الموضوعاتي والجمالي في الفن القصصي في مجموعة «دخان الرماد»

يعد العمل الإبداعي وعيا جماليا يبرز للوجود مدى تفرد الإنسان وتميُزه عن غيره، إذ يتعامل المبدع مع الكون تعاملا متميزا، وينظر إليه نظرة سامية تختلف عن نظرة الإنسان العادي. فليس الكون، في العملية الإبداعية، هو ذلك الفضاء الرحب الذي تتحرك فيه الأجسام الآدمية، وتتحقق المآرب والأغراض المادية، بل هو تجل لسمو الكائنات وعظمة الخالق. لأن مظاهر الكون وصوره هي – في المقام الأول – تجربة جدلية وجودية بين الظاهر والباطن، بين الوجود الحسي والحقيقة المجردة، تجربة علاقة ضرورية، وحدة من دون أن تكون هوية مطلقة، بتعبير هنري كوربان. ومن هذا المنطلق تروم هذه الورقة البحثية الكشف عن رؤية الكون للقاص المغربي محمد الشايب، وتتبع التداخل بين الموضوعاتي والجمالي في منجزه السردي الموسوم بـ»دخان الرماد».

فلسفة الرؤيا عند محمد الشايب

«دخان الرماد» مجموعة قصصية صادرة عن دار البوكيلي للنشر القنيطرة- المغرب سنة 2000 للقاص محمد الشايب، وتتضمن تسع قصص، هي على النحو الآتي: «حين زرت قبرك، الليلة الأخيرة، متاهات، ليلة لم تقبل الصفة، ما بعد الغروب، رحيل، تجليات الحنين، دخان الرماد، الصورة». وقد شكلت هذه القصص جميعها للكاتب فضاءً أرحب لاختيار عوالم السرد. وتجدر الإشارة إلى أن ما يميز المجموعة القصصية، هو الخيط الرابط الذي تنتظم فيه جميع القصص والمتمثل في عتبة العنوان «دخان الرماد»، الذي يدل على إخماد لهيب النار المتقد لإحراق شيء ما. ويوحي الاحتراق في الإبداع القصصي، بالنار التي تأكل الأغيار وتزيل الآثار، تنفجر عن التهابها العيون بالأنهار، وتحصد بوهجها جميع النبات والأشجار، حطبها الزيتون الأخضر، وحراقها اللوبان الأذكر، ورمادها المسك الأذفر وكيرها الذكر الأكبر، ضوؤها يذهب ضوء الشمس والقمر، ويسري بين النوم والسهر، أحجارها زمرد وياقوت. كما يذهب إلى ذلك الباحث محمد الظريف في كتابه «الحركة الصوفية وأثرها في أدب الصحراء المغربية». وما يعزز هذا الطرح قول السارد في قصة متاهات: «لقد حرق الزمن كل أحلامي الجميلة، وترجمها إلى رماد، وانتزع مني كل طموحاتي، فلم يعد لي مكان داخل هذا الوطن، الذي أعطيته الحب الطاهر، النظيف السامي».

ولعل هذا الحب الطاهر هو الذي جعل القاص يرغب في استشراف غد مشرق يقطع عبره مع الشعور بالاغتراب والتشظي، الذي تستشعره الذات في ظل واقع تسوده ظلمة حالكة. من هنا نجد المبدع يروم ترسيخ القيم النبيلة في الكون الفسيح، لأن منظومة القيم تعد مطلبا أساسا، كونها تمنح الأشياء طعما، وتمكن من البحث المستمر عن معنى الحياة، وتحقيق مثال المجتمع ونموذج الإنسان، واكتمال شخصيته واندماجه في المجتمع. وتزخر قصة «حين زرت قبرك» بجملة من القيم النبيلة التي تجسدها الصورة التالية: «وأنا آت إليك اختطفتني أفراس الذكرى، وجذبتني نوافذ الماضي، فرأيتك تجرين نحو الأخت التي كانت أول محطة للموت، وشاهدتك هنا وهناك، توزعين الحليب على الجيران، أو تحملين وجبة الغذاء لفقيه المسجد، أو تسقين العطشى في الحقول والأجران، مشيت في سراديب الذكرى، وولجت فجاج الماضي، فانفتحت الأبواب الموصدة، ووجدتك جالسة تلبسين العيد وشاحا… هربت نحوك محاولا الانفلات من كآبتي، وسقطت في حضنك، فأمطرتني حناياك بالود والحب، واحتضنت حمقي وصمتي وعريي الأبيض… نمت تحت فيئك هنيهات» تمثل القيم، الواردة في هذا المقطع السردي، دعامات جوهرية تقوم عليها عملية التفاعل الاجتماعي، فهي تتغلغل في حياة الناس، أفرادا وجماعات، بدوافع السلوك والآمال والأهداف، كما تزود الأفراد بتصورات المجتمع ومعاييره وأنماط سلوكه.

 يضع  الشايب مجموعة من الافتراضات التي تكشف عن عالمه الداخلي، ليضعها في ذهن المتلقي، فإنه يحاكي الأشياء ليتأملها. وهذا يعني أن رؤية الكون، قد تشير في لغتها إلى المجاز والاستعارة والرمز.

القاص محمد الشايب، يضع مجموعة من الافتراضات التي تكشف عن عالمه الداخلي، ليضعها في ذهن المتلقي، فإنه يحاكي الأشياء ليتأملها. وهذا يعني أن رؤية الكون، قد تشير في لغتها إلى المجاز والاستعارة والرمز، كما يشير إلى ذلك محيي الدين صبحي في كتابه «الرؤيا في شعر البياتي»، ومعنى هذا أن الرؤيا تكون متلفعة بالغموض والتأويل، فهي نوع من التجلي المفاجئ الذي يتوشح بالنقائض الظاهرة والباطنة، فتغدو تجربة المبدع، عندئذ، ضربا من الخيال المستتر في الذات. وهذا ما يتضح بجلاء في قصة «متاهات» التي تفصح عن التمسك بالمبادئ النبيلة: «زفر زفيرا طويلا، حرك رأسه، ثم قال وهو ماسك سيجارته بين وسطى وسبابة يده اليمنى: «تعرفين جيدا أنني لست من هؤلاء، وأنني دفعت ثمنا باهظا مقابل مبادئي الشريفة، لكن هذا الزمن الكئيب أرغمني على الوقوف هنا، أعترف بأنني، الآن، أتملص من رحلة أمضيت التزاما بمواصلتها حتى الموت، لكن صدقيني لست المذنب الأول».
من هنا يتضح أن الكاتب يستشرف رؤيا جديدة للكون، وهذا المنظور الوجودي القائم على مجازفة وجودية هو ما يشكل سمات الذات التي تُنْتِجُ إبداعا بمواصفات جمالية متميزة، لأن التقاطع بين الموضوعاتي والرمزي الجمالي هو ما يميز «دخان الرماد» للقاص محمد الشايب، الذي يسعى إلى التعبير عن الانهيار القيمي الذي يهيمن على المجتمعات في العصر الراهن.

سحر الإبداع في «دخان الرماد»

نجد القاص، في متن الدراسة، ينفذ عبر العالم المادي، ليتخطاه ويمتلك أسراره ويجسده بالصورة، فينفلت من شِراك الواقع وعوائق المادة لمعانقة المطلق عن طريق الكشف الرمزي، كون فلسفة الرؤيا ترتبط ارتباطا وثيقا بين المرئي واللامرئي، بين الواقع والحلم. إنها قوة انسلاخ وطاقة كشف وأداة معرفة تخييلية تعارض المعرفة العقلية والتجريبية. لأن الرؤيا زاخرة بسحر الإبداع التي يتعاضد فيها الموضوعاتي بالرمزي والجمالي وبالتعارض والشمولية. ومن النماذج التي تعبر عن رؤيا القاص نلفي الإفصاح عن ثيمة الألم/ الحزن التي شكلت أهمية بالغة داخل «دخان الرماد»، سواء تعلق الأمر بالألم المادي أو النفسي، ويتعالق هذا الموضوع بجملة من الموضوعات كالشكوى والحرق والحيرة والتيه والبكاء. يقول القاص معبرا عن معاناة الطلبة مع الكدح والفقر في قصة الليلة الأخيرة: «عبد السلام من القلائل الذين فتحت لهم مريم حناياها، فأطلعته على بعض حكاياتها مع الكدح والردى، وليالي الغربة الطويلة: «كنت دائما غريبة، أحس بالغربة حيثما وجدت، وأينما سرت… طويت طفولتي البائسة بدون أن أعيشها، اختطفني الهم مبكرا، فغرقت في محيطه، حاولت الخروج مرارا، وأنا أسبح في اتجاه شاطئ النجاة، لكن العباب كان دائما عاليا، ودائما في ذروة هيجانه».
تنضح لغة هذا المقطع السردي بالألم الذي يعد مكونا رئيسا من مكونات «دخان الرماد» وأشد أصناف الألم الإحساس بالتيه والضياع، حيث يغدو كل تأمل في مظاهر الكون تعويضا لغياب مؤلم، أو إفصاحا عن معاناة ذات المبدع من ألم وشجن يجسده المقطع الآتي من قصة «حين زرت قبرك»: «السبيل ما زال كما تركته سيدتي… فقط أنه زاد تكدسا بأطفال مفقودين دوما في التيه، منهم من يبيع السجائر بالتقسيط، ومنهم من يبحث عن أحذية يمسحها، وبباعة من الجنسين يجلسون على الرصيف يعرضون مواد «الكونتربوند» للبيع، ثم بعاهرات يجلسن كل مساء عارضات أنوثتهن». حتى يصح أن نقول: «إن الألم قوام الحياة»، تماشيا مع رأي فريديريك نيتشه الرامي إلى كون «الألم قوام الحياة، ولا يعرف الحياة من لا يعرف الألم».
اعتمادا على ما سبق ذكره، نستشف أن رسالة «دخان الرماد» للقاص محمد الشايب متولدة عن التفاعل بين الكاتب والمتلقي، وعبر هذه الرسالة يتم استكناه الدلالات والمقاصد، هي محاولة استبطان البنية الرمزية للعالم، والنفاذ إلى حقائق الأشياء واختراقها باعتبارها حجبا نحو حقائق أخرى. ولأن ماهية الإبداع لا تُفهم إلا من خلال فك رموز اللغة وإدراك أصولها، فإن الإبداع القصصي عملة أصيلة توحد بين الجمالي والموضوعاتي، بين اللغة الرمزية وصوت الشعب. ومن ثمة، فإن اللغة الرمزية تتميز بالروعة والقدرة على تمثيل الأشياء وتصويرها تصويرا خياليا عن طريق التمازج بين التجربة الداخلية وبين التجارب الخارجية للإنسان عامة. الأمر الذي جعل «دخان الرماد» توحي بعوالم خيالية تتألف من عناصر مستخلصة من تجربتنا للعالم الحقيقي.

٭ كاتب من المغرب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية