المكان وتشكلاته في السرد العربي

يعد المكان في الرواية والقصة العربية تحديا، فالفن الروائي إجمالا ابتدع ليعبر عن المجتمع في المدينة، وليس الريف أو القرية، وقد ترعرع هذا الإبداع وازدهر بالتوازي مع نشأة المدن الكبيرة، كون الرواية فنا يقرأ، مثلما ارتبط بحصول المرأة على قدر من الحرية الاجتماعية والتعليم، خاصة حق الحب والعمل اللذين يتيحان قيام منظومة من العلاقات تسمح بنسيج فني متعدد الألوان، فيه من عناصر الكشف والتشويق ما يغري بالاستزادة، يذكر محمد حسن عبدالله، في كتابه «الريف في الرواية العربية» أن المدينة هي من تصنع الرواية وهي المستهلك لها، لكن هذا لم يمنع من أن يتنفس بعض الروايات المبكرة في الريف، خاصة في العصر الرومانسي الذي رفع شعار (العيش على وفاق مع الطبيعة).
ليست مصادفة أن تكون الروايات العربية الأولى رومانسية، وتجري أهم أحداثها في الريف، لكن يمكننا القول إن الرواية الفنية لم تحقق صلابتها كشكل أدبي نثري له أصوله الجمالية المستقلة أو المميزة له، إلا مع عصر الواقعية، حيث تمكنت أصول الجمال واشتغالاته المميزة، أن تضفي على هذا الطابع أو النمط السردي من الكتابة واقتحمت قضايا مجتمع المدينة المعقد بصراعاته الطبقية وتطلعاته.

الرواية في أوروبا

يرى آخرون أن التخلص من أحكام جاهزة يمدنا بها تاريخ الأدب الروائي في أوروبا، مقرونة بالنماذج العظيمة التي أبدعت هناك، هذا التخلص يعد خطة أولى واجبة في الموقف النقدي للباحث العربي، حتى مع التسليم (وهو مجرد افتراض عام قد لا يصدق دائما أو غالبا بأن كتاب الرواية والقصة عندنا ساروا في ركاب الأوروبيين، أو تأثروا بأحكام الدارسين هناك، والقليل الذي يمكن أن يثار أو قد أثير حول (تس) و(زينب) أو عن علاقة (فونتمارا) بأرض الشرقاوي.
من ثمرات هذا التخلص الامتداد والتنوع والابتكار، الذي يفترض أن تتميز فيه الرواية العربية، واحتفاؤها بالريف ومجتمع القرية، بحيث استطاع الكاتب العربي، أكثر من أدباء في مناطق أخرى من العالم، أن يتخذ من الريف بيئة، متجاوزا المألوف من نظرة رومانسية أو واقعية إلى الرؤية الفلسفية وأحلام المدينة الفاضلة، وتصوير الكفاح الوطني، بل حتى النضال الإنساني في سبيل بناء الحضارة، واستخلاص وجوده الذاتي الذي كاد أن يفقده في زحمة ما بناه، فليس القرية إذن في الروايات العربية عبارة عن بلاد الفلاحين أو الحياة في الإقليم، أو ما يقابل المدينة الكبيرة، هذا تبسيط مخل ينفيه البحث الشامل في الظاهرة الفنية، كما ذهب لذلك محمد حسن عبدالله. من ناحية أخرى جرى عرف دارسي الأدب القصصي خاصة، على تفعيل دراسته حسب مقتضيات المكان، والأخذ بالمنهج الإقليمي، فهناك القصة العراقية والقصة السورية وفن القصة القصيرة في مصر وهكذا، حيث انعكست طبائع تلك الأقاليم بوضوح على الفن القصصي بنوعيه الرواية والقصة القصيرة، أكثر مما انعكس على شكل آخر من أشكال التعبير.

احتراق المراحل

لم تكن المذاهب الشهيرة الرومانسية، والواقعية النقدية، والواقعية الاشتراكية، والرمزية، جعلت مسالك التعبير الأدبي في حياة السارد العربي مثلما فعلت ذلك في أوروبا، فإن العربي ليست لديه مرحلة معينة رومانسية أو واقعية خالصة، بالقدر نفسه الذي يصدق به هذا الحكم على كاتب ما، أو رواية ما، فبين أشد أدبائنا واقعية، ستجد عملا مغايرا، وكذلك في الإطار الفني الواحد، ولعل ذلك بمثابة تقديم لصدق الحياة، كما يرى أدباء ونقاد القرن العشرين. ويرى محمد حسن عبدالله في مؤلفه سابق الذكر، أن هناك تداخلا في التقسيم المذهبي، حتى أننا نجد رواية رومانسية، كما سنرى رواية واقعية صريحة ألفت منذ أربعين عاما مثل «الرغيف» لتوفيق يوسف عام 1939 أو «اليد والأرض والماء» لذي النون أيوب عام 1982 من العراق، وكان الفن الروائي في هذين البلدين لا يزال في بداياته. وهاتان الروايتان دون سابق من تراث خاص.

الرومانسية والريف

بين التعاطف والعاطفة التي تعني الانفعال، بينما التعاطف موقف قد يكون تعبيرا عن الرضا، أو عن الأسى، وبين الرضا وما يستدعي من الإحساس بالجمال والتناغم مع الطبيعة والحياة، والشعور بالعطف على الضعف ومداراة القبح وغفران الخطأ، أو الخطيئة تولد الرومانسية. وقد نضجت فكرة الرومانسية على المستوى العربي وتحققت في رواية «زينب» غير أن الرابط بين الفن القصصي والواقعية قوية جدا، وأكثر النتاج الروائي والقصصي بشكل عام له تأثير عميق في وجدان القارئ، ما أبدع في ضوء الوعي الواقعي، فهناك بديهية التلازم، فالفن الروائي اكتسب نضجه من عصر الواقعية وبدوافع منهجها وفلسفتها، بينما الرومانسية تمجد الماضي القومي من خلال رموزه، أو هي قصة حب عذري، كما وصفها يان وات.. «إن هذا الحب البطولي الطاهر هو الذي يساعد على إعداد البداية والنهاية التقليدية، في حين تبقى متعه السرد الرئيسية كامنة في العوائق التي يتغلب عليها النبيل من أجل سيدته، وليس في تطور علاقة الحب نفسها». ولعل رواية «ماذا بعد» لسلافة الأسعد في العصر الحديث، خير مثال على الرواية الرومانسية، التي تتماهى مع الرواية القديمة من حيث وحدة الموضوع، لكنها كتبت بإسلوب شعري مميز. كما تطرق السارد العربي لظلم الإقطاع وسيطرة البيروقراطية في مفاصل البلاد العربية، بغياب النظام الديمقراطي، وعلى استبداد الاغنياء وظلمهم للطبقات العاملة الفقيرة واستغلالهم أبشع استغلال، ويمكن للمتلقي أن يستنفر ذاكرته ويتعاطى مع تلك الادبيات الكثيرة، سردا وشعرا، والأمثلة في هذا المجال لا تحصى.

المكان والثورة

بقي الريف العربي مكانا ملائما لقيام الانتفاضات والثورات في كل البلدان، لاسيما العراق وفلسطين ومصر، وكل الدول التي اشتهرت وترعرت فيها كتابة القصة والرواية، وللمكان أهمية قصوى في استلهام القيام وتجاوز المنظومات الثقافية، في توجيه الثورة وتسديدها بغية الحلم بمدينة فاضلة ولا ننسى دور البادية مع القرية، مثلما نضجّت المدن تلك النظرة، وقدمتها للعالم على شكل أدب سردي. تبقى فلسطين بوصلة العربي وهدفه، وأرض فلسطين بكل بيئاتها بؤر للثورة والانتفاضة من أجل الأرض، التي هي سر الإنسان ومكنون وجوده في الأوطان، لا تنشأ ولا تسترد إلا بالأرض تلك الأرض التي منها خلق الإنسان. وقد قدم الأدب الفلسطيني نموذجا رائعا لهذا الأدب، سواء في القصص أو الرواية الفلسطينية، وإن كانت مهاجرة وفي قصائد شعراء الثورة الفلسطينية. وفي العراق قدم الأدباء أعمالا في ثورة العشرين وبعدها، وإبان حرب تحرير فلسطين، أو الحرب العراقية الايرانية وحرب الخليج الأولى والثانية، وإن كانت خجولة عن الحربين الأخيرتين.

الريف والمدينة

كان بينهما تضاد وهوة واسعة، لا يسهل العبور فوقها لأنها ترتكز على ميراث طويل من العزلة والاستعلاء، وبقيت تلك النظرة إلى يومنا هذا رغم أن أدباء المدن يكتبون عن الريف، أو هم من أصول ريفية، لكن نكران الجذور علة يعاني منها العربي منذ البداية. أما البداية فهي امتداد للريف العربي، وتتشابه القيم الموضوعية لهذين المجتمعين إلى حد بعيد، في حين أثرت الغزوات والاحتلالات في المدن، وغيّرت من طبيعتها الأصلية التي كانت ريفية أو بدوية، إن صح التعبير.
لقد قدم حامد فاضل الروائي العراقي، أدب البادية بأبهى صورة، وقدم للمتلقي في «ما ترويه الشمس يرويه القمر» نموذجا للأدب في البادية، لكنه في رواية «المدينة في علبة» تجاهل تماما دور الريف والقرية في الثورة، بل اعتمد خطابا اشتراكيا مؤدلجا.

الخلاصة

تكتمل زوايا الرؤية للمكان بمجمله لدى الكاتب، دون الإحاطة بما يراه المتلقي الواعي أو الناقد المتمرس، فهناك ظروف تحضر في فن الكتابة تعتمدا أساسا على نشأة الكاتب وثقافته وتوجهه السياسي، كما لا ننسى أن لظروف الكاتب دورا أساسا في رسم الخطوط الأساسية للعمل الأدبي، أكثر الكتاب هم من طبقات متوسطة الدخل، أو غنية ومن أسر أرستقراطية على عكس الشعر، فدائما ينشده الفقراء وأصحاب الفاقة، على العموم الأرض في كل الأمم تبقى هدف الأديب، وحتى الإنسان البسيط يتمسك بالأرض ويعتبرها جذوره الأولى، فلذا تكون حاضرة في وجدانه، بمعنى عمله الإبداعي بأنواعه. أما المذاهب التي ظهرت في أوروبا تباعا فهي تتماشى مع التطور الحاصل في الشخصية الأدبية، أو في العالم وستظهر مذاهب أخرى، لكنها جميعا لا تعضل قيمة المكان وإن كانت زمكانية في العصر الحديث، كما هي الحال في الرواية الأمريكية، أما في الشرق، سواء كان في الصين أو روسيا فالنمط المتعارف من الروايات يتماهى مع ثورة تلك الشعوب، بل سددت تلك الثورات وحددت مساراتها بشكل منقطع النظير، أما المفاجأة فكانت في الأمريكتين، لاسيما اللاتينية فقد قدم أدبا ناضجا وعالميا وأدبا شفافا لامس حياة المجتمعات مثل ماركيز، في حين ساير الأدب العربي الحضارات الأخرى، ومهما يكن العمل الذي قدمه الأدباء العرب، لكنه ظل مسايرا للمدارس الأخرى، ومقلدا لها بعدما غادر الجميع الرومانسية والواقعية النقدية.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية