أثارت المواقف التركية، أخيرا، تجاه العلاقة مع نظام الأسد في سوريا، المزيد من ردات الفعل في المناطق المحررة من سلطة الأسد،
في خطوة اعتُبرت انقلابا شاملا في موقف أنقرة من نظام الأسد، وسط حديث عن مصالحة بين تركيا ونظام الأسد، بدفع من كل من روسيا وإيران. والثورة السورية كفعل تاريخي؛ هي خط فاصل بين ما قبل وما بعد، وبما أنها كذلك، والشواهد كثيرة تاريخيا، فوجب أن يُجب فعل ما قبل الثورة وينسف، حتى لا يختلط أديم ما بعد الثورة، المعمد بدماء الشهداء، بطغيان الأسد الذي ما قامت الثورة إلا بسببه، وكنتيجة لواقع مرير ضد إرادة الشعب.
اندلاع الثورة السورية
عقد من الزمن انقضى على اندلاع الثورة السورية وما زال مستقبل البلاد مجهولا، في ظل انسداد آفاق المسار السياسي، وبعد قيام الثورة بأكثر من عام، عقد في حزيران/يونيو 2012، مؤتمر جنيف1 الذي شهد اتفاقا بين مجموعة عمل مؤلفة من الولايات المتحدة والصين وروسيا وفرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا وتركيا وجامعة الدول العربية على مبادئ مرحلة انتقالية، لكن دون أن يتم تطبيق ذلك، وفي شباط/فبراير 2014، انتهى مؤتمر جنيف2 إلى الفشل بعد عدم توصل المعارضة ونظام الأسد إلى أي تقدم يذكر، وتوالت من بعد ذلك المؤتمرات حتى مؤتمر جنيف8 الذي عقد في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، والوضع على حاله.
ثم اتفقت تركيا وروسيا وإيران على إطلاق مسار جديد في العاصمة الكازاخستانية أستانا، وعقدت الجولة الأولى من هذا المسار 2017، وأفضى المسار فيما بعد إلى اتفاق على مناطق “خفض التصعيد” لم تلتزم روسيا بكثير من بنوده، وواصلت فرض الحل بطريقتها العسكرية، ومن بعد ذلك، أعلنت الأمم المتحدة في أيار/مايو 2018، عن تشكيل لجنة دستورية سورية، تضم ممثلين عن كل من نظام الأسد والمعارضة والمجتمع المدني؛ بهدف مراجعة الدستور بهدف التوصل لحل سياسي ينهي النزاع العسكري المستمر، ولم تثمر جولات من اجتماعاتها المتعددة.
إن التسويات والمصالحات السياسية قدر الحروب وخاتمتها المتوقعة والطبيعية، وطاولة المفاوضات هي معركة المنهزم الأخيرة، في أي حرب طوال التاريخ، لكن الثورة السورية كانت ثورة تحول شامل من نمط الاستبداد إلى مسلك أخلاقي يحفظ فيه المجتمع السوري حقه في الحكم والحرية والكرامة، ورد نظام الأسد على سلميتها بالنار والبارود، وهذه التسوية التي تطرح على الشعب المقتول والمهجر والذي دفع الآلاف من الشهداء والمعتقلين والمهجرين أصبح مجرد ورقة سياسية، تستخدمها الدول الفاعلة في الشأن السوري، وتسعى هذه الدول إلى “تسوية وضعه” تحت مسمى تسوية ومصالحة وحوار، ولكنه في الحقيقة إعلان الاستسلام، وهذا ما تصنعه كواليس السياسة دائما، وهذا الكواليس هي ما بات يخشاه الشعب الثائر كثيرا، فخلال سنوات الثورة السورية أطلق نظام الأسد مصطلح “تسوية الوضع” وهو إجراء يتم من خلاله التدقيق في كافة الأعمال التي مارسها شخص ما ضد نظام الأسد ثم منحه إعفاء عنها ليعود إلى حياته الطبيعية، وهذه الأعمال في عرف سلطات الأسد الأمنية تشمل كافة الأنشطة السلمية كالتظاهر والاحتجاج والتعبير عن الرأي وصولا إلى حمل السلاح لرد ظلمه وطغيانه، وهي أنشطة انخرط فيها الآلاف من السوريين من مختلف المدن والمحافظات على مدار السنوات الفائتة، وازدادت وتيرة تسوية الوضع بشكل كبير في السنوات الأخيرة مع بداية عقد الهدن بين نظامه والمناطق الخارجة عن سيطرته، حيث تمكن الآلاف من تسوية وضعهم والحصول على ورقة تضمن لهم حرية الانتقال ضمن مناطق سيطرة النظام وعدم ملاحقتهم أمنيا، الأمر الذي لم يكن مضمونا بأي حال على الدوام، وامتد نطاق التسوية ليشمل حتى المقيمين خارج سوريا، حيث تنشر وزارة الخارجية والمغتربين السورية على موقعها عبر الإنترنت وفي صفحة مخصصة بعنوان “تسوية وضع” أنه “حرصا على معالجة أوضاع السوريين الذين غادروا القطر بطريقة غير مشروعة بسبب الظروف الراهنة، ورغبة من القيادة بتشجيع المواطنين ولا سيما المكلفين بالعودة إلى الوطن وتسوية أوضاعهم التجنيدية والأمنية بغض النظر عن الظروف التي اضطرتهم للمغادرة فإنه يمكن للمواطنين أعلاه مراجعة السفارة السورية في بلد الإقامة أو أقرب سفارة سورية، وذلك لتقديم طلبات تسوية أوضاعهم لديها”.
مصطلح التسوية السلمية
يحمل مصطلح التسوية السلمية معنى محاولة فض النـزاع بين طرفين أو أكثر حول القضية مثار الخلاف عليها بالطرق السلمية، وعادة ما تتم بقبول الأطراف لحل متفق عليه، ويلتزمون بتنفيذه، بناء على اتفاقية محددة، وليس شرطا أن تكون التسوية عادلة، إذ إنها تعكس في كثير من الأحيان موازين القوى، وحالات الانتصار والهزيمة، والضغوط الداخلية والخارجية. وقد تلجأ إليها القوى الفاعلة من أجل فرض تسويات جديدة تعكس تغير موازين القوى.
وعندما يطرح هذا المصطلح بالشأن السوري سيكون على حساب الشعب الثائر، إذ إن معظم مشاريع التسوية تكون عادة بين دول مختلفة متحاربة، أو بين أطراف داخلية متنازعة من أبناء الوطن الواحد، أما المعاهدات التي تفرضها القوى الخارجية، فهي تسوية بين حاكم مستبد وشعب مقهور، وهي تعكس حالة استسلام من الطرف الضعيف إلى الطرف الأقوى.
وبين خياري الحسم الثوري والتسوية السياسية، تتأرجح المرحلة النضالية الراهنة من عمر الثورة السورية، وفي الواقع، لم يكن خيار التسوية غائبا في يوميات الثورة، إذ ظل احتمالا وارد الحدوث وتحديدا بعد تحول الثورة السورية إلى ساحة صراع بين الدول الفاعلة في الشأن السوري، وحرص كل طرف من أطراف الصراع على أن يحافظ على بقاء عدوه، لأن بقاء عدوه هو تبرير كاف لسبب وجوده العسكري وضمان لاستمرار بقائه، وشرعنة لقيام كياناته الطائفية أو المذهبية أو المناطقية، ويوفر البيئة المناسبة لاتساع شعبيته وقدرته على التحشيد ويتيح له إيجاد المسوغات لقدرته على جعل البلاد سوقا لتصريف منتجاته وممارسة تجارته، وأخذ نصيبه من حصة إعادة الإعمار وضرورة ملحة له من أجل نجاح مشروعه السياسي فوق الأرض السورية.
وعليه فإن سقوط هذا العدو يعني انتهاء كل مبررات وأسباب وجود هذا الطرف أو الكيان بل ويعني انهيار كافة الروابط والأواصر الجمعية التي وحدها وجود هذا العدو.
الحسم السلمي
فكما أن خيار الحسم السلمي أو العسكري يبدو عصياً على التحقق كنتاج لتشبث الأسد بالسلطة، كذلك يبدو الأمر مع خيار التسوية الذي ظل إنجازه محل استعصاء مماثل لذات التعليل وتعليلات أخرى، وفق متغيرات الواقع تتفاوت درجات الحضور والانكفاء بالنسبة للخيارين، غير أنهما مؤخرا أخذا يتقاسمان درجة الحضور ذاتها..!
ولكن فكرة التسوية التي لازالت حاضرة بالتوازي وذلك رغم فشل المؤتمرات واللجنة الدستورية، وثمة من بات يرى في التسوية المستعصية خيارا مثاليا ومحاولة لتخليق قناعات عند المعارضة السورية بعدم جدوى فكرة الحسم الثوري واستحالة انتاجها دون كلفة باهظة من التضحيات، ويسوق أنصار فكرة التسوية أنماطا شتى من التعليلات لتبريرها، وتارة يستعذبون العزف على وتر المخاوف من خيار الحسم العسكري، غير أنهم يجانبون الخوض في تفاصيل التسوية وسيناريوهاتها حتى لا يبرزوا كمدافعين عن بقاء الأسد، في حين لا يقبل الشعب السوري الثائر إبرام أي تسوية لا تحقق الحد الأدنى من تطلعاته ويدرك الشعب أن التسوية المطروحة تجسد بقاء الأسد وإسقاط لرمزية الثورة والتفافا على غاياتها.
نظام الأسد المستبد يتكلم كثيرا في السياسة والدولة والقانون والوطنية، وأشغل السوريين طوال سنوات حكمه بالمقاومة والشعارات الصاخبة، لكنه عمليا عبث بالحياة السياسية في سوريا وهشمها وبدد موارد البلاد وفكك الدولة، والمستبد لا يعرف منطق التسويات وسلطانه الأمنية تطالب الشعب “بتسوية وضع” ولا يلجأ للحوار، والسياسة عند النظام المستبد مهنة من لا مهنة له، أما الشعب ونخبه في كافة المجالات، فلا حضور لهم في بناء الدولة وإدارتها، وإن حضروا لا يمتلكون سلطة اتخاذِ قرار، ويظل دورهم هامشيا، يضعهم المستبد حيثما يشاء فيما يشبه الديكور لسلطته، وعلى مدار سنوات حكمه استثمر نظام الأسد بالهوية السورية من خلال المناطقية والطائفية والعرق والدين، وجعل من نفسه حامي لتلك الهويات، ولكنه في الحقيقة استعدى بعضها ضد البعض في الوطن الواحد، بإذكاء الضغائن والأحقاد، واختزل نظام الأسد المجتمع بشخصه، واحتكر كل شيء بيده لا قرارَ خارجَ قراراته، ولنظامه بنية هرمية خاصة تنتج نمط علاقات تسلطية في العائلة والقبيلة والحزب والجماعة والمؤسسة مثلما تنتجه هي أيضا.
منطق التسوية السياسية غائب لدى نظام الأسد فهو إما أن يربح كل شيء أو أن يخسر كل شيء، وذلك لغياب المضمون العقلاني للسياسة عنده. إن الذي يحصل في سوريا ومنذ انطلاق الثورة هو بعيد كل البُعد عن السياسة وارتباطاتها بمفهوم الصالح العام، والأعراف السياسية التي تأسست عليها العملية السياسية لم تكن التسويات السياسية حاضرة فيها، بل كانت التسويات تجري برعاية خارجية ولم تكن تعبر عن إرادة الشعب الثائر في الداخل السوري، وطيلة السنوات الماضية لم تفرق المعارضة ونظام الأسد بين التسويات السياسية وبين الابتزاز السياسي، وتحول سلوكهم لنظام الصفقات المرتهنة للخارج، وفي منظومة الاستبداد تنشأ معارضة ضعيفة.
٭ كاتب سوري