محمد علي
أصيب عالم الملاكمة بصدمة حقيقية عندما أعلنت وفاة بطل الملاكمة الأيرلندي جون كروني، بعد الإصابة البالغة التي تلقاها أثناء دفاعه عن لقب وزن الريشة يوم الأول من شباط/ فبراير من هذا العام. وبقي الملاكم في المستشفى لمدة أسبوع قبل أن يفارق الحياة. وبذلك يصبح عدد الملاكمين الذين توفوا نتيجة أصابة أثناء النزال ستة خلال أثني عشر شهرا. ويعد هذا انخفاضا طفيفا في عدد المتوفين من الملاكمين لأن المعدل السنوي هو، عشر وفيات على الرغم من ظن الخبراء أن العدد الحقيقي أكثر من ذلك، لعدم دقة الإحصائيات.
السبب الرئيسي للوفاة في مثل هذه الحالة هو انفجار الأوعية الدموية في الدماغ القريبة من الجمجمة، أو تجمع الماء في الدماغ. ولكن هذا الحادثة لا تمثل الخطر الوحيد لهذه الرياضة، التي تسمى الفن النبيل، لأن الخطر الأكثر فداحة هو التأثير التدريجي للكمات المتتالية التي يتلقاها الملاكم، خلال مسيرته الرياضية، حيث يصاب الملاكم بارتجاج في المخ نتيجة العدد الكبير للكمات ما يسبب أضرارا متراكمة تظهر نتيجتها بعد سنوات، على الرغم من أن الأعراض قد تبدأ بالظهور مبكرا أحيانا. ولهذا السبب هنالك بعض الملاكمين الذين فقدوا القدرة على الكلام، قبل ان يتجاوزوا الثلاثين من العمر. وقد أقر العلماء بأن الكثير من الملاكمين يصابون بمرض الزهايمر، وأمراض خرف أخرى عند تقدمهم بالسن، لاسيما مرض معين أكثر انتشارا من بقية الأمراض التي تسببها رياضة الملاكمة، إذ يصاب عشرين في المئة من الملاكمين بمرض عقلي يسمى باللغة الإنكليزية «سي تي أي» CTE الذي من أعراضه التلعثم في الكلام، والكآبة الحادة ونوبات غضب ومشاكل في الذاكرة، وعدم القابلية على اتخاذ القرارات. وقد أصبح هذا المرض ظاهرة مقلقة للعلماء لاسيما أنهم لا يملكون علاجا له. وسبب المرض تراكم لنوع من البروتينات يدعى «تاو» حول الأوعية الدموية في مناطق محددة من الدماغ، ما يؤثر بشكل كبير على عمله. وعانى أبطال ملاكمة شهيرون من مشاكل صحية خطيرة بسبب الملاكمة مثل محمد علي (ألغى لقب كلاي عندما اعتنق الإسلام) وجيري كواري وجو لويس وشوغر رَي روبنسن، وكثيرين غيرهم.
سلفستر ستالون
صاحب دخول المرأة عالم الملاكمة مؤخرا، اكتشاف غريب من قبل العلماء، فقد تم التأكد أن دماغ المرأة أكثر حساسية من دماغ الرجل تجاه الأمراض العقلية التي تسببها الملاكمة، خاصة هذا المرض، أي «سي تي أي»، إذ من السهل أن تصاب بارتجاج الدماغ، لاسيما هذا المرض، كما لاحظ العلماء أن المرأة المصابة بارتجاج الدماغ تمكث في المستشفى لفترة أطول من الرجل، مما يمنعها من الدراسة أو العمل أو متابعة حياتها اليومية. ولم يستطع الطب الحديث تحديد سبب كون المرأة بهذه الحساسية حتى الآن. واكتشف العلماء كذلك أن تأثير الملاكمة الضار أكثر تدميرا لأدمغة الأطفال والمراهقين، نظرا لكون أدمغتهم مالاتزال في حالة نمو. ويثير هذا قلقا حقيقيا نظرا لممارسة المراهقين وحتى الأطفال رياضة الملاكمة في المدارس والأندية الرياضية.
شعبية الملاكمة
إن شعبية الملاكمة جزء من أعجاب الإنسان بمشاهدة العنف بشكل عام، حيث أنه يستمتع بمشاهدتها بشكل واضح، لأنها تثير غريزة وحشية وحيوانية في الطبيعة البشرية، دون أن تؤثر عليه، أي مهما كان سبب القتال الذي يشاهده ونتيجته، فإن المشاهد لن يتضرر على الإطلاق. وتكون الإثارة التي تنتاب المشاهد أحيانا مرتفعة إلى درجة خطيرة من الانفعال تجعله عنيفا بطريقة هستيرية. وهناك مثال غريب من بريطانيا، حيث صاحب تناقص عدد مرتادي الكنائس في بداية التسعينيات إلى تحول بعض الكنائس إلى مبان مهجورة. واستغلت العصابات الإجرامية هذه الحالة، حيث أخذت تنظم نزالات قتال غير قانونية تسمى «قتال القبضة العارية» Bear Knuckle Fight في هذه الكنائس المهجورة، حيث يدخل رجلان في قتال متوحش دون أي ضوابط بحضور عدد كبير من المشجعين، الذين يراهنون على المقاتلين ويزداد حماس الجمهور مع استمرار القتال، حتى يصل إلى درجة أن المشجعين يبدؤون بالقتال بانفسهم ضد بعضهم بعضا كالمجانين. ومن الملاحظ أن الحكومات تشجع الملاكمة بشكل غير مباشر لخلق أبطال وإثبات أن رجالهم أكثر شدة وخشونة من رجال الدول الأخرى، كما يطلق الناس لغرورهم العنان عندما يشتهر ملاكم منهم عالميا، وكأن كل مواطن منهم ذلك البطل. وأطلق الإعلام على الملاكمة اسم «الفن النبيل».
دور الإعلام
لا يمكن تجاهل دور الإعلام في تشجيع العنف في جميع أنحاء العالم، فمجلات الأطفال مثل «سوبرمان» و»الوطواط» مليئة بالعنف، ما يشجع الأطفال على هذا وربطه بالبروز في المجتمع، مثيرين إعجاب الجميع. أما السينما التي يعدها الجميع نشاطا ثقافيا مهما، فالعنف البدائي والمتوحش يعد عاملا مهما فيها، بل إن الملاكمة تعد موضوعا بالغ الأهمية في النشاط السينمائي. وقد اكتشفت شركات السينما مبكرا مدى قابلية هذه الرياضة في إثارة الإعجاب السادي لدى الجمهور، ما يعني تحقيق أرباح أكبر ولتذهب مصلحة المجتمع إلى الجحيم، فقد عرض أول فيلم عن الملاكمة بالذات عام 1894 عندما كانت السينما صامتة. وتوالت الأفلام حتى بلغ عددها مئتين وثمانية وأربعين فيلما حتى الآن، وظهر فيها أغلب مشاهير السينما مثل بول نيومان ومارلون براندو وروبرت دي نيرو وروك هدسن ورسل كرو ومارك وولبرغ وجيمس كاغني وتشارلي تشابلن والممثلة هيلاري سوانك، وطبعا سلفستر ستالون الذي مثل الشخصية نفسها تسع مرات. ومن الجدير بالذكر أن فيلمه الأول «روكي» Rocky (1976) كان مقتبسا من فيلم سابق للنجم بول نيومان، وحتى في طريقة تمثيل الشخصية. والسمة المشتركة لهذه الأفلام أن الملاكمة تعلم الإنسان، لاسيما المراهقين، الانضباط والثقة بالنفس وتجنبهم الدخول في عالم الإجرام. وفي كل فيلم في نهاية المطاف ينتصر البطل ويحصل على الشهرة والمال والفتاة. وكل هذا بعيد عن الواقع. والغريب في الأمر أن المشاهدين يتابعون نزالات الملاكمة السينمائية، وكأنهم يشاهدون تلك الحقيقية، فالعقل البشري يفتقد إلى القابلية الفطرية على التمييز بين الواقع والخيال. وللمرأة حصة في هذا، ففيلم «طفلة المليون دولار» Million Dollar Baby يمثل تشجيعا للنساء لدخول هذه الرياضة.
المعارضة ضد الملاكمة
على الرغم من الشعبية الهائلة الحجم لرياضة الملاكمة في جميع أنحاء العالم، فهناك الكثير من المنظمات الطبية العريقة في الولايات المتحدة وأوروبا التي تطالب بمنع هذه الرياضة العنيفة للأضرار الكبيرة التي تلحقها بصحة من يمارسها. وقد يقول البعض إن هنالك أنواعا أخرى من الرياضة العنيفة للدفاع عن الملاكمة إلا أنهم يرفضون الاعتراف بأن أساس الملاكمة محاولة كل من الملاكمين في النزال إلحاق أقصى حد، والضرر بغريمه على الحلبة. وإذا قام الملاكمان في الشارع بما يقومان به على الحلبة لألقي بكل منهما في السجن لعدة أشهر أو أكثر. وإذا يظن المرء أن هنالك من يفوز بالبطولات، فعليه إدراك أن البطل شخص واحد فحسب، بينما يختفي العدد الكبير من الملاكمين الآخرين ويضيع مستقبلهم. وقد استغل الكثير من العصابات الإجرامية هذه الرياضة للتلاعب بنتائجها والاستفادة من المراهنات. وقد تم التشكيك بالكثير من النزالات الشهيرة مثل نزال محمد علي وسوني لستن، وحامت الشبهات حول احتمال تدخل عصابات المافيا في نتيجته. وهنالك طرق عديدة من الاحتيال للتلاعب بنتائج نزالات الملاكمة لكسب أكبر كمية من الأرباح المادية.
في نهاية المطاف يتساءل المرء ألم يحن وقت منع هذه الرياضة السادية التي لا تليق بأي مجتمع متحضر. وقد استعملت الملاكمة في هذا المقال كمثال، فهناك بعض أنواع الرياضة التي ليست أقل وحشية وضررا من الملاكمة وتعتمد على المبدأ نفسه، مثل فنون القتال المختلطة وكرة القدم الأمريكية.
باحث ومؤرخ من العراق
الملاكمة هي الرياضة القاتلة وليس الفن النبيل.