الموقف الأخلاقي في حدود العقل العملي

هناك أكثر من تعريف للعقل العملي. ثمة من لا يفرق بين العقل النظري والعقل العملي. وعنده أن العقل واحد، هو مبدأ الإدراك، يسمى بالعقل النظري إذا كانت الغاية من إدراك الشيء معرفته، كإدراك حقائق الوجود. وإذا كان هدف الإدراك العمل، فيسمى بالعقل العملي. في مقابل من يعتقد أن التفاوت بين العقل النظري والعقل العملي تفاوت جوهري، وفي طبيعة الأداء الوظيفي لكل منهما. فيبقى العقل النظري مبدأ للإدراك، والعقل العملي مبدأ للدوافع والمحفزات. وقد نسب هذا القول لابن سينا. أما المتداول في تعريفه: «العقل العملي باصطلاح المناطقة هو ما يعبر عنه بالحسن والقبح عند المتكلمين، والمعبر عنه بالخير والشر عند الفلاسفة، والمعبر عنه بالفضيلة والرذيلة في اصطلاح علماء الأخلاق». وعرفه محمد باقر الصدر في كتابه «دروس في علم الأصول»: «العقل للعملي هو إدراك ما ينبغي أو ما لا ينبغي أن يقع). ويمكن تعريفه: العقل العملي «مبدأ إدراك ماذا يجب أن أفعل؟». وذلك عندما تواجه موقفا عمليا، كالكذب في حالات الخوف والضرورة، هل يجب أن أكذب أم يجب أن لا أكذب؟ بهذا لا يقتصر العقل العملي على إدراك الحسن والقبح، بل إدراك ماذا يجب أن أفعله. في الحالة الأولى يقتصر دوره على التشخيص، بينما في الحالة الثانية العقل ينشئ حكم الوجوب أو النهي، ودافعا للإتيان به أو الامتناع عنه. فالتحفيز على الفعل أو الترك لازم لإدراك العقل العملي. ويكون إدراكه نفسه محفزا ومحركا نحو الفعل أو الترك بذاته، دون توسيط مقدمة خارجية. وبالتالي إن المراد بالعقل الأخلاقي: عقل كوني (بوصف كانط) ومشترك إنساني، غير مرتهن لأي حكم مسبق ما عدا مبادئه. يمكن الاحتكام له لتحديد صدقية الفعل الأخلاقي. وهو معيار لتسوية الآراء المختلفة، يميز بين الخطأ والصواب، والخير والشر، والقبح والحسن. وبهذا سيكون العقل العملي معيارا وفقا لمحمد عابد الجابري: (العقل معيار يمكن الإنسان من التمييز بين الصواب والخطأ على صعيد المعرفة، وبين الخير والشر على صعيد الأخلاق، وبين الحسن والقبح على صعيد الفن والجمال).

فهو مبدأ للإدراك والتمييز والإلزام. مؤهل ذاتا للحكم، أحكامه ملزمة دون توسط مقدمات خارجية. عكسا للعقل النظري الذي لا يستوجب من إدراكه للواقع التحرك العملي، كإدراك العقل لوجود الله لا يستلزم أثرا عمليا دون توسط مقدمة.. فيمكنك الاكتفاء بإدراك العقل.. لكنه إدراك نظري لا يستتبع عملا. بينما تستلزم مدركات العقل العملي التحرك للإتيان أو عدم الإتيان بالفعل. لذا فإن «ما حكم به العقل حكم به الشرع» وفقا للقاعدة المعروفة لديهم في أصول الفقه. فالعقل العملي يستتبع العمل. وبهذا يكون المرء أمام أحكام العقل العملي مباشرة. ويكون مسؤولا عن سلوكه وتصرفاته، أمام ضميره الإنساني، بمعنى أدق سوف لن يكون الدين وتشريعاته مبررا لسلوكه المخالف لأحكام العقل العملي كالظلم والعدوان.
هذا هو الأصل في أحكام العقل العملي، وهذا هو الأصل في موقف الإنسان من العدل والظلم، لا يمكنه تبرير سلوكه تحت أي ذريعة، بهذا نفهم أن السلوكيات المنحرفة المحكومة بالظلم والعدوان، لا يمكن لأحد تبريرها، مهما رفعت من شعارات دينية وطائفية، ومن أي شخص أو جهة صدرت. بهذا انتهينا إلى نتيجة مهمة: «بموجب مدركات العقل العملي القادر على تمييز الخير من الشر، والحسن والقبح والعدل من الظلم، يكون الفرد مسؤولا عن سلوكه مباشرة، وهو لازم استقلالية الأخلاق عن الشريعة». بينما من السهل على من يرى تبعية الأخلاق للشريعة تبرير سلوكياته مهما كانت مجافية للعدل والإحسان، وقد ينقلب الفعل اللاأخلاقي إلى فعل أخلاقي، وتختل الموازين الإنسانية وتضيع الحقوق وتهدر حيثيات الناس. وعليه تكون الأحكام الأخلاقية في القرآن إرشادية لأحكام العقل العملي. وما حكم به العقل حكم به الشرع. فتكون الأولوية للعقل والأخلاق في حالات التعارض بين العقل والشرع، ولا يمكن التشبث بالشريعة لتبرير أي عمل لا أخلاقي. ومن باب أولى عدم الاحتجاج بفتاوى الفقهاء، خاصة مع تعدد الآراء الفقهية والأصولية والرؤية الكونية، بل حتى النصوص الصريحة لا يمكن الاستدلال بها، كقتل المعارض، ما دامت خاضعة لشروطها التاريخية، وعدم ضمان فعلية أحكامها. وعليه لا يحق لأي شخص اقتراف جريمة قتل تحت أي ذريعة أو حكم شرعي. ما لم يكن بالحق، كالقصاص العادل، وعلى يد سلطة قضائية مشروعة، وعدم تنازل أولياء الدم عن حقوقهم. بينما غدا القتل ممارسة يومية لدى الحركات الدينية المتطرفة، وجميعها يرفع شعارات دينية وقرآنية.

باحث عراقي مقيم في استراليا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتور شاكر عبد الرزاق:

    يبدو أنه لم يعد هناك أي اعتبار للقارئات وللقراء المساكين وخاصة ذوي العقول المتعطشة للمعرفة فيما نراه من خلط عبثي سافر بين مفاهيم العقل العملي وتوصيفات مبدأ الإدراك وما إلى ذلك من قضايا فلسفية اقترانية لا يفلح في شرحها إلا المتخصصون والراسخون في العلم: باختصار شديد، ودون التطرق إلى ما سوف يهز الأبدان حقيقة، أرثي لحال هؤلاء القارئات والقراء بالفعل !!

  2. يقول قصي عسكر:

    تشدني مؤلفات الكاتب الاستاذ جمال الغرباوي فهو ينطلق دوما من اعتبارات منطقية ضمن وجهة نظر موضوعية تتجاوز الانحياز القومي والديني الضيق فهو يعالج مشاكلنا وتطالعاتنا وطموحنا نحو الكمال بموقف الطبيب الجراح الذي لايهمه شكل المريض او لونه ام دينه بل هدفه تشخيص المرض إيجاد الدواء الناجع له فإن لم يجد علاجا لجا الى عقله لعلاج الحالة واللجوء الى العقل يعني تحريك قابلية الاكتشاف والأتراك والتجديد فينا. ماجد الغرباوي لا يلغي تجارب السابقين لنا او يتجاهلني بل يثبت الصحبح الذي فيها ليستفيد منه ويطالبنا ان نبعد عنا السلبي
    قصيعسكر

اشترك في قائمتنا البريدية