طلب مني صديقي المغترب في بريطانيا، أن ألتقط له صورا لحيه الذي ولد فيه. صباحا، ودون سابق تردد كانت كاميرا هاتفي المحمول تَجُول فضاءات حي «إيزابيل إيبرهارد» العتيق، أتموقع بزوايا مضبوطة لأتمكن من التقاط الصور للواجهات والأزقة، بدقة تعيد إلى صديقي ذاكرة المكان التي انغلقت على صور قديمة للحي علقت بذهنه، ذلك إنه لما رأى الصور علق قائلا: «لو لم تكن أنت الذي التقطتها لظننت أن الحي في مكان قصي لم ير الحضارة بعد»، وهي إشارة إلى اللامبالاة التي تطال الأمكنة من شدة إهمال العناية بها وإهمال ترميمها، فالمكان يرتبط بالروح، وكلما ابتعد عنه الإنسان زمنيا يتأثث ذاتا في الذاكرة.
المكان الروح:
وأنا أتجول بالكاميرا لألتقط صور المكان، كانت ترافقني فكرة «المكان الروح»، ذلك المكان الذي يقترب من الخيال، فالمكان «الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى لامباليا، ذا أبعاد هندسية وحسب»، فما الذي دفع صديقي إلى التجوال في المكان ولو عبر الصورة؟ لا بد أن للشوق المشتعل أثرا في العودة إلى المكان عبر الذاكرة وعبر الوجدان، لا يستطيع صديقي أن ينسى «بيت الطفولة» بتعبير باشلار، أو «البيت الأليف» ذلك الذي تجاوزه الإنسان عبر امتداده في الزمن، لكنه أصر على البقاء فيه وجدانا ووعيا بالمكان. حسب باشلار المكان الهندسي يتحلل عبر الزمن إلى معطيات معنوية تخزَن في الذاكرة فتحتفظ بصورة للمكان الروح، أو «المكان الخيال»، ذلك المكون الذي يتشكل عبر أمنيات الإنسان لمكانه الأول، في أن يكون أفضل مكان على وجه الأرض، لأن «حنينه أبدا لأول منزل»، كما يقول أبو تمام.
نسيت في زحمة الأمكنة صديقي، ورحت أتأمل الأمكنة، وخصوصا تلك الأزقة المتعرجة قليلا والتي تفضي إلى ساحات مغلقة تحيطها أبوابُ بيوتٍ، أو تفضي إلى انفراجات متسعة لباب أو بابين. قفزت إلى تفكيري أزقة المدن على الطراز الأندلسي، التي عادة ما كان المهندس يبنيها على عرض يسمح بمرور حمار بشواله، ولكني تساءلت هل هذا ما كان يهم البناء وهو يقيم تُحفا جمالية إلى درجة – وكما أخبرني أحد الباحثين في الهندسة المعمارية – أن واجهات المنازل كانت تُشيد وفق رغبة الجار لا صاحب الدار، لأن الجار هو الذي تُفتح عيناه على الواجهة المقابلة، ولهذا هو من يهمه أمر الجمالية، التي ستكون عليها، وهذه الجزئية جد مهمة بالنسبة لمعرفة أحوال الاجتماع في الأندلس الضائعة، معنى أن يشترك الناس أو الساكنة الذين يجمعهم حي واحد في اقتراحات واجهات المنازل، أن العلاقات الاجتماعية كانت مبنية على أسس جمالية بالدرجة الأولى، ومن ثمة كانت الفكرة تحقق المعنى في الجيرة، وفق أسس عقدية، فالجار قبل الدار، كما يقال، وكاد الجار أن يرث جاره من شدة ما أوصى به الرسول عليه الصلاة والسلام، وتلك جمالية أخرى أن يتحول النص إلى سلوك.
ففكرة الزقاق الضيق لا تستجيب فقط للحيوان العابر، وإن كان ذلك عنصرا مهما في ما سوف يترتب عليه فكريا وروحيا، فالمهندس أو البناء العربي، كان يرتكز في رؤيته على معيار الروح، وأن الأشياء في تفكيره تحمل صفة الكائن الحي، ولهذا كان الناس هناك يحافظون على الأمكنة.
المكان السماوي:
نعيش الأمكنة، وننحاز إلى رؤيتها ليس كما هي، بل كما تبدو لنا، لأنه من فرط محبتنا لها، أصبحت جزءا من كياننا الإنساني، أي إنها أخذت من الوعاء الإنساني روحه، وبالتالي فكما تتكاثر الصور والإيحاءات للروح ولا نستطيع القبض على حقيقتها، فكذلك الأمكنة تنفلت من التحديد الهندسي الذي يضبط شكلها لترتبط بما هو ذات، «خيال» بتعبير باشلار، عندما يتحدث عن المكان الهندسي، «فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط، بل بكل ما في الخيال من تحيز»، فكرة العيش لا تعني فقط الوجود في المكان، إنها أيضا تأمل المكان، وهو العنصر الذي يساهم في تخييله، ومن هنا كان البناء/المهندس العربي مسكونا بفكرة ربط المكان المادي بالمكان الروحي/الغيبي، فاستفاد من صورة «القوس» و«العمود» لدى الأمم من قبله، حيث تذهب بعض الدراسات التاريخية إلى أن أصلهما يعود إلى بلاد ما بين النهرين، واستلهم منهما عمقها الروحي، فجعل من القوس الذي يرمز إلى القبة السماوية دلالة على تحول النظر من الأرض إلى السماء، أي إن القوس لديه صار يمثل المعنى في الإنسان ذي البعدين الروحي والمادي، ولعل منبر المسجد الذي عادة ما يُبنى لأجل تحديد القبلة، يزين واجهته قوس أو اثنان، والاتجاه يعني الرحلة الروحية نحو عالم الغيب، الذي يحرك التاريخ في الوعي الديني، وبذلك انتشرت الأقواس في الحضارة العربية، كتأكيد على هذا الاستمرار للغيب الروحي في التاريخ الواقعي.
أيضا عندما ترفع الأعمدة الأقواس، التي عادة ما تكثر في المساجد، فمعنى ذلك أن المسلم يعبر عن عجزه أمام القدرة الإلهية الوحيدة التي ترفع السماء بلا عمد، وهو ما يكشف عمق الروحانيات المعمارية التي ينطلق منها البناء المسلم ليؤكد استمرارية الروح في المكان أو ما يسميه الأنثروبولوجي الجزائري عبد الرحمن موساوي بـ«جغرافية المقدس».
عبد الحفيظ مثقف إنساني…خلوق وطيب
أين المقالة الأسبوعية لإلياس خوري في القدس العربي؟ هل هو بخير؟ فهو قد كتب عن اصابته بمرض موجّع الأسبوع المنصرم…؟
تحياتي أستاذ بادر