لا يمكن أن نتخيّل عالما من غير نداء، ولا لغة لا توفّر لأهلها أشكال النداء. النّداء في أصله الطبيعي أصوات مبهمة يطلقها شخص من أجل أن يُثير انتباه شخص آخر كي يقبل عليه. جين أناديك فأقول: يا أو أيا أو أ.. وهذه حروف النداء في العربية الفصحى، وليست الوحيدة فهم يجيزون غيرها في سياقات مخصوصة من النداء، كالتفجع والندبة وغيرها، فيبدلون الهمزة واوا ليقول وا.. ومن الممكن أن يستعملوا الهاء في النداء، وهذه توليفات لغوية لهجية جمعتها العربية الفصيحة. ما يغلب على النداء، فضلا عن اختيار أصوات يمكن أن تمتد وتتسع وتسمع هو المدّ. هناك في الأصوات أصوات تجمّل من يلقيها وحروف حين نلقيها تجمّل أصواتنا أكثر من غيرها. كان من الممكن أن يختار المتكلمون من العرب أصواتا أخرى للنداء تصوّروا أن المتكلمين اختاروا أصوات الإطباق، وهي الصاد والضاد والطاء والظاء، تصوّروا أن أوّل من نادى مدّ فتحة الصاد فقال: صا أو مدّ فتحة الطاء.. فقال طاء.. سوف يكون هناك شعور بالثقل في صوته، حين ينجز ذلك النداء هو ثقل على جهاز نطق من ينادي، وثقل على جهاز سماع من يسمع. لكنّ للياء وقعا فنّيّا، لم نعد نتبيّنه من فرط أدائنا له؛ فمن صفاته الجهر، وهذا ما يجعله مسموعا أكثر، والرخاوة وهذا يجعله قابلا للجريان لضعف الاعتماد عليه في المخرج، وهو حرف مستفل ينخفض عند أدائه اللسان فهو سمة غالبة على الحرف، أمّا الانفتاح وهي صفة في الياء أيضا فتعني أن هناك انفتاحا ما بين اللسان والحنك الأعلى، وأخيرا فإنّ من سمات الحرف الإصمات، وهو ثقل النطق بالصوت.
من خلال هذه الصفات فإنّ الياء ينبغي أن يكون صوتا مثاليا لأداء النداء، الذي يقتضي التصويت لإسماع المنادى والإقبال عليه. حزمة حروف النداء التي تؤديه في العربية الفصحى لها من الصفات ما يجعلها تقبل هذا الدور فيها، إذ فيها ثلاثة من الشروط: أولها الإسماع الأقصى ونعني به أن يصل الصوت، بما هو أداة تنبيه إلى المستمع الذي يكون في حيّز المنادي. والإسماع الأقصى لا يتطلب رفع الصوت فقط، بل يتطلب أن يكون الصوت المرفوع قابلا لأن يسمع وينجح في الوصول إلى أذن المستمع. وثاني الشروط بعد المدى: وهو القدرة على إطالة الصوت الذي عليه ارتكاز النداء، سواء أكانت الياء أو الهمزة أو الهاء، ونعني به الحركة الطويلة. والشرط الثالث هو الانتشارية: إذ يفترض من المنادي أن يكون بعيدا في المسافة عمن يناديه وهذا شرط فيزيائي مهمّ في جعل الصوت يقبل الانتشار. الانتشارية هي أن يرسل الصوت في كلّ أرجاء المكان كي يصل إلى أذن المستمع. لكنّ نداء الصوت ليس شبيها بالرماية بأن تحدّد مكان من تناديه وترميه بصوتك لكي يصل إليه؛ بل المنادي هو شخص عليه وهو يطلق صوته أن يرمي بذلك الصوت في جميع الاتجاهات اتفاقا ليلقى أذن من تناديه. لكنّه وهو في هذه الحالة سوف تكون مرماه لا أذن واحدة بالضرورة، بل الآذان الكثيرة ولذلك يكون المنادى موسوما باسم علم أو بصفة أو بغيرها، لينماز من غيره. بيد أن النداء يمكن أن يفشل في الوصول إلى المنادى وسوف يكون ذلك المنادى في منجاة من النداء.
نحن نفترض أن النداء قد يكون فرصة حين يناديك من تتمنى أن يناديك لكي يشاركك المجلس، أو الحديث، لكنّ النداء يمكن أن يكون نتيجة لورطة حين يناديك من يناديك كي تنقذه من خطر داهم فجئي أو منتظر. نحن نؤيّد من يفترض أن النداء تعبير بدائيّ كان كالتصويت نتيجة لانفعال شعر به المنادي يمكن أن يكون لخطر داهم. وفي مرحلة متطورة بات النداء معبرا عن طقس من الطقوس فبدلا من أن ينادي المرء غيره من نوعه، بات قادرا على أن ينادي كيانا مجردا يعتقد أن له القدرة أكثر على الإغاثة.
في قوله تعالى (وقال الرسول: يَا رَبِّ أن قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذا القرآن مهجورا) [30 الفرقان]. فإنّ في النداء شعورا بالوقوع في خطر؛ إذ ليس أفدح من رسول لا يجد آذانا تصغي إلى الرسالة التي هي كلام الله إليهم. فالخطوة الأولى التي تجعل من الرسول رسولا، أن يلقي الرسالة إلى أصحابها، فهذه درجة أولى من درجات الإسماع التي هي ضرورية في الإقناع بالرسالة ومضمونها. نداء الربّ هو ضرب من الاستعانة للخروج من الورطة وهذا يعني أن يتمّ الله عونه الذي هو شكل من أشكال القهرية التي هي أعلى درجة من التورط. حين لا ينادي الرسول ربّه في هذا السياق يعني أنّه يكون قد نجح في أن يكون في تبليغ رسالته بلا عائق، أمّا وقد شعر بشيء من التعثر فلا بدّ أن ينادي ربه ليستمد عونه منه. الورطة المولدة للنداء هي معنى أصلي من المعاني التي لأجلها كان النداء. حين يناديني طفلي الصغير، أنا الذي ابتعدت عنه يعني أنّه شعر بالخطر فإن لم يفعل فإنّه يشعر بأنّه لا يحتاجني في تلك الوضعية فلا يظنّ أنّه في ورطة.
وسأكون أنا المنشغل عنه بحديث مهم مع أمّه مثلا، ناجيا من خوفه ومن شعوره بأنّه يحتاجني ولو وقتيا. النجاة من النداء أي النجاة من طلب الغوث فيها أحوال كثيرة من أهمّها، أن المنادي يمكن أن يكون في منجاة ممّا يوجبه تلبية النداء: الجهد الإضافي في الإنقاذ، أو الذود أو الحماية، وحتى مقاسمة حكايات المنادِي. والنجاة من النداء يمكن أن تكون بسبب غياب المنادى بالسفر الذي يكون الموت أقساه: قال بشار بن برد: (لقد أسْمَعْتَ لوْ ناديْتَ حَيّاً // لكنْ لا حياةَ لمنْ تُنَادِي). الموت شكل من أشكال نجاة المنادَى من إتعاب المنادي له غوثا وتأمينا وحماية.. لكنّ الإنسان كائن لغوي ذكيّ ولذلك صنع النداء لمن لا يسمعه أيضا؛ لمن لا يستجيب لندائه لمن كان ناجيا من تلبية النداء وسماعه. ينادي الإنسان البحر والليل والمطر والبرق وكل عناصر الطبيعة، وأكثر ما نودي ونجا من النداء الليل حتى باتت مناداته موالا من المواويل التي أحزنت مطربيها وسامعيها وشعراءها: يقول الشاعر: (يا ليل طل أو لا تطل/ لا بد لي أن أسهرك// لو بات عندي قمري / ما بت أرعى قمرك) في كون الأشياء البسيطة نجا الليل من النداء، لذلك سيكون زمانا عاديا لا يستجيب، لكنّ الكلام ناداه وأباح ما لا يبيحه الواقع. يمضي المنادِي في إنجاح النداء وكأنّه شيء مقرر ومسموع.
يقول اللسانيون التداوليّون، إن الغرض من النداء ليس أن يستجيب المنادى لمن ناداه، وإنما المقصود أن يدخل معه في تفاعل لفظي بالخطاب. بناء على ذلك بات من الممكن في نطاق التفاعل بالخطاب، أن ننادي من لا يستجيب أن ننادي ذاتا إلهية متعالية أن ننادي ميتا من موتانا الذي فارقنا ونجا من توريط الحياة له في غوثنا. ورغم ذلك نستمر في أن ننادي هذه الأطراف التي نجت من ندائنا، لأنّا نطلب منها فقط أن وجها رمزيا يسمح لنا بأن نتفاعل معها بالخطاب، في عالم ممكن غير العالم الذي لم يعد ممكنا.
إنّ الضامن لنجاح النداء ليس الحرف ولا الأسلوب، بل الرغبة في التفاعل اللفظي أو ما يسميه أوركيوني التزامن التفاعلي. التزامن التفاعلي لا يعني أن تكون في حيز ندائي لتسمعني وتقبل عليّ، بل أن أتصوّر أنا ذلك وأبني خطابي وكأنّك موجود فيه ومزامن في حضورك لأدائي له؛ وما التزامن عندي إلا صورة أو تصوّر لتفاعلك معي، أمّا من جهة وجودك في الحياة وسماعك لانتشار صوتي وهو يناديك فتلك مسألة تخص الواقع ولا تخصّ بناء الوضعية في الواقع بالكلام.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
تحليل عميق وقراءة ثاقبة ثريّة ومفيدة جدّا