتها المقاومة الفلسطينية، والتي ركزت على البعد المعنوي في الحرب، بدل المادي منه، أنتجت واقعا معقدا، أصبح فيه حل الارتباك الحاصل في البيئات السياسية البعيدة مرتبطا بوقف الحرب الإسرائيلية على غزة، وأصبح فيه وقف الانهيار الحاصل في الجبهة الداخلية الإسرائيلية مرتبطا بالحل نفسه، بل وبأكثر منه، أي إنجاز صفقة تبادل مع حماس، وتقديم كلفة سياسية كبيرة، ستوصف اليوم أو غدا أنها تشكل هزيمة سياسية وعسكرية عميقة لإسرائيل.
المشكلة، أن الوقف الفوري للحرب، لم يعد بيد إسرائيل، بل أصبح بيد المقاومة الفلسطينية التي لحد الآن تمتنع عن قبول أي صفقة لم يرد ضمن مقتضياتها وقف الحرب بشكل دائم، وانسحاب إسرائيل من كل قطاع غزة، وإعادة الأعمار.
الأسبوع الجاري شهد مؤشرين اثنين، الأول، هو نزول الولايات المتحدة الأمريكية بكل ثقلها لتأمين المساعدات الغذائية لقطاع غزة عبر معبر إريتز (ما يكفي لستة أشهر لاستهلاك مليون ونصف فلسطيني من القمح) والثاني، هو كثافة التصريحات بالصفقة المغرية المعروضة، وأن «حماس» لا حق لها أن تضيع هذه الفرصة الثمينة!
هذان المؤشران الهامان، يبينان العلاقة الوثيقة بين الارتباك الذي تعيشه البيئة السياسية الأمريكية (الحراك الطلابي العارم) والذي يهدد على المدى المتوسط الاستقرار السياسي بالبلاد، والنموذج الديمقراطي الذي يحكمها، وبين وقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
في مقال سابق عن الحراك الطلابي في أمريكا، كانت الخلاصة أن السيناريو الأمني سيزيد من تعقيد المشكلة، ويحولها إلى تهديد للاستقرار، وأن هناك سيناريو واحدا عقلانيا لفك هذا الحراك هو وقف الحرب على غزة، وخلاصة هذا المقال، أن عناصر الاستراتيجية المعنوية للمقاومة الفلسطينية، ستجعل سيناريو وقف الحرب، بيدها، ومرتهنا بشروطها، وأن أمريكا وإسرائيل وغيرهما من الدول، ستكون مجبرة اليوم أو غدا من أجل تأمين استقرارها، أن تقبل بشروط المقاومة.
كاتب وباحث مغربي
تتميز تحليلاتكم السياسية بنسق علمي مترابط الزوايا والنظرة الدقيقة للموضوع مما يجعل القارئ يبدل مجهودا للتركيز في كل كلمة وتمحيص المعنى المراد إيصاله ويخلص المتلقي بفكرة عامة يفهم بها مقصود المقال …keep up good work sir
يتغافل الجميع بخبث أو بغباء عن حقيقة ان الصهاينة احتلوا فلسطين بالعنف والقتل والسرقة والاحتيال والمظلومية الكاذبة حينما رفعوا لافتات على السفن التي اقلتهم من أوروبا كتبوا عليها أيها الفلسطينيون افتحوا لنا الأبواب فنحن ضيوفكم وقد هربنا من القتل والبيءات المعادية لنا في أوروبا واتينا لنعيش معكم لأنكم المسلمون كرماء وترحبون بالضيف ثم انقلبوا على أهل البلد الأصليين وفعلوا بهم أشد مما فعل بهم هتلر وبعد ذلك يريد هؤلاء الخبثاء سلب الفلسطينيين حقهم الشرعي والقانوني والانساني بالمقاومة وتحرير بلدهم من هؤلاء المجرمين. لنتخيل للحظة ان الجزائريين يعلنون فرنسا دولة جزائرية أو الهنود يعلنون بريطانيا دولة هندوسية أو المكسيكيين يعلنون أمريكا دولة مكسيكية؟؟؟
كل الاحترام و التقدير للسيد بلال التليدي على هذا التحليل الثاقب لدينا يقين ان ذاك الثقب الاستراتيجي الذي
–
احدتثه حماس و المقاومة بشكل عام قد تحول لفوهة بركان يرمي شرارا لن تتوقف الا حين يكنس آخر صهيوني
–
غاصب من ارض فلسطين تحياتي
بكل الموجبات و الاسباب سيكون التصر ان شاء الله حليف الحق و حليف المقاومة ، اما العدو الصهيوني الأمريكي النازي فليس له الا الهزيمة
كلام مضبوط وعقلاني. تفسير محكم ،دلائل واقعية ،وتوازن في الانعكاسات المحتملة.
شكرا للكاتب المغربي و المفكر المغربي بلال التليدي ..
مقال تحليلي رائع ..