«الموت يدخن أيضاً» مجموعة الشاعرة اللبنانية ماري جليل: المفارقة الزمنية وتأسيس الموت المغاير

عادل ضرغام
حجم الخط
0

تتجلى شعرية ديوان «الموت يدخن أيضا» للشاعرة اللبنانية ماري عبدالجليل في منطقة غائرة بعيدة داخل الذات التي لا تكفّ عن البحث عن انسجامها المفقود، من خلال الحلم وصناعة العوالم التي تكمل النقصان الحادث. والنصوص تنتهج التأمل الهادئ والمراقبة المستمرة للذات في تجذّرها داخل سياق عام يكيّف حركتها ويوجهها، ويكسبها مساحة من الانعزال لتستلقي داخل عالم لا تقاومه، ولا تستسلم له في الآن ذاته، لأن ارتباطها به فقد كل موجبات الصراع. والذات الشاعرة في نصوص الديوان بهذا الانسحاب المفروض أو المختار، لا تتوقف عن مراقبة واستحضار وتشكيل العوالم البديلة الأخرى، وتدمجها في إطار لا ينفصل عن الإنسان، بل تعطي له وجودا أعلى، فيه نوع من التجاوز، يتخلص من تشظيه الملموس داخل عالم البشر.
الانسجام صفة أساسية تلم شتات العوالم الأخرى، عوالم الطيور والحيوان، بينما يأتي التشظي والتدابر والتنافر جزئيات أساسية للوجود الإنساني. يعاين القارئ في هذه النصوص تشكيلات غائرة للذات والوجود، تصنع سمتها البسيط والهادئ الذي يحفر بعمق لا يخلو من قصدية، في اختيار الرمز الكاشف عن القلق والوجود الإنساني، فتوحّد – في ظل ذلك – بين الحياة والموت. فالموت في هذه النصوص ليس انتهاء أو خروجا من الحياة، لكنه استمرار وتجل مغاير لها، ومن ثمّ تتوالى الإشارات في النصوص الكاشفة عن الاستمرار بعد حدث الموت، سواء فيما يخص الأفراد، أو الإطارات التي يتمّ تشييدها باستمرار بعد انتهاء موجبات وجودها.
اللحظة الشعرية أو الزمنية داخل نصوص الديوان لحظة ثمينة جدا، لأنها ليست أحادية صاعدة أو متقدمة للأمام، بل تشكل بؤرة تجميعية للحظات متباينة زمنيا تتقافز وتتكوّم لحظة الكتابة، ويحدث حضورها وتفاعلها غنى وإضافة للنصوص. فالرصد أو المقاربة الشعرية في النصوص لحظة موزعة بين حركة وثبات. فاللحظة الشعرية لحظة انصهار لكل التواريخ والأزمنة التي تستدعيها، مجمّعة إياها وفق بنية شديدة الخصوصية. يجد القارئ نفسه داخل زمن آني متعامد مع الذات، لكنه زمن لا يخلو من الفجوات أو المفارقات، فهو زمن مثقوب بارتجاعات، وبناء إطارات متخيلة، تجعل الإمساك بلحظة واحدة محددة، فيه نوع من الصعوبة أو الاستحالة.

اللحظة الشعرية والمفارقات الزمنية

تستند اللحظة الشعرية على زمن متعدد، فالزمن ليس آنيا أو ماضيا أو مستقبلا، لكنه زمن منصهر سيال دائري، وقد توجهت النصوص في الديوان توجها كاشفا عن ذلك. في نص (أبعد من النسيان) يوجد اشتغال على مفهوم أو تجلّ خاص للزمن، لا يرتبط بالزمن التصاعدي المستقيم المشدود للأمام، لكنه زمن دائري، فيه الكثير من الارتجاع والاستباق، مما يجعله زمنا خاصا، حيث يبتعد عن الراهنية الآنية – وإن كان ينطلق منها – ليذهب إلى أغوار الماضي البعيد، ويسافر للمستقبل ليؤسس زمنا لم يتحقق بعد، بل ما زال في طور التكوين. يمرر النص فكرته من خلال بناء محكم، والوقوف عند أجيال متداخلة غير منفصلة، تستدعي وجودا دائريا من الانفتاح على الأجيال الأربعة، وهي على الترتيب (الفتاة أو الذات صاحبة السرد وشقيقتها) ثم جيل أمهما، وجيل جدتهما، وجيل ابنيها الذي ما زال في طور التكوين.
هي لحظة الشعر أو لحظة الذاكرة التي تكوّم اللحظات المتباينة، وتصنع لها سياقا يكيّف وجودها الفني، من خلال المرآة التي تخلط اللحظات، وتزلزل الآني بانفتاحها على الماضي: (أنظر في المرآة/ أرى وجه أمي يقول لي/ من أنت يا فتاة/ ملامحك أعرفها تقريبا؟). وإذا كان الزمن دائريا يخلخل الأحادية المستقيمة، فإن هناك وجودا يظل حاضرا للموتى، فالموت ليس انتهاء، بل يتعاظم على هذا الاختفاء العيني الملموس، ثمة وجود حي يظل متحركا، نصنعه بالحلم أو بالارتداد، أو من خلال الوسيط (المرآة) الذي يكشف ملامحنا، ويعريها، ويجذّرها من خلال التشابه في أزمنة سابقة أو لاحقة. وكلها – أي الحلم والذاكرة والمرآة – تؤسس تعاظما على أحادية الزمن الخطي، وتخلخله صانعة زمنا يحتوي على لحظات عديدة. وهذه اللحظات ضد الموت، لأنها قادرة على استحضار أصحابه، وجعلهم دافقين بالحياة والحضور.
وقد نجد في نصوص أخرى أننا أمام زمن يولّد وجودا جديدا مغايرا للوجود الواقعي، وهي فكرة قريبة من تأسيسات بول ريكور للزمن اللغوي أو النصي في مقابل الزمن الواقعي، على نحو ما يمكن أن نرى في نص (خفة تحتضن موتي) فهناك احتفاء بالغياب الذي يشير إلى وجود مغاير للوجود الواقعي، وتحولات دالة للوجود المادي إلى وجود جديد من خلال الحكايات أو كتابة الحكايات. الذات لحظة القراءة أو الكتابة ـ في منطق النص الشعري- تكتسب وجودا جديدا، وجودا لا يخلو من الخفة والارتفاع، يحتضن – كما جاء في العنوان – الموت، أي الوجود الواقعي الذي تفتت أو غُيّب تغييبا لحظيا، يقول النص: «لم يسألني أبي عن سرّ اختفائي كل ليلة… ويعرف/ أنني أذهب بالمساء إلى تلك/ الحكايات التي لا يعرف نهايتها/ أحد/ أعيد كتابتها/ لأستعيد بالحبر أصابعي/ أذهب بعري شجرة/ إلى تلك الحديقة/ أرسم لها وجها وجسدا/ بأطراف عديدة/ تحتضن ظلي/ وهو يغادر/ جسدي».
فالقارئ في النص أمام زمن لغوي أولا، ونصي ثانيا، يخلقان وجودا جديدا قائما على المفارقات الزمنية من محدودة إلى مطلقة أبدية، مشدودة للمتخيل، وللإطارات التي تصنعها الذات. وإذا كان الزمن في النصوص الشعرية زمنا نصيا أو شعريا، فإن الأداة الفاعلة في خرق التمدد الأحادي، وخلق المفارقات الزمنية تتمثل في فعل الذاكرة، حيث تحلّ بمنطقها الزمني، وبجزئياتها التي تغيّر وتهشّم الوجود الواقعي، لتنحت وجودا ينتمي إلى لحظات إنسانية وشعرية متجاورة. ففي نص (عصير الحب) تؤدي الذاكرة دورها في استعادة الماء والحنين والدموع، في لحظة تجلّ مغايرة للآني، وحين تطلّ هذه الجزئيات فاعلة يتجلى هذا التكوين من خلال يد الحبيب التي تمسح الرطوبة، والصوت الذي يذوب في الفم، ويمعن في حضوره بالجسد الذي يفقد بالتدريج اتصاله بالعالم الواقعي، ليؤسس اتصالا خاصا بفعل الذاكرة وسطوة المتخيل.
المفارقات الزمنية أو التحولات الشعرية مرتبطة بإطار ليلي، فهذه المفارقات تصنع حيّزها وفضاءها في كل النصوص أثناء الليل، لأنه أكثر قابلية واستجابة للأحلام، ولخلق العوالم والإطارات خروجا عن خطيّة الزمن وواقعيته. والنهار في الوجه المقابل يأتي ممثلا للحركة المنطقية والتجلي الواقعي، لا مجال فيه لصناعة أو لحركة المتخيل. في نص (صراخ المرايا) يأتي النهار يائسا، وكأنه في جنازة، ويشير النص إلى فيلم (ساعي البريد لن يدق الباب مرتين) وإلى بطليه (جاك نيكلسون) و(جيسيكا) وفي ذلك إسدال لفاعلية الواقع، وتغييب للمتخيل، وانتفاء القدرة على تحريكه إلى فضاء الأمل والانتظار.

الموت وجود مغاير

تشكيل الإطارات المتخيلة والحيوات الغائبة من خلال فعل المفارقات الزمنية، والاستقواء بوجودها، له أثر كبير، في تصوير ثيمة من أهم ثيمات النصوص الشعرية، وهي ثيمة الموت. فنصوص الديوان تشتغل في جزء كبير منها على فكرة الموت بوصفه ظاهرة وجودية ملموسة، وتطرح من خلال تجليها البنائي إشكاليات مرتبطة به، هل يمثل وجودا مغايرا للحياة أم يمثل استمرارا لها بشكل أو بآخر، فإسناد فعل التدخين إلى الموت في عنوان الديوان يؤسس لمشروعية جديدة، لا تجعله وجودا مغايرا يرتبط بالنهاية والانتهاء، بل يمثل استمرارا لها.
فالموت في الديوان حدث اعتيادي مثل أي حدث يلمّ بالإنسان، في سيره وفي مقاربته للحياة والوجود، يتجلى ذلك في نص (رعشة قلب)، حيث يأتي الموت هادئا بسيطا، مثل الطائر الذي يهوي بدلا من أن يطير، وهو موت خاص، لأنه يشير إلى موت القدرة على صناعة المتخيل. ويؤدي ضمير الغياب السردي دورا مهما في إيهام القارئ بالموضوعية، ويجذّر في الوقت ذاته فعل المراقبة والتأمل، ويأتي السفر/ الموت، ليجعل السؤال حتميا عن نوعية هذا الموت، هل موت لشخص مادي؟ أم لفكرة؟ أم لوجود دافق بالحياة في فترة سابقة، ولم تعد الحياة بالحلم أو الذاكرة قادرة على بث الحياة في أطرافه من جديد؟
وربما يشمل السؤال (الأم) التي جاءت في نهاية النص (وحدها أمه/ سترتعش في قبرها) ليؤسس نوعا من التماهي بين الحلم والحياة، وبين الأم صانعة الحلم وصاحبته وفقدها له، حيث يتولّد شعور بعدم القدرة على تشكيل حدوده وملامحه. فالموت الذي تؤسس له النصوص وجودا لافتا ليس الموت المادي، لكنه موت القدرة على إحداث الانسجام الجزئي، حتى في نصوصها عن الأب، لا يتشكل الأب وجودا ماديا، بل يتجلى في إطار فكرة الحماية التي يكفلها وجوده، أو أي رمز من الرموز الدالة على وجوده.
تنتهج نصوص الديوان مساحة إبداعية خاصة، مرتبطة بالبساطة المملوءة بالأفكار والمعرفة، فهناك ثقافة إبداعية وفلسفية، يمكن الوقوف عند الكثير من مصادرها. وهذه المعرفة مارست دورها الفني في طبيعة النظر إلى الأشياء، وطبيعة رصدها ومراقبتها، وفي طبيعة البناء اللغوي الذي لا مجال فيه للتزيد أو النقصان، فالمعرفة توجهنا نحو الهدوء والبطء وتبريد الإيقاع. وقد تجلى ذلك من فعل المراقبة الذي يحيل الموضوعي-والعكس أيضا- إلى ذاتي. فشعرية المراقبة تنفتح على العالم، وتقدم رصدا لجزئياته، وتصنع منه إطارا جديدا، ينطلق من المشابهة، ومن مكنونات داخلية شديدة الخصوصية.
القارئ لهذه النصوص يجد نفسه أمام شعرية تجيد الإنصات والإصغاء إلى العالم وظواهره، خالقة رموزها الخاصة بالأزمة الوجودية، بنهايتها المحتومة التي تتحايل عليها بصناعة إطارات الاستمرار والتواجد والفاعلية حتى في ظل الغياب الواقعي. تعتمد شعرية المراقبة على فكرة الاستبدالات الجاهزة، والتوازيات الصورية النابعة من التشابه في الرصد، كأن نجد في بعض النصوص ارتباطا بالمشابهة والتوازي الخاص بين الحواس، استبدالا للعين معادل الرؤية والإبصار والدمع، بالحنجرة معادل الصوت والكلام، للإشارة إلى حالة من الصمت تعتمد على التهتهة البابسة، كما في نص (ربع صوت) فهناك تنحية للعين، وإحلال الحنجرة مكانها، وسقوطها في الدموع، وفي ذلك تنضيد لمساحات من الصمت، ففي نص (دمعة حنجرة) يتأسس دال الصمت من خلال هذا الاستبدال بينهما (امرأة وحيدة ترتدي نحولها/ ظلّها على الجدار يتدلّى، سقطت حنجرتها في الدموع/ بعد صرخة أخيرة).
يتوقف القارئ أمام صور جزئية تؤسس مساحة لحضور الغائب، بالرغم من كل هذا الإغلاق الذي يفرض سطوته، فالنوافذ حين تضربها أغاني المطر تكشف عن نسق وأفق مغلق، وتوقف ضجيج الهواء يعلن مساحة مغلقة إلا من الصوت. في ظل هذا الإغلاق الواقعي المحكم، حيث لا يمكن السمح لشيء بالمرور يأتي النص الشعري كاشفا في السطر الأول عن مساحة لحضور الغائب، (مصابة أحلامي بك) ويؤكد الجزء الأخير من النص هذا الحضور النافذ من كل مصدّاته وعوائقه (كيف يصلني عطرك/ أيها البعيد/ والنسيم معتقل في قفل الباب).
فالنص يؤسس مساحة من الحضور المتخيل مقابل كل موجبات الغياب، ومساحة لقدرته على الانفلات والتشكل، فمن خلال آليات معهودة، يستقوي على الغياب الحادث والمؤسس، ويتعاظم على كل الإطارات الواقعية المغلقة، فالوجود أو الحضور المتخيل مثل العطر، قد لا نلمسه حقيقة مجسدة، لكننا نشعر بأثره وحضوره، فهو وجود مختزن داخلي ساكن، ومع ذلك لا يكفّ عن الفاعلية والتأثير.

ماري جليل: «الموت يدخن أيضاً»
الآن ناشرون، عمّان 2024
122 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية