ما الذي يمكن أن يحدث حين يجلس أفراد من مجتمعات متصارعة في غرفة واحدة؟ وفيما يجرى الصراع في مكان بعيد، ما الذي يحدث لسرديات الطرفين، حين يسمع أصحابها قصة الطرف الآخر، نسخته الخاصة من الأحداث؟ ما الذي سيحدث للضغائن التاريخية والحاضرة ولقصص البطولة والمظلومية واللقاء اللوم؟ هل سيختار المتحاورون الحقيقة أم انتماءهم الجمعي وهويتهم الوطنية؟ هل للحوار على المستوى الشعبي أن يساعد على نبذ تنميطات الآخر والقبول بالعدو وأنسنته، وينتهي بالسلام؟
في كتابها «النجاة من القصة: فخ السردية في إسرائيل وفلسطين»، تسعى روزماري هوليس، أستاذة دراسات الشرق الأوسط السياسية، للإجابة عن تلك الأسئلة. يتناول الكتاب برنامج «شجرة الزيتون» للمنح الدراسية، الذي استضافته جامعة سيتي في لندن بين عامي 2004 و2016، والذي تولت إدارته هوليس نفسها من عام 2008 وحتى نهايته. تأسس البرنامج في سياق جهود المؤسسات المحلية والدولية، للبناء على اتفاق أوسلو للسلام، ومحاولة دفعة على المستوى الشعبي، بغية التأثير على القادة السياسيين من الطرفين. قدم البرنامج منحا للحصول على المؤهل الجامعي في جامعة سيتي في لندن لطلبة من فلسطين وإسرائيل، وكانت مسوغات التقدم تشترط مشاركة المقبولين في المنحة، في برنامج للحوار بين الطلبة من الطرفين بشكل أسبوعي، ولمدة ثلاث سنوات دراسية، هي طول فترة المنحة.
تقدم هوليس نقدا لفرضيات نظرية «تأثير التواصل» التي تأسس عليها مشروع «شجرة الزيتون» وما يشبهها من برامج للحوار الشعبي في مناطق الصراع، فالافتراض بأن حوارا وجها لوجه بين أفراد بلا سلطة سياسية من مجتمعات صراع، سيقود إلى درجة ولو مبدئية من القبول بالطرف الآخر، ومراجعة القناعات الذاتية تبدو مبالغة في حسن نيتها، وأيضا مناقضة للمشاهدات في الواقع. ففرضية «تأثير التواصل» تحتمل الكثير من الصحة في سياق مفاوضات السلام بين الوفود الرسمية، أو الجهود الدبلوماسية السرية من «الدرجة الثانية» التي يشارك بها أفراد، ليس لهم صفة رسمية، لكن لهم تأثير على الدوائر السياسية أو صلة بها. لكن ما تشير إليه هوليس هو إن مطالبة أفراد بلا أي قدرة على التأثير في القرار السياسي للجلوس مع العدو لا يقود الطرفين إلا للمزيد من التعنت في مواقعهم، فلا معنى أو دافع كاف لتقديم التنازلات إن كانت بلا فائدة أو تبعات.
استلهمت تغييرات هوليس على البرنامج منطلقات الحركة السردية في علم النفس والعلوم الاجتماعية، فالقصة عن الصراع لا تعد مجرد قصة، بل تقوم بتعميقه وتجعله ممكنا.
وحتى إن حدث تغيير نسبي في المواقف، فلن يقود ذلك إلا لمزيد من خيبة الأمل والغضب، حيث لا يتغير شيء على أرض الواقع. أما في ما يخص فرضية أن تغيير مواقف وقناعات عدد من الأفراد سيكون كفيلا مع الوقت بإحداث تغيير مجتمعي مؤثر، فلا يمكن إثبات صحتها إحصائيا، فعدد المشاركين في برامج الحوار المماثلة يبدو محدودا جدا وهامشيا بالنسبة لعدد السكان الإجمالي، بحيث يمكن تجاهله بالكامل. ما يتم إنكاره أيضا هو الاختلال في موازين القوى بين الطرفين، فالصعوبات التي سيواجهها مشارك فلسطيني للوصول إلى مكان عقد مثل تلك اللقاءات، المهانة على الحواجز، الحصول على التصريحات اللازمة من سلطة الاحتلال ومن غيرها، اتهام أقرانه له بالتطبيع، واقع القمع اليومي والمعاناة، كل هذا لن يتيح أي أرضية مشتركة أو عادلة لحوار من أي نوع. ما تعيده فصول الكتاب أن لقاءات من ذلك النوع، لن تزيل أسباب الاختلاف والبغض، بل ستقوم بتعميقهما.
يسجل «النجاة من القصة» التعديلات التي قامت بها هوليس على أهداف البرنامج وبنيته أيضا، فالهدف لم يعد الوصول إلى توافق بين الأطراف أو حل من أي نوع، بشكل ضمني تم القبول بالصراع كواقع طبيعي. في المقابل أضحى الهدف تعليميا للمشاركين، وبحثيا يهدف لفهم الطرق التي ينخرط بيها الأفراد والجماعات في طرح سرديتهم الوطنية والاشتباك مع سردية الآخر العدو حول الصراع.
استلهمت تغييرات هوليس على البرنامج منطلقات الحركة السردية في علم النفس والعلوم الاجتماعية، فالقصة عن الصراع لا تعد مجرد قصة، بل تقوم بتعميقه وتجعله ممكنا. فالسرديات الجماعية هي، قصص أو تفسيرات تعتمد على الذاكرة الجماعية والخبرات التاريخية والنصوص والأساطير، التي يمكن أن تستخرج من الأفراد قيما ومعاني. وفي ذلك السياق يخلص بحث هوليــــــس إلى ما تدعـــــوه «فخ السردية»، الذي تنحبس فيه أطراف الصراع من الطرفين، فالطبيعة المزدوجة لسردية الصراع تجعل تعريف الذات والهوية دائما في مقابل الآخر، بنزع الإنسانية عنه وشيطنته. ولا يعني هذا أن تلك السرديات مختلقة بالكامل، بل على العكس، تشير دائما إلى وقائع تاريخية، لكن تفسيرات تلك الأحداث تبدو دائما غير موضوعية وانتقائية.
عبر سبعة فصول، يكشف لنا الكتاب عن سرديتين متوازيتين، تعتمدان الواحدة منهما على الأخرى، وتؤطران الهوية الجماعية لطرف على أساس العداء للآخر، بحيث تصبح مراجعة تلك السردية أو نقدها تهديدا للفرد بفقدان جماعته ونبذها من داخلها. لذا يبدو كل طرف مصرا على أن مسؤولية الطرف الآخر عن التغييرات اللازمة لحل الصراع، لكن ومع تلك النتائج غير المتفائلة، فإن هوليس تصل في خاتمة كتابها إلى أن حوارا بين الأطراف المتصارعة تحت ظروف مواتية يسمح بتفهم أعمق للصراع وتفاصيله بدون التخلي عن هوياتهم الوطنية، أي بدون تعارض بين تناول نقدي لسرديتهم الجماعية وانتمائهم. وتبدو الرسالة الأكثر وضوحا من مشروع «شجرة الزيتون» أن مبادرات حوار على مستوى القاعدة بدون إرادة سياسية للسلام من القيادات السياسية لا يتوقع منها أي نتيجة إيجابية بخصوص حل الصراع، والأهم إن التعامل مع أي مواجهة مثل هذه بين الأعداء لا يتعلق بالضرورة بالواقع والحقائق، بل بالأحرى بالقصص والأساطير والسرديات عنها.
٭ كاتب مصري